الفصل الثاني والعشرون
جرح قديمعندما خرج عادل من مقر عمله مساءا .. كانت الساعة قد أتمت السادسة .. وكان هو جائعا ومتعبا بعد قضاء نهاره خلف مكتبه الجديد .. غارقا في الحسابات المختلفة .. إلا أنه كان سعيدا وراضيا .. ويشعر أخيرا بأنه إنسان ذو قيمة .. يشعر بالحياة .. إلا أن إحساسه بالحياة .. لم يكن عائدا إلى عمله الجديد الذي بدأ في المواظبة عليه منذ أسبوعين .. بل بسبب آخر .. سبب أعاد إليه روحه وحبه لنفسه .. سبب وجده في انتظاره على بعد أمتار من بوابة الشركة .. مستندا إلى السيارة البيضاء الصغيرة المألوفة له ..
خفق قلبه بقوة عندما رأى منى تقف هناك .. بفستان قطني طويل .. بلا أكمام .. تبدو رقيقة .. ونقية ورائعة الجمال .. وقد أبعدت شعرها عن وجهها وعينيها بنظارتها السوداء الأنيقة .. المثبتة على رأسها .. ابتسم برقة وهو يراها تنظر إلى ساعة معصمها بنفاذ صبر .. ثم تعود للنظر إلى بوابة الشركة لتراه واقفا ينظر إليها .. ارتباك بسيط بدا عليها وكأنها تحاول بدورها السيطرة على مشاعرها بصعوبة .. قبل أن يشرق وجهها بابتسامة سعيدة .. وهي تعتدل في وقفتها منتظرة إياه حتى وصل إليها .. نظر إلى وجهها .. وتبادل معها النظرات طويلا .. قال بصعوبة :- ما الذي تفعلينه هنا ؟
تأملت وجهه الحليق .. وملابسه الأنيقة .. والنظرة الصافية في عينيه .. وأحست بالدموع تخنقها .. لقد كان هو .. عادل الذي احبته دائما .. المبتسم .. الرقيق والمتفائل .. لقد عاد إليها من جديد .. أليس كذلك ؟ .. تستطيع أن تتأكد من هذا بمجرد النظر إلى عينيه .. عينيه البنيتين الجميلتين .. وهما تنظران إليها بشوق يعادل شوقها .. منذ تلك القبلة اليتيمة التي تبادلاها ليلة زفاف لندا .. وهما يتحاشان اللقاء .. وكأنهما يخشيان الاستسلام للوحش الذي فرض وجوده بينهما تلك الليلة .. وحش الحب العنيف والرغبة الخالصة التي لم تكن يوما وجها من اوجه علاقتهما .. ذلك الاحساس الحسي الذي اكتشفاه كان جديدا عليهما .. جديدا ومخيفا .. خاصة وقد عرفا بانهما لن يستطيعا السيطرة عليه مع حب يائس عنيف كحبهما .. حتى عندما كانا يلتقيان .. فإن لقائهما يكون بصحبة الآخرين .. يتحاشى كل منهما عيني الآخر .. ويكلمه بالكاد .. كي لا يتمكن احد من اكتشاف سرهما ..
مساء الأمس .. لم تستطع منى احتمال الجفاء أكثر .. ليالي طويلة قضتها تفكر به .. بكل الوسائل والطرق .. كان عادل يزور أحلامها .. يبتسم لها .. يغمرها بحبه .. فتستيقظ في النهاية لاهثة .. باكية .. اسمه يتصدر شفتيها بتوسل .. وعدم رؤيتها له منذ استلم عمله الجديد جعلها تتخذ قرارا متهورا لا تذكر حتى متى فكرت به .. لقد ارتدت ملابسها .. وخرجت نحو عنوان عمله الذي ذكرته لها لندا عرضا قبل أيام .. ووجدت نفسها تنتظره هنا نافذة الصبر .. وها هو واقف أمامها .. ينتظر أن تعلل سبب حضورها إلى هنا .. معرضة نفسها للقيل والقال .. دون أن تجد ما تقوله .. لقد نظرت إليه .. وبذعر شديد .. بدأت دموعها تنساب من عينيها .. تبلل وجنتيها ووجهها .. مرأى دموعها أجفله في البداية وضربه في الصميم .. قبل أن يقول بخشونة :- لنذهب من هنا
بدون أن تقول شيئا .. أخرجت مفتاحها من حقيبتها .. واستدارت لتفتح الباب الامامي للسيارة .. ففاجأها بأن انتزع المفاتيح من يدها قائلا بصرامة :- أنا سأقود
حدقت به مذهولة .. فهي تعرف بأنه لم يقد سيارة منذ ذلك الحادث .. رغم أنه لم يكن من يقود ذلك المساء .. في الواقع .. ذلك المساء بالذات .. سيارة عادل التي اشتراها مستعملة قبل أشهر .. كانت تبات لدى الميكانيكي بغرض صيانتها .. وهي تعرف .. كما يعرف كل شخص آخر بأن عادل وإن لم يقلها صراحة .. يحمل نفسه مسؤولية الحادث لهذا السبب .. وأنه قد قرر ضمنا الا يقود سيارة مجددا .. حتى هذه اللحظة .. سألته مترددة :- هل انت متأكد ؟
أومأ برأسه وقد بدا عليه الإصرار الشديد .. فأفسحت له الطريق ليحتل المقعد الأمامي خلف المقود .. ودارت هي حول السيارة لتستقل المقعد المحاور له .. رمى عصاه في المقعد الخلفي ... و أدار المحرك .. وانطلق بالسيارة .. حبست أنفاسها .. وقد أحست بتوتره وهو يتحرك في قلب الزحام .. عرفت بأن أي كلمة منها كفيلة بزيادة توتره .. وأن من الأفضل أن تتركه يتحدى شياطينه بنفسه ... دقائق طويلة مرت قبل أن يبدأ الزحام بالتلاشي مع ابتعادهما عن قلب المدينة .. وأحست هي بقيادته تزداد سلاسة .. وباسترخائه يزداد مع الوقت .. فتمكنت هي بدورها من الاسترخاء .. والتفرغ التام للتفكير به .. نظرت إليه بهدوء .. متأملة ملامحه الوسيمة الخشنة .. شعره الحالك السواد الذي عبث النسيم بخصلاته .. بكتفيه العريضتين وذراعيه القويتين .. واحمر وجهها وهي تتذكر إحساسها بهما حولها .. في تلك اللحظة بالذات ألقى نحوها نظرة عابرة .. كانت كافية ليقرأ أفكارها .. غامت عيناه بالعاطفة وهو يبعدهما محاولا التركيز على القيادة .. حتى خرجا من المدينة .. وبدأ البيوت والمباني بالتناقص مفسحة المكان للمساحات الخضراء الشاسعة للمزارع والقرى .. وقد بدت الشمس من بعيد اشبه بقرص احمر نعس متشوق للغوص في الأفق ..
أوقف السيارة إلى جانب الطريق المقفر .. وظل محدقا في الزجاج الامامي بإصرار وقد على وجهه تعبير صارم .. بينما التصقت هي بالباب .. تحدق به متسعة العينين .. بخوف .. وقلق .. وترقب .. وشوق ..
نظر إليها أخيرا .. فشهقت لعنف النظرة في عينيه .. الشوق الخالص فيهما هزها حتى الأعماق .. ولغى كل قدرتها على التفكير عندما امتدت يده إليها تسحبها نحوه بشيء من القسوة .. وسرعان ما كانت بين أحضانه .. ذراعاها حول عنقه .. وشفتاها بين شفتيه .. لم يخطط أحدهما لما حدث .. لقد حدث فجأة .. وكأن تبادل النظرات بينهما كان كافيا ليشعل فتيل الرغبة التي أيقظتها قبلة غاضبة بينهما منذ أسابيع ..
كم مر من الوقت عليهما وهما غائبان عن الواقع .. دقائق .. ساعات .. عندما تركها أخيرا .. شهقت بقوة لتلتقط أنفاسها .. بينما لهث هو متأملا إياها بشغف كبير .. همست بضعف وهي تتحاشى نظراته :- ما الذي تفعله بي ؟
قال بصوت أجش :- ما الذي تفعلينه أنت بي ؟ ألا تعلمين كم أكره ضعفي نحوك .. أن أراك .. وأعرف بأنني أحبك بيأس وبلا أمل .. أن اعجز عن النظر إليك عارفا بأنني لن أتمكن من إبعاد يدي عنك
لمست وجنته قائلة بصوت أثقلته العاطفة :- لا تفعل .. أرجوك .. أنا أحبك عادل .. كبتت مشاعري نحوك فترة طويلة .. ان أعرف الآن بأنك تحبني بنفس القوة يعني لي الحياة .. فلا تنتزعها مني بالبعاد مجددا
قال بخشونة وهو يشد يديه حولها :- وهل تظنينني أستطيع ؟ .. انت كالمرض حين يتغلغل بين خلايا دمي لا فكاك منه .. ولا علاج له
همست :- لا أحبذ تشبيهك لي بالمرض .. ولكن لا .. لا شفاء لك مني .. لن أسمح لك بهذا
:- ومن قال بأنني أريد شفاءا .. مرضي بك هو ما يبقيني حيا
عاد يقبلها من جديد .. برقة وحنان هذه المرة .. واصابعه تتخلل شعرها الطويل الناعم .. وعندما عرف بأنه على شفا حفرة من فقدان سيطرته على نفسه .. تركها .. وأمسك بكتفيها معيدا إياها إلى مقعدها قائلا :- من الافضل أن تصفعيني في المرة القادمة التي أقبلك فيها .. وإلا فإنني لن أتوقف .. ليس قبل أن أطفئ ظمأي منك كاملا
تورد وجهها وهي تنزوي في مقعدها محيطة نفسها بذراعيها .. من حسن الحظ أنها تحمل في السيارة سترة قطنية كفيلة بإخفاء آثار أصابعه التي تركت بصمتها على ذراعيها .. فتح باب السيارة .. وخرج مستنشقا الهواء العليل بعمق .. محاولا تهدئة خفقات قلبه المجنونة .. أسند نفسه إلى مقدمة السيارة .. ونظر إلى الافق الذي تلون بألوان الغروب .. يفكر بعمق بها .. بعلاقتهما ..
بينما كانت هي تحاول استعادة رباطة جأشها داخل السيارة .. قبل أن تترجل منها بدورها .. وتلحق به ..
أحس بوجودها إلى جواره .. فلم ينظر إليها .. يكفيه ما تسببه له رائحتها وحرارة جسدها من اضطراب .. استندت بدورها إلى السيارة .. ونظرت إلى الافق هي الأخرى .. تفكر بالمستقبل .. مستقبلهما .. وكأنه قد سمع أفكارها .. قال بصوت أجش :- لا أستطيع تقديم الوعود لك يا منى .. أنت تستحقين الأفضل .. وأنا لا أمثل حتى ربع الأفضل ..
قالت على الفور :- أنا أحبك .. أظنني أثبتت بما لا يقبل الجدل خلال السنوات السابقة بأنني لا أبالي بالمعايير التي تظنها أنت أو غيرك الأفضل .. انت الافضل لي ولن أقبل ببديل آخر
نظر إليها مطولا .. متأملا وجهها الجميل الصادق .. ما الذي يميزها ويجعله مجنونا في حبها .. منذ كانت طفلة صغيرة مشاكسة .. سرقت قلبه بلا استئذان .. في البداية كانت بالنسبة إليه .. القريبة الصغيرة التي يسعده أن يلاعبها كما يلاعب لندا .. إلا أنه عندما بدأ يجد اهتمامه بها يتحول إلى شيء آخر .. أبعد نفسه مذعورا .. فقد كانت مجرد طفلة .. بينما هو شاب في مقتبل العمر .. أحس بالضياع .. والحقارة لاهتمامه بها .. فحاول إبعاد نفسه عنها منشغلا بحياة الجامعة الحافلة .. إلا أنها لم تسمح له .. كما لم تفعل يوما .. أن يبعدها عن طريقه .. قوتها وثقتها بمشاعرها .. أكثر ما أحبه فيها .. وهو يدين لها بأن يكون صادقا بدوره .. قال متوسلا :- امنحيني بعض الوقت .. لقد بدأت لتوي في استعادة ذاتي .. لندا تزوجت .. وعلاج أمي رغم امتعاضي من الفكرة .. مؤمن تماما .. أريد أن أكون أهلا بك .. ووالداك لن يتقبلا أن أكون أقل من ذلك
لم تكن تهتم برأي والديها .. إلا أنها صمتت لعلمها بأنه هو من يحتاج للشعور بأهليته وقيمته .. أي امرأة أخرى كانت قد يئست منذ فترة طويلة .. وتركته متابعة حياتها مع رجل آخر أقل تعقيدا .. إلا أنها لم تكن كغيرها من النساء .. هي المغرمة بهذا الرجل منذ بدء الخليقة .. لن تفكر يوما بأن تمنح نفسها لغيره أبدا .. هي له .. حتى لو انتظرته العمر كله .. قالت بثقة :- سأنتظرك
التقت عيناهما .. ورأت التقدير والامتنان في نظراته إليها .. قبل أن يعود فينظر إلى السماء التي بدأت تظلم .. غمغم :- سيحل الظلام بعد قليل .. من الأفضل أن تعودي إلى البيت قبل أن يقلق والداك ..
لم تكن راغبة بالرحيل .. بدون إنذار .. تأبطت ذراعه .. وأسندت رأسها إلى كتفه .. وتمتمت :- هل تعرف ما أشتهي في هذه اللحظة
نظر إليها بفضول وقد ميز رنين العبث في صوتها .. قالت بمكر :- إلى قمع من مثلجات الشوكولا
أطلق ضحكة عالية وهو يداعب شعرها بيده الحرة قائلا :- امازلت تذكرين ؟
:- ظننتك أنت من نسى
قال بحنان وهو يحيطها بذراعه ليضمها إلى صدره :- انا لا أنسى على الإطلاق أي شيء يتعلق بك .. كل شيء عنك .. أدق التفاصيل محفورة في ذاكرتي .. أسجلها على الورق بين الحين والآخر بشكل من الأشكال فقط كي أستعيدها .. كي أعيشها مجددا .. أذهب إلى مقهانا المفضل وأجلس هناك كالأحمق .. وأطلب كوبين من المثلجات بالشوكولا .. آكل أحدهما .. وأراقب الآخر وهو يذوب امامي .. متمنيا بتعاسة لو أنك تظهرين بقدرة قادر وتتناولينه معي
حدقت به مذهولة .. غير مصدقة للشغف في صوته .. والحنين في كلماته .. تابع بنفس الصوت العاطفي :- في جيبي ذلك المنديل المطوي .. تحسبا .. كي أمرره على ذقنك وشفتيك بعد أن تلطخي نفسك بالشوكولا الغنية .. لطالما كانت هذه حجة واهية أتمكن من خلالها من لمس شفتيك .. كنت أتخيل في كل مرة أنني أقبلهما .. وأتساءل يائسا .. ماذا كانت لتفعل .. لو أنني قبلتهما يوما بالفعل .
ابعد خصلات شعرها التي تمردت وتدلت امام وجهها .. ونظر إلى ملامح وجهها الذاهلة وتابع :- كنت أتخيلك تصفعينني في كل مرة .. اقبلك .. فتصفعينني .. إلا أن ما حدث حقا هو أن الترتيب قد تغير
همست :- صفعتك فقبلتني .. ليتني صفعتك منذ فترة طويلة .. لا فكرة لديك كم مرة تمنيت أن أفعلها
تذكر معاملته السيئة لها على مدى سنوات .. وقال باكتئاب :- أصدقك .. أتمنى لو أنني لا أخيب أملك مجددا .. ألا أؤذيك وأخذلك مرة أخرى
قالت بيأس :- إذن لا تفعل
هز رأسه .. ثم تنهد بإرهاق .. وعاد مجددا ينظر إلى السماء المظلمة .. قال أخيرا :- من الأفضل أن نعود أدراجنا .. لندا تجالس أمي الآن .. ولا أريدها أن تتأخر عن بيتها
نظر إليها قائلا بخفوت :- ولا أريد لعائلتك عن تتساءل عن سبب تأخرك
أومأت برأسها دون أن تقول شيئا وقد فهمت مخاوفه .. إن عرف والدها بأنها عادت للخروج مع عادل فإنه سيستشيط غضبا .. وسيربط بالتأكيد بين رفضها لآخر عريس تقدم لها برؤيتها لعادل
ساد الصمت في طريق العودة .. حتى أوقف السيارة أمام مدخل الحارة قائلا :- سأنزل هنا
خرجت بدورها من السيارة ولاقته عند باب السائق المفتوح .. نظرت إليه وقالت بهدوء :- ما الذي سيحدث الآن يا عادل .. ما الذي سيحدث معنا ؟
برقت عيناه بالحيرة والحزن وهو يقول بصراحة :- أتمنى لو أعرف .. أشعر بأنني فقدت منذ زفاف لندا زمام قيادة نفسي .. أعرف بأن ما أفعله مخالف تماما لكل ما سبق وقررت أن أفعله .. ولكنني أعجز عن إيقافه .. أنت تثيرين جنوني يا منى ولا أعرف إن كنت بقادر على استعادة تعقلي يوما أم لا
ترقرقت الدموع في عينيها وهي تهمس :0 أتمنى ألا تفعل أبدا ما دمت سأتمكن من رؤيتك .. من الاستماع إليك ورؤية الحب في عينيك .. قبل أن تتخذ أي قرار يخصنا يا عادل تذكر فقط بأنني أحبك .. وأنني سأظل أحبك ما حييت
اعتلت مقعد السائق .. وأغلقت الباب .. ثم أنزلت زجاج النافذة لتلقي نحوه نظرة أخيرة وهي تقول بصوت هز كيانه :- إياك أن تنسى يا عادل .. إياك أن تنسى .
راقبها وهي تبتعد بالسيارة حتى غابت في قلب الزحام .. غير مبال بالمارة من حوله .. كان غارقا في أحاسيسه القوية نحو المرأة العنيدة والرائعة التي تركته لتوها مصرة على توصم روحه بختم حبها إلى الأبد .. همس أخيرا :- لن أنسى يا منى .. لن أنسى
وعاد أدراجه إلى البيت .. إلى وحدته وأوراقه .. الملجأ الوحيد له من ويلات القدر التي لا تنتهي .. فهل مازال في انتظاره المزيد ؟
أنت تقرأ
مرّت من هُنا(الجزء الثاني من سلسلة للعشق فصول)مكتملة
Lãng mạnرواية للكاتبة المبدعة والمتألقة blue me الجزء الثاني من سلسلة للعشق فصول حقوق الملكية محفوظة للمتألقة blue me