الاسكندرية
يوليو،2019« شايف البحر شو كبير..
كِبر البحر بحبك
شايف السما شو بعيدة؟
بعد السما بحبك»...
استدارت مُسرعة لضُحى، جلستهما للرسم على البحر تُعادُ الآن، باختلاف الفصول، واختلاف المشاعر، الأغنية اللعينة ذاتها تصدح من سماعات هاتفها، تصب عليها ذكرياتها صباً، وتكاد تعدها بذكريات أخرى جديدة اليوم.
صاحت بتبرم:
_ عارفه لو مسكتيش الولية اللي على تليفونك دي، هخليكي تنزلي البحر بنفسك وتشوفي كبره اد ايه!.
ضحكت ضُحى على صراخها الغاضب، تعرفُ سر غضبها الكبير هذا، لدرجة أنها قصدت إثارته بعدما تلقت مُكالمة هذا الصباح من أدهم يُخبرها فيها أنه قادمٌ لاستعادة ملاذه! .
أوقفت الأغنية مضطرة بعدما لمحت نذير دمعات تُطل في مُقلتيها، نظرت إليها وتنهدت، تود لو تُخبرها بالأمر لتنهي عذابها هذا، لكنها لا ترغب في أن تجور على حق أدهم في تبرئة نفسه بنفسه أمامها.
_ هترسمي إيه النهاردة؟!
_ لسة مش عارفه.
طالعت ملاذ البحر من أمامها، أمواجه هادرة ومرتفعة، تُذكرانها أيضاً بذاك اليوم، يبدو أن هناك تحالفاً بين أمواجه والأغاني ليذكرانها به، ما كان عليها أبداً أن تصنع ذكرى كتلك معه هُنا؛ أنى لها أن تنسى؟!
الشاطئ من حولهما يكاد يكون خالياً بسبب الموج العالي، اللهم إلا من بعض العائلات المتناثرة هنا وهناك يستمتعون بالجو الرائع، ونسمات البحر العليلة.
عادت للوحتها الخالية، تكذب لو قالت أنها رأت بها غير وجهه، سُرعان ما تبدد هذا الوجه البرئ ذو الغمازتين الغائرتين، وحل محله صورة طفلٍ صغير يبكي، يلعن حظه الذي أتى به في أحضان أبٍ لا يريده...
نفضت رأسها تُصارع أفكارها، ينبغي أن تغرق مع فرشاتها وألوانها، لا مع ذكرياتها الكئيبة!.
على الفور راحت تدمج ألوانها وتصبغ بها ألياف لوحتها، بعيونٍ شاردة حيناً، وحالمة أحايين أخرى، تتخيل لو أن اليوم هو ذات اليوم قبل عام، لو تُعاد عقارب الساعات والأيام لتستقر بها فيه من جديد، لو تراه يتقدم، يغرق بالفعل، لو تملك حق إعادة الزمن لما وقفت عنده أبداً... لتركته يغرق قبل أن تغرق هي!
_ غرييييق، غرييييق!!
أيقظها صوت صياح رجلٍ من خلفها، يُشير إلي نُقطة بعيدة في البحر تلتهمها الأمواج!!
انتفضت في مكانها على الفور هي وضحى، يا إلهي! لقد تمنت بالفعل لو يعاد اليوم، لكن ليس بغريق حقيقي هذه المرة!..
_ رايحة فين يا مجنونة استني!.
صاحت بها ضُحى وهي ترقد خلفها على الشاطئ.
_ هنادي فرق الإنقاذ، خليكي إنتِ هناك عشان الأدوات.
استدارت تُتابع طريقها بلهفة، يبدو أن القدر يُعطيها الإجابة على سؤالها وتمنيها السابق؛ لو تكرر اليوم ألف مرة، لن يصدر عنها إلا نفس ردة الفعل هذه!.
تهادى إلي أذنيها صوت مألوف، يخرج من البحر خلفها أعقبه هدوء أصوات الرجال الصائحين، قال ضاحكاً:
_ فرق إنقاذ تاني يا ملاذ، هتدحدري سمعتي في السباحة تاني ؟!
لا تدري كيف استدار جسده له، بلهفةٍ حقيقية عجزت عن تخبئتها خلف أسوار قلبها وعينيها، وقفت تتنفس الصعداء وقد بدأ الجمع من خلفه بالانفضاض، وحدها وقفت ضحى تطالعهما مُبتسمة، تستغرب هذا الرجل كثيراً، أكان عليه أن يفتعل كل هذه الحلبة ليسترعي انتباهها؟!..
_ أدهم؟!! هو أنت!
_ تعرفي مجنون غيري يدخل البحر وهو كدة؟
هاجمتها الذكرى التي نستها بالفعل عندما رأته، استعادت زمام الأمور من قلبها الأحمق، ليخفت الضوء في عينيها وهي ترد:
_ جيت ليه يا أدهم؟
اقترب منها أكثر حتى بات لا يفصله عنها سوى خطوة، حجب بجسده الضخم ضوء الشمس عنها، لا تُنكر على روحها الحنين إلي هذا القُرب، والدفء الذي لم تشعر به إلا في وجوده، لكنها عاجزة عن تقبله بعد كل كذباته السابقة، بعد أن شعرت بمقدار سذاجتها في عينيه، وهي رغم كل ذلك لا تملك البوح!.
_ جيت عشان نحط نقط كتيرة على الحروف يا ملاذ، وقبل ما تتزنقي في اختراع كذبة جديدة بعد كذبة سعد، فحابب أقولك إن رنا مش حامل، وحياة حبي ليكِ مش حامل.
اعترتها الصدمة، تسارعت دقات قلبها لتدفعه في صدره مُهاجمةً له، صاحت ودموعها تملأ عينيها:
_ أجهضتها؟! هان عليك ابنك يا أدهم؟!
اعتدل في وقفته بعد دفعتها القوية والمباغتة، جاءت ضُحى ترقد من خلفهما بعد ما رأته، صاحت بملاذ:
_ استني اسمعي كل كلامه يا مجنونة.
_ يبقى إنتي اللي قولتيله يا ضُحى! ذنب الطفل البريء ده في رقبتك.
مسح أدهم وجهه بباطن يده، يريدها فقط أن تسكت وتتيح له الفرصة بالكلام، لكنها استمرت في رميه بكلماتها القاسية، مما دفعه لأن يقول بالنهاية:
_ رنا مكنتش حامل من أصله يا ملاذ، وهتحمل إزاي وهي أصلاً لسة آنسة؟!
★★★★★
وقفت عند الغروب تراقب أمواج البحر التي بدأت تهدأ أخيراً، كأن البحر بتقلباته مرآةً تعكس ما يفتعل بصدرها، يموج لاضطرابها، ويهدأ لهدوئها!..
الساعات المُنصرمة حملت لها مُفاجآت من العيار الثقيل، من كان يُصدق أن كل ما فات بُني على أنقاض كذبة حقيرة كتلك؟!
تنهدت بعمق، شعاع الشمس البرتقالي يغوص في عينيها ويُبحر، وبحوارها ذاك الرجل الذي يُصر على مكانته داخل قلبها.
_ مصدقاني؟!
ابتسمت له، رغم أنه لا يمتلك أي دليل الآن، لكن كلامه مع مشاعره وسابق مواقفه معها يثبت صدقه دون برهان، ردت عليه:
_ مصدقاك يا أدهم..
اتسعت ابتسامته هو الآخر، ارتاح قلبه في صدره بعد أن برأ ساحته أمامها، الآن..وفي هذا المكان، يشعر أنه يحظى ببدايةٍ جديدة معها، وكأن كل ما فات لم يحدث .
_ تعالي نبدأ من جديد يا ملاذ، وفي نفس المكان!.
استدارت لتواجهه سعيدة وهي تمد يدها أمامه قائلة ببشاشة:
_ اتشرفت بيك، محسوبتك ملاذ.
ضحك بينما تناول كف يدها بين أحضان كفيه حتى توارى عن الأنظار داخلهما وهو يرد:
_ ملاذي، ملاذي الوحيد من كل اوجاع الدنيا!.
اقتحم خلوتهما صوت ضُحى الضاحك إذ أردفت:
_ وأنا بقى هادمة اللحظات الحلوة، تشربوا ليمون؟!
استدارت ملاذ لها ضاحكة، تناولت منها كأساً وأعطته لأدهم و وقفت لتراقب رد فعله، تعلم أن ابنة خالتها آخر شخص في الدنيا مسموح له بدخول المطبخ، وأرادت إثبات ذلك لها بدرس عملي.
_ تسلم ايدك يا ضحى، بس متعمليش عصير تاني.
قالها أدهم بينما غرقت ملاذ في أمواج ضحكاتها على الفتاة التي راحت تُدافع عن نفسها أمامهما، لا تُصدق أن يومها ينتهي نهايةً سعيده كهذه، بوجوده في جوارها، خالياً من ذنوب الماضي، يقتبص لها من الأحلام أجملها! .
★★★★★
أنت تقرأ
ملاذي
Romance**اقتباس** . . نهض أدهم مفزوعًا من نومه بعدما رأى كابوساً شنيعا، نظر حوله وتذكر ليلة البارحة المشؤومة ووجد باب منزل ملاذ مفتوحاً ففزع، دخل فلم يجد لها أي أثر وكل أغراضها قد اختفت، نزل السلم رقدًا وذهب لأمه وقال : مشت، مشت يا ماما .. ردت بهدوء : قصرت...