الفصل الخامس

2.8K 110 1
                                    

الفصل الخامس

(في وكر شيطان)

مر أسبوعان على استلام لندا لوظيفتها الجديدة .. وخمسة أيام على انتقالها فجأة للعمل بشكل مؤقت في مكتب أحد الموظفين الكبار في الشركة .. وقوع الاختيار عليها لهذا العمل دونا عن غيرها من الموظفات الأكثر قدما منها وترها .. خاصة مع نظرات الاستنكار من زميلاتها الحاقدات .. والهمسات اللئيمة حول سبب اصطفائها الحقيقي ..
بعد مرور أيام .. نسيت لندا مخاوفها وهي تنسجم مع مديرها الجديد .. كان كبيرا في ا لسن .. شديد المرح والطيبة .. استقبلها ببرود في البداية .. ثم قال بتعالي :- فلتعلمي بأن المواصفات المطلوبة لدى أي موظف تحت إمرتي يجب أن تتضمن الكفاءة أولا .. والحسن ثانيا .. وجودة صنع القهوة وهو الأهم ..
ارتبكت غير عارفة إن كان يمزح أم لا .. إلا أنه سرعان ما ضحك عاليا وهو يقول :- أوقعتك في الفخ .. صحيح ؟ .. ستعملين لدي لعدة أسابيع حتى تشفى سكرتيرة ( المعلم ) ويعيد لي سكرتيرتي المخلصة أخيرا .. إن كنت نشيطة ومطيعة .. جيدة في صنع القهوة والشاي .. قد أبقيك معي دائما .. فلا أحب علي من تغيير الوجوه القديمة بأخرى مليحة ..
ابتسمت بارتباك .. غير قادرة على الثقة في مزاج الرجل . وفقا لخبرتها السيئة مع المدراء سيئي الخلق .. إلا أنها بعد ذلك أدركت بأن حافظ سعيد كان إنسانا مرحا بطبعه .. كما كان جديا للغاية وقت الحاجة .. فإنه كان طيبا .. وأبويا جدا في معاملته لها .. بحيث ذكرها عدة مرات بوالدها عندما كان يطلب منها برفق الذهاب لتناول شيء في فترة الغداء .. كانت تنزل إلى كافتيريا الشركة .. تنزوي في طاولة بعيدة .. تتناول شطيرة صغيرة وهي تفكر محاولة حل اللغز
سكرتيرة السيد صلاح .. السمراء الجميلة التي رأتها ذلك النهار الذي اقتحمت فيه مكتبه .. مريضة ..
وسكرتيرة السيد حافظ سعيد .. حلت مكانها بسبب كفاءتها المشهودة لها .. وقدمها في الشركة .. فتم اختيارها هي للعمل مكانها
لماذا ؟؟ .. وما علاقة هذه الظروف المتشابكة بنظرة صلاح النجار الماكرة والمخيفة عندما قبل فجأة بتوظيفها لديه ؟ .. هل جعلتها تجاربها السيئة شكاكة ومرتابة في الآخرين وغير قادرة على تقبل العطايا دون إساءة للنوايا ؟
ذلك النهار .. وبعد ان أنهت عملها .. وحملت حقيبتها مغادرة المكتب .. عرفت بأنها كانت محقة في شكوكها .. وتعهدت بعدها بألا تتجاهل غريزتها ثانية أبدا
تجاوزت مدخل المبنى الضخم .. وسارت في طريقها المعتاد نحن موقف الباص .. لتبطيء خطواتها فجأة وتتوقف تماما وهي ترى رجلا تعرفه جيدا .. يقف في انتظارها إلى جانب الطريق إلى جوار سيارة حديثة الطراز .. كان الرجل الضخم الوسيم الذي اتصل بها قبل عام تقريبا لتجنيدها كجاسوسة على رب عملها آن ذاك .. خفق قلبها توجسا عندما نزع نظارته السوداء .. ونظر إليها بعينيه الداكنتين الهادئتين قائلا :- آنسة لندا .. تبدين بخير تماما كما في آخر مرة تقابلنا فيها
قالت بتوتر متغلبة على المفاجأة :- آخر مرة رأيتك فيها رفعت يديك عاجزا عندما طردت من عملي بسببك وبسبب رئيسك
قال باسما :- أنا آسف .. لم أكن سوى عبد مأمور .. هلا تحدثنا قليلا قبل ذهابك إلى بيتك ؟
قالت بقلق :- لا أستطيع .. سيفوتني الباص
:- سأوصلك بنفسي بعد انتهاء حديثنا .
نظرت حولها .. فلم تر أحدا من موظفي الشركة .. ورغم هذا .. أبت أن ترافقه قائلة :- أنا آسفة .. ليس هناك ما أريد سماعه منك .. لقد نلت ما يكفي منك ومن رئيسك سابقا ..
وقبل أن تبدأ في التحرك كانت لهجته قد انقلبت إلى صرامة شديدة وهو يقول :- أنت لست مخيرة يا آنسة لندا .. السيد صلاح ينتظرك في مكان هادئ للتحدث معك بنفسه هذه المرة .. مستقبل عملك في هذه الشركة متوقف على تعاونك
شحب وجهها وهي تواجهه من جديد ..لطالما كان هذا الرجل يخيفها بطريقة مختلفة عن صلاح النجار .. فهدوءه .. وملامحه الخشنة الرزينة .. كانت تخفي صلابة وقوة مخيفة .. لقد كان مختلفا عن السيد صلاح الذي تعرف منذ النظرة الأولى إليه أي شيطان تواجه .. كان التناقض بين سماحة نظرة رشاد خياط .. وقسوته الخفية .. يربكانها كثيرا .. وكأنها لا تعرف بأي طريقة عليها أن تتعامل معه
.. تمتمت باضطراب :- لماذا ؟ ما الذي يريده مني ؟
قال بخشونة :- ستعرفين ينفسك فور مرافقتك لي
فتح باب السيارة في انتظار أن تدخلها بكل بساطة .. تراجعت خطوة .. وحدقت به بعينين متسعتين
.. لقد كانت خائفة .. ومتأكدة بأن هذا اللقاء لن يكون لصالحها .. تذكرت الطريقة التي حصلت فيها على الوظيفة .. غضب صلاح النجار من ابتزازها العفوي له .. نظرة عينيه .. كان عليها أن تعرف بأنها لن تنجو بنفسها .. لاحظ رشاد دموع الخوف المحتجزة في عينيها .. فرق قلبه للفتاة الصغيرة الحجم .. وقال بشيء من الرقة :- لا داعي لكل هذا القلق .. ستكونين بخير .. يرغب السيد صلاح بمحادثتك فقط
لم تكن واثقة .. ولكنها لم تملك خيارا .. نظرت حولها للمرة الأخيرة لتضمن عدم وجود متفرجين لصعودها إلى سيارة رجل غريب .. ثم امتثلت لأمره
التزمت الصمت طوال الطريق .. تفرك يديها بتوتر وهي تتحاشى النظر إلى رشاد الهادئ بشكل مثير للأعصاب .. ما الذي يريده منها صلاح نجار ؟ .. رغم كراهيتها له .. ولكنها أبدا لم تفكر بان غرضه منها قد لا يكون أخلاقيا .. هذا الرجل يريد استخدامها مجددا .. عرفت هذا منذ اليوم الأول .. وإن ظن بأنها ستتواطأ معه ضد أي شخص آخر فستكون في انتظاره مفاجأة كبيرة .. أبدا .. أبدا لن تؤذي إنسانا آخر لأجل المال مهما كانت العواقب
لاحظت بأن السيارة تسير عبر طرقات أحد الأحياء الراقية .. التي بالكاد زارتها لندا خلال زياراتها النادرة لمنزل منى .. أوقف رشاد السيارة أمام منزل جميل .. مكون من طابقين .. وقد برزت الأشجار الكثيفة والمزهرة من خلف السور العالي المصنوع من الحجر الأبيض الثمين .. ترجل من السيارة دون أي كلمة .. ودار حولها ليفتح لها الباب .. ترددت قبل أن تنزل غير قادرة على نزع بصرها عن ذلك المنزل الخيالي .. والذي بدا تصميمه من مكانها حديث الطراز .. راقي الذوق .. أشار لها بالسير أمامه فقالت بقلق :- ما هذا المكان ؟
قال بنفس الهدوء الذي لم يفارقه لحظة :- إنه منزل السيد صلاح
أحست وكأنها قد صفعت بقوة وهي ترتد إلى الوراء قائلة بارتباك :- منـ .. منزله ؟
قال ببرود وقد لاحظ نظرة عينيها المرتابة :- اطمئني .. لو أراد السيد صلاح بك ما خطر ببالك لتوه .. لما أحضرك إلى منزله ..
احمر وجهها وهي تفكر بسخافتها .. فلماذا قد يفكر رجل كصلاح النجار بها ؟ .. صحيح أنها مليحة الوجه .. إلا أنها أبدا لن ترقى لمستوى النوع الذي قد يعجب الرجال من أمثاله .. صحيح ؟
تذكرت رئيسها السابق .. شخص دبق وغليظ .. قد يتحرش بأي شيء يتحرك .. لا .. السيد صلاح لن ينظر إليها مرتين كامرأة على الإطلاق .. تذكرت سكرتيرته الحسناء .. ثم تذكرت أماني .. ابنة عمه البارعة الجمال .. وأحست فجأة ببعض مخاوفها تنزاح عن كاهلها ..
اتجها نحو البوابة المصنوعة من الحديد المشغول .. ورأته يضغط على زر في جهاز الاتصال الداخلي .. وسرعان ما صدر أزيز خافت فتح الباب على إثره على الفور ..
سارت خلفه عبر حديقة صغيرة .. لفتت نظرها فورا بسبب حبها الفطري لكل ماهو طبيعي .. أول ما خطر في بالها وهي تستنشق رائحة أزهار الربيع .. بأن هذه الحديقة تحتاج إلى القليل من العناية .. لتتحول إلى جنة
فتحت الباب ا لداخلي لهما امرأة كبيرة في السن .. كانت بشوشة الوجه .. بابتسامة عفوية وحنون وهي ترحب برشاد بحرارة .. لاحظت ملابسها البسيطة .. وغطاء الرأس الذي أخفى شعرها .. وخمنت من لهجة الاحترام التي خاطبت بها رشاد .. بأنها مستخدمة في هذا البيت الكبير
قال رشاد بلطف :- مساء الخير يا أم توفيق .. هل هو في مكتبه ؟
نظرت المرأة إلى لندا بدون تعبير .. وكأن توافد الفتيات لزيارة سيد البيت أمر عادي للغاية .. وقالت ببساطة :- إنه في انتظاركما
قاد رشاد لندا عبر صالة واسعة لم تستطع إلا أن تحدق مذهولة بتفاصيل الديكور الدقيقة والمبتكرة .. كان المكان يوحي بالأناقة العصرية مع ألوان راقية .. ممتزجة بلمسات أثرية ذات ذوق رفيع خلقت تناقضا جذابا .. قارنت بين هذا المكان الخيالي .. والشقة الصغيرة المعدمة التي تقيم فيها مع عائلتها .. والتي بالكاد تبلغ مساحتها نصف مساحة هذه الصالة وحدها .. وشعرت بشيء من الحسرة على مصير عائلتها المحرومة من أبسط مظاهر الرفاهية .. بعكس أشخاص لا يستحقونها حقا ..
طرق رشاد باب غرفة المكتب كما خمنت لندا .. وكانت محقة إذ سرعان ما دخلا إلى غرفة فسيحة استقر صاحب البيت خلف مكتب عريض يوازي مكتبه في الشركة فخامة .. محاط بأحدث الأجهزة الالكترونية التي يحتاج إليها رجل أعمال مثله .. وبمكتبة ضخمة ممتلئة بالكتب كست جدارا كاملا .. بينما احتلت نافذة عريضة أطلت على حديقة المنزل جدارا آخر .. وقد أخفت نصفها الستائر المخملية الداكنة الألوان .. والمتلائمة تماما مع السجادة الوثيرة التي غطت الأرض المصقولة
انتهت من تأملها المكان عندما سمعت صوته الصارم الساخر يقول :- هل انتهيت من التأمل ؟
نظرت إليه بشيء من الغضب والتوتر .. فرأته كما تذكره تماما .. شديد الوسامة .. الأصح .. مخيف الوسامة .. إذ أن كمال ملامحه الأرستقراطية كانت تبعث في نفسها شيئا من النفور والإحساس بالنقص .. وكأنه لا ينتمي إلى عالم البشر .. كان يرتدي قميصا بلون رمادي داكن مفتوح الأزرار عند العنق .. بينما شمر عن ساعديه القوين لتظهر شعيرات خفيفة داكنة .. جعلت رؤيتها رجفة خفيفة تسري في أعماقها ..
لم تعرف ما الذي يميز هذا الرجل ويجبرها دائما على محاولة التقاط أدق تفاصيله .. وكأنها تحاول اقتناص أي نقطة ضعف تجدها لديه .. بدا لها وكأنه منزه عن أي نقيصة .. مترفع عن الفانين أمثالها .. ينتمي إلى فئة أعلى شأنا .. إلى فئة شياطين الأرض .. نعم .. هذا الرجل .. كان شيطانا
هو أيضا كان ينظر إليها .. بطريقته المزدرية الساخرة .. وكأنه يقرأ أفكارها .. ويؤكد احتقاره بنظراته الثاقبة التي دققت في كل جزء من مظهرها الأنيق البسيط ..
قال بسخريته نفسها :- هل أعجبك المكان ؟
قالت أخيرا بتوتر :- نـ .. نعم .. إنه جميل
قال رشاد بهدوء :- لقد وعدت الآنسة لندا بألا أؤخرها يا صلاح .. سأترككما تتحدثان وأجري مكالمة هاتفية
راقبته لندا بذعر وهو يغادر الغرفة .. مهما كان امتعاضها منه كبيرا .. فهي تثق تماما بأنه لن يؤذيها .. بعكس رئيسه الذي لاحظ ذعرها قائلا بابتسامة باردة :- لا تخافي .. لن أتهجم عليك في غياب صديقي
نهض واقفا .. ودار حول مكتبه متجها نحوها فتراجعت بقلق .. توقف فجأة ناظرا إليها من رأسها حتى أخمص قدميها .. وكأنه يخبرها بأن مخاوفها ليست مستبعدة فقط .. بل مضحكة وسخيفة .. قبل أن يقول ببرود :- اجلسي
جلست مترددة على أحد المقاعد الجلدية .. بينما جلس هو على المقعد المواجه لها .. فأخفضت بصرها نحو السجادة .. غير قادرة على مواجهة نظراته الثاقبة .. سألها بهدوء :- كيف تجدين وظيفتك الجديدة ؟
قالت بارتباك دون أن ترفع رأسها :- جيدة
:- هل أنت مرتاحة فيها ؟ أعني .. هل يعاملك السيد حافظ بشكل جيد ؟
:- إنه لطيف جدا معي
أحس صلاح بشيء من الغضب من الطريقة التي كانت تحدثه فيها وكأنها تستجوب من قبل سفاح .. شعر بعدم ارتياح مفاجئ مما هو على وشك أن يطلبه منها .. إلا أنه قسا قلبه كالعادة .. فخلف هذه الواجهة الضعيفة والخائفة .. تقبع امرأة وقحة لم تتوانى عن ابتزازه بوقاحة للحصول على ما تريد
قال مرغما نفسه على الهدوء :- هل يثق بك ؟
نظرت إليه بدهشة وكأنها لم تفهم سؤاله .. ثم قالت بتوتر :- لا أعرف .. فأنا أعمل معه منذ فترة قصيرة ..
:- هل يوكلك بالمهام الدقيقة ؟ كإجراء اتصالات .. وتصفح بريده الالكتروني .. أو يترك لك مكتبه مفتوحا عند غيابه لأي سبب طارئ ؟
تعاظم الشك والقلق في نفسها بسبب الأسئلة الغريبة .. لم تكن غبية .. هناك هدف من وراء هذه الأسئلة .. وهي على وشك اكتشاف هذا الهدف
رفعت رأسها قائلة قوة :- ما الذي تريده مني يا سيد صلاح ؟
ابتسم .. هل فعل حقا ؟ .. هل يمكن تسمية ذلك الالتواء البسيط لفمه الجذاب بتعبير قاسي ومخيف .. ابتسامة ؟
قال :- انت ذكية يا آنسة لندا .. وشكوكك في محلها .. أنا حقا أريد منك شيئا .. وإلا ما كنت وظفتك في شركتي .. هل ظننت حقا بأن تهديدك لي وابتزازك كانا السبب في تغيير رأيي حولك ؟ .. إن شككت للحظة واحدة بأنك قادرة على التسبب بأي مشكلة لي .. أو لأي أحد من أفراد عائلتي .. لما كنت تتنفسين حتى الآن .. أتفهمين ما أقول ؟
ابتلعت ريقها بخوف وقد أسرتها العينان الرماديتان .. انكمشت في مقعدها وهي تنظر إلى الباب بتوق لم يفته .. استرخى في جلسته .. ونظر إليها بإمعان ملاحظا باستغراب مدى صغر حجمها داخل المقعد الضخم .. كل شيء في هذه الفتاة كان منمنما .. من ملامح وجهها .. أصابع يديها التي كانت تفرك بعضها بتوتر .. قدميها المحشورتين في حذاء دقيق بدا شبيها بحذاء اللعبة .. رغب بالابتسام لفكرة أن جودي ستحب أن تلهو بها في لحظات طفولتها العابرة والتي لم تنته رغم زواجها .. عيناها .. كانتا الشيء الوحيد الغريب في مظهرها الضئيل .. وقد اتسعتا بشدة ليبرز لونهما المميز .. أهو ذهبي ؟ .. نعم .. لقد كانتا شبيهتين بقطعتين من الذهب المشوب بالحمرة
قال بهدوء :- أريد منك معلومات محددة عن حافظ سعيد
لم يظن حقا بأن عينيها قادرتين على الاتساع اكثر .. شحب وجهها .. وارتجفت شفتيها وهي تهمس :- هل .. هل تطلب مني التجسس على السيد حافظ ؟
أومأ برأسه ببساطة قائلا :- يمكنك وصف الأمر بهذه الطريقة .. مهمتك هي إبلاغي بنوع معين من المعلومات ستعرفينها لاحقا .. عن اتصالاته .. معارفه .. من يزوره .. بريده الإلكتروني .. كل شيء .. ستكونين يقظة تماما في مراقبة كل ما يتعلق به .. وإبلاغي به أولا بأول
أغمضت عينيها .. وتذكرت تلك الفترة .. عندما كانت تجبر نفسها على الاستماع إلى اتصالات هشام عطار .. والتجسس عليه من خلف الباب أثناء اجتماعه مع خطيبته .. الطريقة التي أذلها فيها عندما عرف الحقيقة .. الإهانة واحتقار الذات الذين أحست بهما عندما طردها من عملها مذللة بعارها ..
لم ترغب بتجربة هذا الإحساس من جديد .. لا .. لن تكون أبدا سلاح هذا الرجل القذر ضد أعداءه .. وأبدا لن تؤذي رجلا لطيفا لم يعاملها إلا بكل احترام أبوي منذ عملت لديه .. مهما كان الثمن
وقفت قائلة بعنف :- هذا لن يحدث أبدا
نظر إليها قائلا بهدوء مستفز :- لا خيار أمامك
قالت من بين أسنانها :- بل لدي الخيار وانا أرفض التجسس على أي أحد من جديد لأجلك
قال بصرامة :- لقد فعلتها من قبل .. وستفعلينها مجددا .. لأجل المال الذي ستحصلين عليه كما في المرة السابقة
أغمضت عينيها للحظات رافضة أن تتذكر خزيها .. ثم فتحتهما قائلة ببغض :- أنا لا أريد منك مالا ... لقد أخطأت في المرة السابقة وبعت ضميري ومصداقيتي .. ولن أفعلها مجددا حتى مقابل أموال الدنيا كلها
نهض واقفا .. مشرفا عليها من علو ..وقال ببرود شديد :- أكرر .. لا خيار أمامك .. لماذا تظنينني وظفتك لدي في المقام الأول .. ببساطة .. لقد احتجت إلى مواهبك .. بهذا المظهر الطفولي .. والعينين البريئتين .. لن يشك أحد على الإطلاق بقدرتك التي أثبتت جدارتها في خداع الآخرين .. وإلا .. فأنا لا أحتاجك لدي في الشركة على الإطلاق
رمشت بعينيها .. وقالت باضطراب :- ماذا .. ماذا تعني ؟
:- أعني أنك ومنذ الغد .. ستجمعين جميع متعلقاتك في الشركة .. وتغادرينها بكل هدوء بحثا عن وظيفة أخرى .. مع العلم .. أنني أتعهد إليك بأنك لن تجدي من يقبل بتوظيفك .. حتى كعاملة نظافة
قالها بوحشية جعلت جسدها ينتفض .. اختفت فجأة كل قدرتها على التحدي .. كل ما أحست به هو الخوف من المجهول .. من المصير البشع القادر هذا الرجل على إرسالها إليه .. لقد كانت بحاجة إلى الوظيفة .. ترجمت حاجتها على شكل كلمات بائسة :- أنا بحاجة إلى العمل
قال ببساطة :- ستفعلين إذن ما أقوله لك
ترقرقت الدموع في عينيها .. فلم تسمح لها بالنزول .. أحست بقبضة من الألم تمسك بقلبها .. وتضغط عليه حتى تكاد تمنعه من الخفقان .. ليتها تمتلك القدرة على رمي تهديده في وجهه .. ليتها ما كانت مكبلة بأم مريضة وأخ عاجز عن القيام بدوره كما يجب .. ليتها كانت تعيش في ظروف أخرى .. في زمن آخر .. وتاريخ آخر .. أمسكت بظهر المقعد لتمنع نفسها من الانهيار .. لقد كتب عليها أن تكره نفسها إلى آخر يوم في حياتها ..
كان هو يقف امامها .. شامخا .. قويا .. قاسيا بشكل طاغي .. غير مبال بمظاهر ضعفها .. لماذا يفعل إن كان سيحصل في النهاية على ما يريد
تمتمت أخيرا بصعوبة :- ماذا .. ماذا تريدني أن أفعل ؟
أومأ برأسه وكأنه كان متوقعا لاستسلامها السريع .. وقال ببرود :- سأبقى على اتصال بك .. وسنلتقي مرارا لأعرف منك ما أريده من معلومات
تناولت حقيبة يدها وقد عرفت من لهجته بأن اللقاء قد انتهى .. رفعت رأسها أخيرا بمحاولة يائسة للحفاظ على ما تبقى من كبريائها .. وقالت :- أي لقاء آخر لنا لن يكون هنا .. هذه أول مرة أدخل فيها منزل رجل غريب .. وأريدها أن تكون الأخيرة
ابتسم ساخرا وكأنه يهزأ من محاولتها لادعاء الشرف .. وقال :- سنتفق على مكان محايد للقاء
دخل رشاد في هذه اللحظة .. وكأنه قد عرف بطريقة ما بأن دوره قد حان .. قال بتهذيب مصطنع :- آسف على تأخري .. اتصال مهم ..
قال صلاح ببرود :- لا بأس .. لقد أنهينا انا والآنسة حديثنا .. وهي مستعدة للمغادرة
نظر رشاد إلى الفتاة الشاحبة اللون .. والتي أطبقت فمها الرقيق بقوة منعا له من الارتجاف .. وقال برقة :- هل أنت مستعدة يا آنسة لندا ؟ .. سأوصلك إلى بيتك كي لا تقلق عائلتك
لاحظت لندا كيف رفع صلاح حاجبيه بسخرية من رقة صديقه وكأنها أتفه من أن تستحق معاملة مهذبة .. وراقبته وهو يعود ليجلس خلف مكتبه مشعلا سيجارته متجاهلا وجودها تماما .. فتمتمت بموافقة .. ولحقت برشاد إلى الخارج
في السيارة .. وبينما يقود رشاد وفقا لإرشاداتها .. قال بهدوء :- أعرف بأن الأمر صعب عليك .. إنه مجرد عمل .. لا تأخذي الأمر بشكل شخصي
قال بمرارة :- حقا .. أخبرني يا سيد رشاد .. هل كنت لتقبل لشقيقتك بأن تكون مكاني ؟
قطب رشاد .. ولم يرد .. فقالت بضحكة قصيرة :- لقد توقعت هذا
أوقف السيارة بناءا على طلبها عند مدخل الحارة المتواضعة .. شكرته بوجوم قبل أن تترجل من السيارة وتختفي في قلب الزحام ..
لا شقيقات لرشاد .. ولكن لو أنه حظي بواحدة .. فإنه ما كان ليقبل أبدا بأن تكون مكان لندا سليمان في هذا الوقت .. محاولا تناسي شفقته وتعاطفه من الفتاة الشابة .. أدار رشاد السيارة .. وانطلق بها مبتعدا



قراءة ممتعة..
يتبع...

مرّت من هُنا(الجزء الثاني من سلسلة للعشق فصول)مكتملةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن