القلب الذي تعطلت تروسه!

157 8 1
                                    

اندهشت من كلامه فهذه أول مرة تسمع به، توترت لتقول بخفوت : وفيها إيه يعني؟!  مهو طبيعي اتخطب واتجوز
قاطعها غاضباً : ببساطة كدة ؟!
_ آه يا أدهم، بنفس البساطة اللي اتجوزت انتا بيها .
نظر لها بضعف يرجوها بعينيه ولكن نظراتها كانت تحمل القرار النهائي ..
_ يعني ده آخر حاجة عندك يا ملاذ؟!
_ إن مكنش سعد هيكون غيره، دي حياة وطبيعي جداً إنها تمشي.
_ لما هي طبيعي إنها تمشي، ليه حياتي وقفت من بعدك؟!!
ارتجفت روحها بمكانها المجهول داخل جسدها، حاولت أن تتماسك، ألا يظهر عليها ضعفاً، وألا تنساق وراء حلو كلامه.
قالت بهدوء: حتى لو واقفة جواك، فترس الحياة براك داير بشكله الطبيعي، حاول تمشي تروس قلبك زي ما تروس الواقع حواليك ماشية.
تنهد بألم، يرفض ردودها شديدة البرودة والعملية، حاول استعادة زمام الأمور فقال: اللي تشوفيه يا ملاذ، بس وجب تنويهك إن تروس قلبي يستحيل تدور لحد غيرك.
قال كلامه الأخير منهيًا الحوار، شعرت بالألم يغزو قلبها إثر كلماته، إلى متى ستظل تعاند قلبها وتخمد صرخاته ؟ ها هو يتقافز أمامها بشكل شبه يومي صارخاً بحبه لها منذ تلك الحادثة اللعينة، يتغاضى عن عُمره الراشد، وعن مهنته الوقور، يخلع كل ما يقيد تصريحاته ليقف أمامها عارياً لا يرتدى سوى حبه، فلا تمتلك من أمرها رداً سوى الصد والعدول.
أوصلها المركز وقبل أن تنزل قال : أوعدك إني مش هزعجك تاني وهتبقي بالنسبالي مجرد طالبة عندي، بس موعدكيش إني هبطل أحبك، مع السلامة يا ملاذي ..
"ملاذي" ..لم ينادها أحد بهذه الصيغة من قبله ولا تظن أن أحداً غيره سيفعل، هو الوحيد القادر علي إشعارها أنها أغلى امرأة في الكون، هو أول من سكن قلبها وحرم سكناه على غيره، هو الوحيد والأول، وهو الأخير!! ..
******
عرض عليها سعد الزواج فتوترت وطلبت منه مهلة للتفكير ولم يعترض هو ..
أخبرت قمر بما حدث لتنصحها الأخيرة أن تفعل ما تراه صواب،  ولكنها صدقًا مشتتة ولم تعد تستطيع التفريق بين الصواب والخطأ ..
مر أسبوع وأدهم على وعده، لم يعد يظهر مشاعره وبات يعاملها كباقي الطلاب حتى اقتنعت أنه نساها وكم آلمها ذلك، هي تريد الابتعاد عنه ولكنها لا تتحمل ذلك، كل نظراته وكلماته تغيرت وحل محلها الرسمية وصار وجهه معظم الوقت جامداً بدون مشاعر، وطيلة هذا الاسبوع وسعد ينتظر ردها تاركاً لها فرصة التفكير الدقيق ..
استيقظت مساءاً تعبة للغاية تتنفس بصعوبة وتشعر بسخونة جسدها،  نهضت متثاقلة وأخذت أدوية لنزلات البرد وخافض للحرارة ولكن ظل التعب متمكناً منها حتى غطت في النوم من جديد .
ذهبت للجامعة في اليوم التالي باديًا على وجهها الانهاك، حضرت بعض محاضراتها متعبة وقمر تطالبها بالرحيل ولكنها ظلت تقاوم وقبل المحاضرة الأخيرة ذهبت أادهم لتستفسر منه عن شيء في بحثها ..
دخلت ملقية التحية، انقطع الكلام بينهما في الفترة الأخيرة حتى باتت تنتظر رد التحية بشوق كبير ، قالت وهي تطالع وجهه الذي لم ينظر إليها : لو سمحت يا دكتر ممكن سؤال؟! ..
كان منهمكًا على حاسوبه، شعر بها تدلف لمكتبه واقتحم صوتها عالمه كما اقتحمت هي قلبه وهو يحاول تجنب أي فرصة تتواجد هي معه في مكان واحد، يقتله الشوق وهي لا تشعر، يكاد ينفذ مخزونه من جهاد النفس في حضرتها وهي لا تعلم، يود كثيراً لو يجتذبها لأحضانه من جديد، وهي الحمقاء تقف أمامه بكل بساطة دون أن تعي بنيرانه المستعرة بسببها.
قال متجاهلًا إياها : معلش يا ملاذ، وقت تاني مش دلوقتي ..
لم يسمع ردها فظن أنها غادرت، وكان هو لايزال يعمل علي الحاسوب، أدار بصره ليراها قد سقطت علي أحد كراسي المكتب فانتفض من مكانه فزعاً وهو يقول : ملاذ؟!!
أسرع نحوها، جلس بجوارها ملهوفاً والتقط جسدها يعدل من وضعيته، بمجرد أن لمسها شعر بحرارة جسدها فزاد فزعه وهزها قائلاً : ملاذ، ملاذ فوقى! ..
لم تستجب له، رآى جبينها يفرز العرق بغزارة وأنفاسها تتسارع،  لم يشعر بنفسه إلا وهو يسكت خوف قلبه بصمها إلى صدره، لم يكن شوقاً ولا حباً بقدر ما كان خوفاً وقلقاً...
******
فتحت عيناها بضعف لتراه جالساً ممسكاً يدها، وبمجرد أن لمحت عينها الضوء تركها مرتبكًا وقال : حمد الله ع السلامة ..
_ ايه اللي حصل ؟!
_ عندك حمى، بلاش تهملي ف نفسك تاني .
نظرت له بشوق شديد، أخيراً رأت اللهفة والحب والقلق في عينيه مجدداً، بادلها هو نظراتها بنظرات مختلطة تارة تكون جادة رسمية وتاره تكون نظرات عاشقة متيمة، هو يحارب حرباً ضروسا ضد نفسه وقلبه وفي كل الاحوال يجد نفسه خاسراً..
من ذا الذي ينتصر أمام الحب ؟
فجأة سمعا صوتاً غاضباً يقتحم الغرفة و يصيح : بقى كدة يا أستاذ أدهم،  بقى مهملني عشان الست هانم؟!!
التفتا ليجدا رنا تنظر لهما غاضبة، نهض أدهم وقال لها : ازاي تخرجي م البيت من غير إذني انتي اتجننتي ؟!
_ والله عال كمان آخد إذنك عشان أشوفك وانتا بتخوني ؟!
صاح أدهم : رنا احترمي نفسك أحسن لك واعرفي قيمتك قبل ما تتكلمي.
_ طبعاً ما الست واكلة قلبك وفكرك، ده انتا حتى استخسرت فيا أقعد ف شقة لوحدي كل ده عشانها مش كدة ؟
تفاجأت ملاذ بما سمعته، هل حقاً لم يسكنا في الشقة التي من المفترض أنها شقة زواجه، أفاقت على صوته الهادر يقول محذراً: انتي تخرسي خالص وحسابي معاكي بعدين.
تصنعت رنا البكاء كعادتها الماهرة، نظرت لملاذ وقالت بضعف : ابعدي عن حياتي بقى حرام عليكي وسيبي جوزي ف حاله .
غادرت باكية وملاذ متألمة وأدهم يقف متوتر الأعصاب مما قالته رنا، استدار لتلك التي طالعته بنظراتها الحزينة، جلس على كرسيه من جديد ولم يجد ما يقوله، لتمسك هي بزمام الكلام لتبادر بقولها:
_ هي مغلطتش.
_ وأنا مش بخونها، ولو وافقتها على كلامها أبقى بطعن فيكِ انتِ.
_ بس مجرد تواجدك معايا مؤذي ليها يا أدهم.
_ تهمك مشاعرها أوي كدة؟!
_يهمني الصح والغلط، وبس.
تحركت قدمه تدبدب الأرض دون شعور أو إرادة، لمح بطرف عينيها حديث يود أن يأخذ حريته في حضرته لكنه يخشاه، تردد لكنه عاد وسألها: عاوزة تقولي إيه؟!
_سعد...اتقدملي!.
أغمض عينيه وأخذ نفساً عميقاً، لم يأتها منه رداً، لكن لغة جسده حملت ما لايقوى اللسان على حمله من ردود، عروق رقبته النافرة، وقبضته التي اشتدت حتى كادت تنفجر، إنتهاء ً بجسده الذي انتفض واقفاً في مكانه ليقول مسرعاً: أنا هروح أجيب الأدوية!
غادر وتركها من خلفه تحتضن الفراغ الذي خلّفه بعينيها، لا مناص من الاصطدام بصخرة الواقع، هي ليست في إحدى الأفلام أو الروايات التي يديرها الكاتب حسب رغبته، نعم هي البطلةُ هنا، لكنها لا تملك سوى الانصياع للقدر، اليدُ العليا التي تُحرك الأمور حسب ما كُتب لها أن تكون..
وهي، صارت تعرف أن تلاقي أقدارها به مستحيل.
فجاءة وجدته يدخل من جديد حاملاً كيساً شفافاً يحوى علب أدوية، قال : يللا عشان تروحي، الأدوية دي تخديها بانتظام لغاية ما تخفي ..
كان يحدثها ولكن دون النظر اليها، نهضت هي وتناولت منه الكيس قائلة : مُتشكرة ..
لم يرد عليها وتركها وغادر وهي تقف تراقب المكان الذي كان يحتضن جسده منذ قليل، كم يعتصر قلبها من الألم وكم رغبت في إنهاء كل هذا، ليذهب سعد ورنا للجحيم، تُدرك أنهما علاقتين خاطئتين قذف بهما القدر داخلهما دون إرادة، لكن ماذا لو جرت الأمور بالروتينية التي اعتادتها في بلادها، ستخطب لسعد ولعلها تتزوجه أيضاً، سيرضخ أدهم للأمر الواقع ويتقبل زواجه برنا، سيفترقا وتنهال عليهما ضعوط الحياة التي تكاد تنسي المرء اسمه فينسيان ما كان بينهما بسهولة، ولعلهما يذكرانه يوماً ويضحكان على حماقتهما في الصغر وأنها كانت " لعب عيال " ..
******
_مستر سعد، ازي حضرتك؟
_ بخير الحمد لله، حبيت أطمن عليكِ بعد ما عرفت من نورا إنك تعبانة.
كانت تجلس في غرفة والدتها عندما وردها إتصال هاتفي منه، تنهدت وهي تتلمس قلقه عبر الهاتف، عليها الاعتراف أن شخصيته بها الكثير من صفات أدهم المحببة، لكنه قطعاً ليس هو!
نظرت لصورة والدتها بجوار الفراش وردت: متقلقش، فيه تحسن الحمد لله ومن بكرة هرجع الشغل تاني، بعتذر لغيابي اليومين دول.
_ أهم حاجة تكوني كويسة.
صمت قليلاً ثم عاد يسأل في خجل: احم، فكرتي في اللي قولتلك عليه؟!
ازدردت ريقها ضعفاً، كانت قد حسمت أمرها بالفعل لكن التصريح به بالغ الصعوبة، تكلمت بعد برهة: تقدر تجي تقابل عمي وقت ما تفضى.
تهللت أساريره وأطلق زفرة مرتاحة وصلتها لتشعر بالذنب تجاهه، تعلم أنه يقطع خطواته الأولى في درب حبها، بينما هي لا تزال تائهة في دربها الذي قطعته خطأً تجاه رجل ليس لها، وما يؤرقها أنها لم تجد هدايةً للعودة بعد!
_ بإذن الله تقومي بالسلامة ونتفق على كل التفاصيل.
أنهت المكالمة ونظرت لصورة والدتها، الصورة الثابتة المُلتقطة لوالدتها منذ سنين وهي مبتسمة، ما بالها الآن تشعر أنها فقدت ابتسامتها ؟!
_ محتاجالك أوي يا ماما، لو كنتي تعرفي اللي هيحصلي من بعدك مكنتيش مشيتي وسبتيني، مبقتش عارفه الصح م الغلط، قلبي عاوز حاجة وعقلي عاوز عكسها! أنا مش مصدقة إني لسة ميالة لأدهم رغم اللي عمله واللي شوفته بعنيا، إزاي قلبي قادر يفوتله ويغفر له، ده ذنب المفروض ميتنساش العمر كله!
******

ملاذيحيث تعيش القصص. اكتشف الآن