عادت لشرودها من جديد، هي لا تتذكر أنه أخبرها عن حالته الإجتماعية، ولا تتذكر كذلك أنها رأت معه امرأة ترافقه، كذلك لايوجد خاتم في يده، نفضت تلك الأفكار سريعاً ووبخت نفسها قائلة : وانتي مالك انتي، أنا هقوم أصلي أحسن ..
*******
كان يعد نفسه جيداً لمحاضرات اليوم التالي، هو لا يحب أن يباغته أحد الطلبة بسؤال لايعرف له إجابة، بدأ بمحاضرات فرقته الأولى، فرقة ملاذ، تخيل نفسه وهو يقف يشرح أمامها، يصعب عليه كثيراً أن يتلبس الشخصية الرسمية في حضرتها بعد أن سبق وتجرد منها أمامها، ابتسم تلقائياً، كل ما يعرفه عن نفسه أنه شعر بالسعادة عندما التقى بها في المصيف وتكررت سعادته عندما التقاها اليوم، لكنه كان يتعامل معها على أنها ربما صديقة وتحدث معها بمنتهى الطلاقة، كيف الآن يستطيع أن يعاملها على أنها طالبة ويضع بينهما آلاف الحدود، سيحاول ذلك، بالنهاية لا يصح أن يتجاوز معها بالكلام ...
كان لايزال جالساً في غرفة مكتبه، سمع طرقات خفيفة علي الباب ثم دخلت برشاقة فتاة جميلة ترتدي ملابس عصرية بعض الشيء تاركة لشعرها الطويل العنان علي كتفيها، نظر إليها أدهم غاضباً، لطالما كره ملابسها الضيقة مثلما كره مطارداتها له في كل مكان.
_قولتلك ألف مرة يا رنا متدخليش مكتبي.
تقدمت منه أكثر، دون اكتراث بنظراته المستنفرة، وحاجباه الذين انعقدا رفضاً لتقدمها أكثر.
قالت بعد أن توقفت أخيراً: انتا ليه بتعاملني كدة؟ حتى مش صابر تسمع أنا عاوزة أقولك ايه.
_ومش عاوز اسمع، رنا انتي بالنسبالي بنت خالتي وبس فياريت تقتنعي انتي ومامتك بكدة.
تأففت ثم استدارت لتخرج لكنها نظرت له مبتسمة وقالت: بكره قلبك يلين ي دومي.
زفر بضيق فور خروجها، هو لم يتمن يوماً ان يكره زيارة خالته لهم ولكنه صار يفعل بسبب افعال ابنتها معه، رغم ان عمرها 25 عامًا إلا أنها تتصرف كالنساء الخبيرات في اجتذاب الرجال ولا شك لديه من أن كل هذا تأثير والدتها عليها...
*******
في اليوم التالي في الجامعة...
جلست ملاذ على المقعد الأول وأخرجت أدواتها ثم هاتفها النقال وفتحت مسجل الصوت لتسجيل المحاضرة لكن دكتور أدهم لم يأتي بعد، أرادت أن تستغل هذه الفرصة لتتعرف عمن حولها وتكون صداقات، نعم هي أكبرهم عمراً ولكنها لن تمضي سنوات الجامعة هكذا وحيدة، استدارت خلفها، فهي كانت الوحيدة التي تجلس في المقعد الأول، رأت فتاه منهمكة في كراستها لا يظهر من وجهها شيء..
_ احم، بتعملي اي يا جميل؟
نظرت إليها الفتاه مبتسمة، كانت بملامح هادئة ووجه أبيض يزينه بعض النمش الخفيف وعينان سوداوتان جذابتان، قالت : اممم، بكتب شعر.
تهللت أسارير. ملاذ لتقول بلهفة: بجد ممكن أقرأ
اومات لها الفتاه خجلة فانتقلت ملاذ وجلست بجوارها ناظرةً لها سعيدة، وقالت: اسمي ملاذ وانتي؟!
الفتاه : قمر
_قمر وانتي قمر فعلاً..
ظلت ملاذ تتحدث معها وتطلع على شِعرها وتريها بعضاً من رسوماتها في دفترها الذي تحمله دائماً أينما ذهبت، شعرت أنها وجدت جزءًا من روحها يختبئ داخل هذه الفتاة، أنها تصلح لأن تكون رفيقةً لها ولقلبها الذي قلما يجد من يستكين إليه...
دخل أدهم فعم الهدوء المكان فجأة فيما عدا ضحكة ملاذ الرقيقة الصادرة عن طرفة ألقتها قمر ولكنها انتبهت للهدوء المفاجئ فالتفتت لتلتقي أعينهما من جديد، نظر أدهم لها مخبئًا ابتسامته على صوت ضحكتها العذب، كل ما لديها عذب، يالهي ها هو يشرد متأملًا إياها من جديد، نبه نفسه سريعاً وبدء في شرح المحاضرة، أخفضت هي بصرها مبتسمة ثم فعلت مسجل الصوت وانتبهت إليه، لم تدر أنها كانت شاردة طيلة الشرح، تلتهم كلامه التهامًا، كأنها لم تسمع صوت بشر مذ خرجت إلى الدنيا، وكان هو يتنقل بعينيه أثناء الشرح بين جميع طلابه، وحدها كانت تتلقى النصيب الأقل من نظراته، فبمجرد أن تلمح عيناه طيفها تنتقل سريعاً وبحركة لا إرادية منه إلي الجانب الآخر، كأنه يهرب بقلبه منه ومن تأثيرها الغريب جدا عليه.
أنهي شرحه قائلاً : إن شاء الله المحاضرة الجاية هوزع عليكو الأبحاث، أنا عارف اننا لسة بنسمي بس عشان تلحقوا تخلصوا وأهو تفضوا وقت للمذاكرة.
قال ذلك ضاحكاً ثم استدار خارجاً من القاعة..
أوقفت المسجل ناظرة إلي قمر، وقالت : شكلي هسجل كل محاضراته المادة شكلها تقيلة.
_ما انتي خبرة بقى وبتشمي المادة التقيلة وهيا طايرة
_لا يا خفة أصلاً المادة التقيلة هتطير ازاي، دي بتفضل تزحف فوق دماغنا لما تجيب أجلنا..
ضحكت الفتاتان وأكمتا يومهما الدراسي بين المحاضرات في مختلف قاعاتهم وفي النهاية جلست ملاذ زافرة وقالت: ياربي يعني نفضل طالعين نازلين كدهو طول اليوم.
_معلش اهو عشان تخسي شوية
_فشر ده انا سمباتيكاية
كان أدهم حينها يغلق مكتبه واستمع إلى حديثهم حيث كانتا قريبتان منه بعض الشيء ولكن دون أن يرياه، لفت سمعه صوت شاب يتدخل في المحادثة، فسار حتى رأى بوضوح ذاك الفتى في الفرقة الرابعة، يعرفه من صيته الذائع في اتحاد الطلاب، سمعه يقول لملاذ بجرأة : الله محدش قالي إن كليتنا بقى فيها قمرات كدة، تشرفنا يا انسة.
لكنها نظرت له غاضبة و ردت : لا متشرفناش ومن فضلك امشي من هنا .
ردتا فعل مختلفتان على كلامها؛ فالفتى انصدم غاضباً وأدهم كتم صوت ضحكاته ولكن نغمة صوته وصلت إلي أذنها فبحثت عنه بعينيها وسرعان ما التقت بعينيه الخلابتين، كان ينظر لها مبتسماً ثم استدار وغادر...
كان ذاك الفتى مستمراً في كلامه لكنها نهضت وجذبت قمر من يدها وغادرتا المكان، سارت خلف طيفه، عطره لايزال يحوم في كل مكان خطت به أقدامه، كيف ومتى حدث كل هذا، أبهذه السرعة تحفظ إيقاع صوته ورائحة عطره، توقفت فجأة وقمر تسير خلفها كالبلهاء، حدثت نفسها : ماشية وراه ليه انتي عبيطة، أكيد مروح دلوقتي، مش قولتي إنك هتبطلي تفكير فيه، ده انتي م الصبح وإنتي ماشية تتبصصي عليه ف كل مكان، كفاية كدة أوي يا ملاذ
قاطعت قمر تفكيرها قائلة : ملاذ انتي رايحة على فين .
انتبهت لها وقالت : ها لا ولا حاجة مش احنا خلصنا يللا نروح بقى
_اشطة ده معاد الباص بتاعي أصلا ..
خرجتا من الجامعة وملاذ تخبرها أنها معزومة على الغداء عندها في الغد، وأمام إصرارها الرهيب وافقت قمر مترددة ..
ركبت تاكسي لمنزلها وأعطته عنوان منزلها القريب؛ فهي تسكن في نفس الحي الذي به الجامعة، ابتسمت عندما تذكرت كذبتها على أدهم البارحة عندما أخبرته أن سبب تأخرها عن محاضرته هو المواصلات فقالت في سرها : آه لو يعرف بيتي فين هينفخني .
دخلت المنزل لتجد والدتها جالسة امام التلفاز، ألقت عليها السلام ولكنها لاحظت أنها منهكة فقالت قلقة : ماما انتي كويسة؟!
_متخفيش يا حبيبتي حبة تعب صغيرين وهيروحو لحالهم .
_يا ماما متهمليش في صحتك أرجوكي، إنتي بقالك مدة مطنشة تعبك ده فلو سمحتِ قومي يلا البسي عشان ننزل نكشف.
_يا حبيبتي والله هكون كويسة وبعدين مش لما تتغدي الأول
_متخفيش اتغديت ف الجامعة يللا بس ...
وأمام إصرار ابنتها الرهيب رضخت لها أخيراً، ذهبت بها إلي أقرب مشفى اختصاراً للوقت ، وكانت تابعة لإدارة الجامعة ...
******
أنت تقرأ
ملاذي
Romance**اقتباس** . . نهض أدهم مفزوعًا من نومه بعدما رأى كابوساً شنيعا، نظر حوله وتذكر ليلة البارحة المشؤومة ووجد باب منزل ملاذ مفتوحاً ففزع، دخل فلم يجد لها أي أثر وكل أغراضها قد اختفت، نزل السلم رقدًا وذهب لأمه وقال : مشت، مشت يا ماما .. ردت بهدوء : قصرت...