الفصل الثالث والثلاثون

2.8K 117 8
                                    

الفصل الثالث والثلاثون

الصخرة



كان الجو ممطرا ذلك النهار .. السماء كانت رمادية وقد حجبت الغيوم ضوء الشمس .. خلت الشوارع من البشر إلا من قلة لم يمتلكوا ترف الاعتصام في بيوتهم في جو مكفهر كهذا ..
الجو الكئيب للمدينة .. لم يمنع صلاح من تأمل الطرقات المألوفة .. والمباني الغير متجانسة بحنين غريب .. وقد علت فمه شبه ابتسامة .. كم أسبوع مر على غيابه .. واحد .. ثلاثة .. أربعة .. لم يكن مهما ... إذ أنه رغم سفره الدائم . .لم يشعر يوما بكل هذا الحنين والشوق للعودة إلى الوطن
ترجم أفكاره صوت مرافقه يقول هادئا :- ما أحلى العودة إلى الوطن .. أظننا لا نعرف حقا قيمة ما نمتلكه حتى نفقده .
التفت صلاح إلى الرجل الجالس إلى جانبه في المقعد الأمامي من سيارة فارهة تخص إحدى شركاته .. أحضرها سائق يعمل لديه منذ فترة طويلة إلى المطار وقد أرسله رشاد .. كان هشام عطار يشبه الرجل الذي كانه قبل اختفائه قبل أسابيع .. نفس الوجه الرجولي الوقور .. والضخامة التي شابها شيء من النحول .. كان هادئا نسبة إلى رجل نجا لتوه من الأسر .. وعاد أخيرا إلى الوطن وقد ظن بأنه لن يفعل أبدا ..
من الغريب لصلاح أن يحافظ رجل عانى كما عانى هشام على رباطة جأشه بهذه القوة.. بدا هشام عطار وكأن شيئا على الإطلاق لا يمكن أن يكسر إنسانا بشموخه .. وقوة إرادته ..
فصلاح مازال يذكر المرة الأولى التي رآه فيها بعد أن أنهى مفاوضاته مع خاطفي هشام .. وأقنعهم بتسليمه له .. لم يهتم بما اضطر لدفعه كفدية مقابل إطلاق سراحه .. لم يهتم بالإرهاق النفسي والبدني الذين عانى منهما خلال الأسابيع السابقة .. لقد كان حاسما عندما أصر على الذهاب إلى هشام بنفسه .. وتمكن بطريقته من إقناع خصومه بأخذه هو إليه .. وكأن مجرد التفكير بأي إساءة للرجل الأكبر سنا .. حتى بجره لملاقاته .. كانت تزعجه
سار خلف رجال بضخامة الوحوش عبر أروقة مظلمة بين أقبية المكان الذي تم فيه اللقاء .. فتح أحدهم باب معدني ثقيل .. وقال بفظاظة :- لديك زوار
تجاوز صلاح مرافقيه ودلف إلى الحجرة الصغيرة الرطبة .. ليرى هشام عطار كما لم يتوقع أبدا أن يراه في مكان كهذا .. لقد كان يصلي ..
كان قد افترش الأرض القذرة بجرائد قديمة مصفرة .. وبدا عليه الخشوع التام وهو ينهي صلاته بهدوء وكأن لا وجود لمقتحمي عزلته .. رفع عينيه .. وانتقلت نظراته بين الرجال الثلاثة .. ثم توقفت فوق صلاح .. فبرقت عيناه الحالكتين السواد .. دون أن يظهر على وجهه الشاحب الغير حليق .. أي ردة فعل على رؤية ضيفه الجديد
نهض ببطء وهو يلملم الجرائد المهترئة ويطويها على مهل .. بينما كان يقول بهدوء :- أليست هذه مفاجأة غير متوقعة ؟ ... صلاح النجار شخصيا يزور سجني المتواضع .. لا أعرف إن كان علي أن أسعد لقدومك .. أم أتمتم أسفا .. قل لي بأنك لم تأت كي تشاركني هذه الزنزانة .. فهي أكثر ضيقا من ان تتسع كلينا
لوى صلاح فمه بشيء من السخرية .. وقال :- لا مكان مهما كان متسعا بقادر على استيعابنا معا يا عطار
ابتسم هشام .. شاحبا ومرهقا .. إنما واثقا ومؤمنا .. وقد ظن صلاح بأن إعجابه بهشام عطار لا يمكن أن يزيد أبدا .. التفت صلاح نحو الحارسين الضخمين مخاطبا إياهما بالروسية :- هلا تركتمانا لدقائق .
لم يكن لديهما أي سبب للرفض .. فسرعان ما سيغادر الرجلان المكان إلى الأبد .. فور انفرادهما .. اتجه هشام نحو طاولة معدنية احتلت مكانا صغيرا في الزاوية .. وصب من دورق معدني القليل من الماء في كوب زجاجي قليل النظافة .. لوح به قائلا لصلاح :- كنت لأقدم لك شيئا من الضيافة لولا عدم امتلاكي ما يناسب مقامك
هز صلاح رأسه قائلا وهو يتأمل المكان :- لقد كانوا يهتمون بك جيدا .. صحيح ؟
لحق هشام بنظراته قائلا :- بالتأكيد .. لقد حظيت بعناية من درجة الخمس نجوم .. لا يمكن أن أتذمر أبدا
لم يكن التهكم جزءا من شخصية هشام عطار التي يعرفها صلاح .. إلا أنه قدر بأن الاسابيع الماضية التي قضاها هنا .. كانت لتفقد أي رجل قوي الشكيمة صوابه .. قال متوترا :- هل أذاك أحدهم ؟ لقد أكدوا بأنك قد عوملت جيدا .. وأن أحدا لم يتعرض لك
قطب هشام قائلا :- هل أسمع أسفا بين كلماتك يا صلاح ؟تستطيع العودة إليهم وإقناعهم بممارسة بعض أساليب التعذيب الروسية معي ... لن يترددوا كثيرا .. أؤكد لك
عندما لم يستجب صلاح البارد الملامح للسخرية .. قال هشام بشيء من العصبية :- إهدأ يا نجار .. نحن لسنا في جوانتانامو .. ليس لهؤلاء الرجال سبب يدفعهم لأذيتي .. مشكلتهم ليست معي أنا ..
هز صلاح رأسه قائلا :- أعرف ..
جمدت ملامح هشام للحظات .. قبل أن يقول ببرود :- رائع .. كم من الممتع أن تعرف بأن والدي أكثر سوءا مما كنت تظن .. أنه قادر على تزييف موته وخداع أقرب الناس إليه تاركا إياهم يعانون من نتيجة أعماله .. كم من الرائع أن تنظر في وجهي وتخبرني بأنك تعرف بأن أبي المختبيء لم يتعب نفسه بالظهور حتى وهو يعرف بأن حياة ابنه البكر على المحك ..
قال صلاح بهدوء :- لم يكن الأمر ممتعا إلى هذا الحد .. أنا أعرف معنى خيانة أعز الناس لك .. كما أنني أنا من تكبد عناء قطع كل هذه المسافة إلى هنا .. والتحايل بكل وسيلة ممكنة لإخراجك من هنا..
التقت نظراتهما طويلا .. قبل أن يتمتم هشام:- لا أعرف حقا كيف وصلت إلى هنا .. لقد رفضوا حتى الإصغاء إلي عندما عرضت عليهم دفع ديون والدي ..
هز صلاح كتفيه قائلا :- لطاما كنت بارعا في إقناع الآخرين
فجأة .. ظهر إرهاق شديد على ملامح هشام وهو يتحرك بتثاقل جالسا على طرف السرير الضيق .. قال بتعب :- أظن هذا أنا الآخر .. لا أعرف السبب .. إلا أنني لطاما فكرت بأنك الوحيد القادر على إخراجي .. أعرف بأن الجميع يظنني ميتا .. وهذا كان يريحني إذ أن أحدهم لن يفكر بالمجيء ورائي وتعريض نفسه بالخطر لأجلي
خطا صلاح بهدوء وبطء .. وجلس إلى جوار هشام قائلا :- أماني تعرف بأنك حي .. إنها تنتظر عودتك في الوطن .. لم تصدق قط بأنك ميت .
نظر هشام إلى الأرض الداكنة .. وقال بصوت أجش :- حقا ؟ .. أتساءل كيف تمكنت من الذهاب إليك .. وطلب المساعدة منك ؟
قال صلاح بجفاف :- لم تأت بنفسها .. وما كانت لتفعل حتى لو كانت حياتها متوقفة على هذا .. وعندما جاءت .. أتت بتمام معها .. وكادت تضربني مرتين قبل أن أتمكن من إخبارها بأنني قادر على إعادتك .
ضحك هشام وهو يرفع رأسه ماسحا عينيه بكفيه .. فخمن صلاح أن دموعا قد خانته أخيرا بعد كل ما احتمله لأسابيع .. قال بحنان :- هذه هي أماني
ثم نهض قائلا :- لا فكرة لدي عن شعورك .. ولكن إن كنت حقا قد جئت لإخراجي .. فأنا أكثر من مستعد لمغادرة هذا المكان

مرّت من هُنا(الجزء الثاني من سلسلة للعشق فصول)مكتملةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن