الفصل الرابع والعشرين
حفلة .. روادها من نار
بالكاد تمكن رشاد من وضع قميصه فوق كتفيه كيفما اتفق ليتمكن من الاستجابة لقرع الجرس المدوي الذي ضج في أذنيه ولم تمر دقائق على إنهائه لاستحمامه بعد .. شتم عندما تعرقل بحذائه المرمى بإهمال أمام الباب معبرا عن الحالة المزاجية السيئة التي سيطرت عليه لأيام .. قبل أن يفتح باب الشقة التي يقيم فيها مع والدته .. ليجد سبب ارقه وقلقه .. وغضبه الذي لا يخمد .. واقفا أمامه مباشرة
آية كانت على وشك أن تقرع الجرس للمرة الثالثة عندما أجفلها فتحه العنيف للباب .. تراجعت إلى الخلف وقد أخافتها ذبذبات الغضب التي طغت عليها من طلته الضخمة البدائية .. حدقت مذهولة بصدره العاري وشعره الرطب المشعث فوق رأسه .. واحمرت وجنتاها إذ انتابها إحساس قوي بالحرج والضعف إزاء هيئته الرجولية والعفوية المفاجئة .. الكراهية التي رأتها في عينيه وهو يرمقها بنظراته السوداء من رأسها حتى أخمص قدميها .. جعلتها تخفض بصرها ألما وحسرة على الأيام التي كانت نظرات الحنان والعشق في عينيه تلاحقها أينما تحركت
قال بجفاف متوقع :- ما الذي تفعلينه هنا ؟
عجزت عن الرد وقد خافت من قول ما يؤجج غضبه فيغلق الباب في وجهها قبل أن تتمكن من قول ما جاءت لأجله .. تابع كلامه بغلظة :- والدتي ليست موجودة ... وأنت غير مرحب بك في هذا المكان على الإطلاق
وعندما أراد أن يغلق الباب بالفعل .. حلت عقدة لسانها .. وأسرعت تهتف :- أرجوك .. لن آخذ من وقتك الكثير ..
رمقته العينان الزرقاوان بتوسل مس دفاعاته بقوة زادت من غضبه .. إلا أن فضوله اتجاه ما ترغب بقوله تغلب على إرادته .. ووجد نفسه يتراجع مفسحا لها الطريق قائلا بلا أي لباقة :- لديك ربع ساعة لقول ما لديك .. فأنا خارج
لحقت به إلى الداخل بسرعة وأغلقت الباب ورائها بارتياح للفرصة التي منحها إياها .. راقبته وهو يتراجع إلى داخل الصالة الكبيرة و يغلق أزرار قميصه موليا إياها ظهره دون أن يعيرها أي اهتمام وكأنها غير موجودة ..
نظرت حولها إلى الديكور الحميم للمكان والذي اتسم بالعفوية والدفء المميزين لشخصية والدة رشاد التي اعتبرتها آية دائما بمثابة والدة لها .. لاحظت بأن الصورة التي التقطت يوم احتفالهما بخطوبتهما مازالت متصدرة الجدار .. إلى جانب الصور العائلية .. فخمنت بأن رشاد لم يطلع والدته على مشاكلهما مما جدد آمالها حول علاقتهما ..
.. قالت بلطف محاولة كسر البرود بينهما :- يبدو موعدا مهما .. فأنت لا ترتدي هذا القميص إلا في المناسبات المهمة
نظر إلى قميصه الأزرق وكأنه قد أدرك لتوه ما يرتديه .. ثم رمقها بنظرة باردة وكأنه يخبرها بأن استغلالها لما تعرفه من تفاصيل حوله لن يساعدها في قضيتها .. ثم قال ببرود :- أنت محقة .. هو موعد مهم ولا يعنيك على الإطلاق ..
تجاهلت إهانته لها بإصرار وهي تقول بتعاسة :- إلى متى ستظل غاضبا مني يا رشاد ؟
لوى فمه متهكما .. وهو يرمقها بنظرات الاستخفاف .. ثم يتجاهلها منهمكا في البحث عن ساعته بين أرفف المكتبة الضخمة التي كست أحد الجدران .. ثم قال :- غاضب .. ولماذا علي أن أغضب منك ؟ .. كل ما فعلته هو خيانتي مع أعز أصدقائي .
هتفت بألم :- أنا لم أخنك يوما.
استدار نحوها فجأة هاتفا بشراسة :- ألا تعتبرين وقوعك في حب رجل آخر خيانة ؟
ترقرقت الدموع في عينيها إلا أنها سيطرت عليها بإرادة من حديد وهي تقول بتعاسة :- أنا لا أحب صلاح .. كم مرة علي أن أقولها لك ؟ .. لقد تركت العمل لديه منذ أيام وأظنك تعرف هذا بالفعل .. صلاح لا يهمني .. ليس كما تهمني أنت
اقترب منها فجأة بعنف جعلها تنتفض متراجعة .. إلا أنه لم يلمسها .. اكتفى فقط بان صرخ في وجهها :- لم لا تكونين صادقة وصريحة لمرة واحدة .. وتعترفين على الأقل بأي طريقة يهمك صلاح ؟
اضطربت عيناها .. وهربتا من نظراته لثانية واحدة جعلته يفقد صوابه ويمسك بذراعيها ويهزها بقوة جعلت رأسها يدور وهو يصرخ :- أنت غير قادرة حتى على الكذب علي ونفي اهتمامك به ..
أغمضت عينيها محاولة الاحتفاظ بوعيها .. ومقاومة ذعرها الشديد مما قد يسفر عنه غضبه .. وهتفت بلوعة :- الأمر ليس كما تظن .. أنا فقط لا أستطيع شرح الأمر لك .
دفعها بعيدا عنه باشمئزاز وهو يهتف من بين أسنانه :- اخرجي من هنا قبل أن أرتكب حماقة قد يندم عليها كلانا .
ابتعد عنها بخطوات سريعة إلى الجانب الآخر من الصالة .. وضرب الجدار بقبضته بعنف معبرا عن النار الهائجة داخله .. تدفقت الدموع غزيرة من عينيها هذه المرة وهي تنظر إلى الرجل الذي عرفته دائما مرحا ..متزنا .. حار العواطف وهو يتحول بسببها إلى رجل مرير غاضب .. ما الذي فعلته به ؟ .. إلى أي حد جرحته وأهانته .. وأذلته بإخفائها الحقيقة عنه ؟ .. إلى أي حد حطمت ثقته بها وبالآخرين عندما خانت مشاعره الصادقة اتجاهها
شهقت باكية وهي تقول بألم :- أعرف بأنني قد أخطأت بحقك ... أعرف بأنني قد خسرت الحق في ثقتك وحبك لي .. وأنني لا أستحق أن تصدق أي شيء مما أقوله لك .. إلا أنني أقسم لك بأنني أحبك يا رشاد .. أحبك ولا أريد سواك .. إن أبعدتني عنك فإنك ستدمرني إذ أنك فرصتي الوحيدة للسعادة .. أنا مستعدة لفعل أي شيء .. أي شيء كي أحصل على غفرانك .. ثم حبك من جديد
التفت نحوها فجأة وقد برقت عيناه السوداوان ببريق مخيف بعث الرجفة في أوصالها .. وقال بلهجة جمدت الدماء في عروقها :- أي شيء
حدقت به بين دموعها بتوتر .. وحبست أنفاسها وهي تراه يستدير ببطء .. ويسير نحوها بطريقة ذكرتها بالفهد وهو يتسلل خلسة نحو فريسة غافلة .. عاد يقول وهو يقترب منها أكثر فأكثر :- أي شيء يا آية ؟
أرادت أن تتحرك هاربة من الخطر في عينيه .. من عنف نواياه الواضح في الذبذبات الصادرة عنه .. إلا أنها لم تستطع .. تسمرت مكانها .. تحدق به كالمسحورة .. بأنفاس لاهثة وقلب تسارعت نبضاته بترقب وخوف .. تألقت القسوة في عينيه وهو يقف أمامها .. ويقول بخفوت :- كل شي .. أو لا شيء على الإطلاق يا آية
تلاحقت أنفاسها وهي تتراجع إلى الوراء خطوة لم تكتمل .. عندما أمسك بها فجأة .. محتفظا بالمسافة بينهما .. أغمضت عينيها قادرة على استنشاق رائحة محلول ما بعد الحلاقة .. والإحساس بحرارة جسده القوي على بعد سنتيمترات منها .. قال بصرامة :- انظري إلي
رعشة خفيفة تخللت صرامة صوته .. رعشة اضطراب دفعتها للامتثال الفوري لأمره .. نظرت إلى عينيه .. فصدمتها الرغبة العنيفة المطلة منهما .. رغبة ممزوجة بالغضب والتصميم .. قال بقسوة :- لأشهر .. لاحظت نفورك من كل خطوة كنت أقوم خلالها بالاقتراب منك .. في كل مرة كنت ألمسك .. أو حتى أحاول تقبيلك .. كنت تتذمرين .. تتراجعين مذعورة وكأن أي تقارب بيننا يصدمك .. كنت أظن البراءة والخجل هما ما كانا يبعدانك عني .. إلا أنني اكتشفت الآن بأنك لا تمتلكين شيئا منهما .. قناع الحشمة الزائفة سقط منذ عرفت إلى أي حد كنت مخادعة ومنافقة .. إن كنت حقا ترغبين بأن أنسى خيانتك .. بأن أفكر مجددا باستئناف علاقتنا بشكل أو بآخر .. أنت ستثبتين لي والآن حالا .. إلى أي حد ترغبين بي .. وتريدينني
أطلقت شهقة مرتجفة وهي تستوعب مضمون كلامه .. أصابعه القاسية لم تدع أمامها أي مجال للهرب .. كان يقول لها بأن أي تراجع منها الآن .. يعني الرحيل إلى الأبد .. وعليها هي .. يقع عبء الاختيار
معرفة ما يطلبه منها بالضبط .. جعلت رعشة ترقب تجتاحها .. لم تفكر برشاد قط بهذه الطريقة .. أبدا لم تدخل النواحي الجسدية ضمن حساباتها أثناء علاقتهما .. كانت تنفر من تلامسهما .. هذا صحيح .. والسبب لم يكن على الإطلاق مرتبط برجل آخر .. فقط .. هي كانت تغلق كل سبيل أمام عقلها ومشاعرها لسلك ذلك الاتجاه .. والآن .. وهي تجد نفسها مرغمة على الإحساس برجولته .. عندما وجدت الكيمياء بينهما طريقها نحو حواسها .. تشعر لأول مرة .. بمعنى أن يرغب بها رجل ..
كانت خائفة .. ترتعد في أعماقها كورقة في مهب الريح .. إلا أن نظرة واحدة نحو التصميم في عينيه .. وإدراكها مدى رغبتها الجادة في الكفاح لأجله .. قمعا كل مخاوفها
بإرادتها القوية التي لطالما عرفت بها .. تجاوزت المسافة القصيرة الفاصلة بينهما .. وأمام نظرات رشاد المصدومة .. وكأنه لم يتوقع حقا أن تستجيب للتحدي الساخر الذي وضعها أمامه .. مدت يدها .. لتلمس صدره الصلب من فوق قماش القميص الرقيق .. أحست بخفقات قلبه العنيفة .. بحرارة بشرته تحت أناملها .. فارتعدت .. رفعت رأسها .. وأطلت من عينيها الزرقاوين نظرة استجداء قضت على أي تحكم لدى رشاد .. سحبها إليه .. وانقض على شفتيها مقبلا إياها بشراسة .. أحاط جسدها الغض بذراعيه .. والصقها بجسده مدركا لنعومة ورقة كل جزء منها ..
رفعت يديها تمسك بكتفيه وكأنها تتشبث بطوق النجاة الوحيد .. هجومه الضاري سحقها .. ضرب كل دفاعاتها وأسقطها أرضا .. بادلته قبلاته بدموع ضعف حاولت لسنوات دفنه في أعماقها .. شاعرة به يرتجف بين يديها .. يفقد السيطرة وقد طال به الانتظار لهذه اللحظة
هل هو في الجنة ؟ .. إحساسه بنعومة شعرها الكثيف بين أصابعه .. بمذاق تنهداتها بين شفتيه .. برقتها بين ذراعيه .. كان أشبه بالنعيم .. إن كان نائما ويحلم في هذه اللحظة .. فهو لا يرغب على الإطلاق بأن يستيقظ .. ضجت الرغبة في خلايا عقله .. فلم يدرك متى تحول شوقه إلى إلحاح عنيف .. متى بدأ انسجامها يختفي .. وبدأت يداها تدفعانه عنه بشيء من الهستيريا ..
نظر إليها .. فرأى الشحوب يكسو وجهها .. والذعر يرتسم بوضوح في ملامحها ونظراتها .. صرخت بدون أن تفكر :- توقف .. توقف
لم يكن يرغب بالتوقف .. إلا أنه لم يستطع إلا تركها استجابة للوعة صرخاتها .. ابتعدت عنه وهي تهتف به بعنف والدموع تغرق وجهها :- أنا لست سلعة تستغلها عندما تحتاج إليها .. ليس من حقك معاملتي بهذه الطريقة
أدرك بأنها محقة .. لقد تجاوز الحد عندما جرفته مشاعره .. وهو يعرف بأن أي امرأة تحترم نفسها ما كانت لتسمح لرجل يعيد التفكير في علاقتهما .. بأن يتمادى إلى هذا الحد
إحساسه بالحرمان .. بالغضب من نفسه لفقدانه السيطرة دفعاه للقول بخشونة :- لم يبد عليك النفور قبل لحظات .. فما الذي جد ؟ .. هل تذكرت حبيب القلب فجأة ؟
نظرت إليه .. فأخرسته النظرة في عينيها .. كان هناك مزيج مؤلم من الحزن والألم ...... والقهر .. وهي تقول بخفوت :- لن ينجح الأمر بيننا .. صحيح ؟
رمش بعينيه وقد ضربته عبارتها .. حدقت بخاتم الخطبة الذي أحاط ببنصرها الأيمن .. وتمتمت :- رجل آخر سيكون دائما بينا يا رشاد .. أنا سأبقى في نظرك المرأة المخادعة .. وأنت ستبقى في نظري مجرد نسخة أخرى منه
هزت رأسها والدموع تسيل بلا توقف على طول وجنتيها :- لا أستطيع التعاطي مع غضبك .. ورغبتك في الانتقام .. أنا أحبك .. ولكنك ستبقى دائما تعاملني وكأنني شيء أردته .. ورفضت أن يحصل عليه غيرك
راقبها وهي تتجه نحو الباب فهتف بها صارخا :- كيف تدعين حبي ؟ .. ثم تخرجين من حياتي بهذه السهولة يا آية .. كيف وأنت تستسلمين هاربة وكأن حبك لي شيئا لا يستحق القتال لأجله
التفتت إليه سائلة بهدوء :- هل تسمي ترخيص نفسي لأجلك قتالا يا رشاد ؟
علا وجنتيه احمرارا طفيفا باعتراف ضمني بإحساسه بخطئه .. قال بغلظة :- أنت تدينين لي بهذا
هزت رأسها قائلة بتعاسة :- لا يا رشاد .. لا أدين لك بشيء .. أنت لم تصدقني .. لم تثق بي .. لم تحاول ولو لمرة واحدة منذ قابلتني .. أن تعرفني حقا
عادت دموعها تسيل وهي تهمس :- لا .. أنا لا أدين لك بشيء على الإطلاق يا رشاد
بهدوء شديد .. نزعت الخاتم من حول إصبعها .. ووضعته على المنضدة التي جاورت الباب الخارجي .. وبدون أي كلمة .. غادرت المكان .. تاركة رشاد ينظر في إثرها ذاهلا .. غير قادر على فهم ما حدث لتوه بينهما وهو يتساءل .. هل عرفت يوما هذه المرأة ؟
أنت تقرأ
مرّت من هُنا(الجزء الثاني من سلسلة للعشق فصول)مكتملة
Romanceرواية للكاتبة المبدعة والمتألقة blue me الجزء الثاني من سلسلة للعشق فصول حقوق الملكية محفوظة للمتألقة blue me