المقدمة

9.6K 147 24
                                    

ملاحظة صغيرة قبل البدء بالقراءة...

بداية .. أحب أن أنوه بأن من أراد متابعة هذه الرواية .. عليه أولا أن يراجع رواية ((سيدة الشتاء)) إن كان قد سبق له قراءتها
أو أن يقرأها إن لم يكن قد فعل
(مرّت من هُنا) ليست جزء ثاني ل ((سيدة الشتاء)) بل انها بطريقة ما ... امتداد لها
عالم آخر مواز لها .. يسير معها جنبا إلى جنب .. في رحلة مختلفة تماما عنها

(سيدة الشتاء) موجودة بالواتباد ولكن لست أنا من قام بنقلها لكن بإمكانكم ايجادها بسهولة في قائمة القراءة عندي..

والآن أترككم مع المقدمة..

المقدمة

احساس غريب يجتاحه هذه الأيام .. إحساس باليتم .. بالحرمان .. لم يعرفه في حياته سوى مرتين
يوم وفاة والده .. عندما كان طفلا صغيرا بالكاد تجاوز العاشرة من عمره .. ويوم تزوجت المرأة التي أحبها بكل ذرة من كيانه .. برجل آخر .. قبل عام كامل
تحرك خارجا من غرفة نومه إلى الشرفة ذات الحاجز الرخامي .. ونظر إلى المدينة الهادئة التي كساها ظلام الليل من الطابق الثاني الذي احتل موقعا ممتازا في أحد أرقى الأحياء
كان الجو لطيفا .. كما يكون عادة في منتصف شهر نيسان .. مائل إلى البرودة .. إلا أن هذا لم يزحزحه من مكانه رغم اقتصار ما يرتديه على سروال قصير .. داعبت النسمات الرقيقة وجهه الوسيم .. وعبثت بشعره الداكن الشديد النعومة .. لامست بنيته العضلية المتناسقة فأثارت رجفة صغيرة في أوصاله .. لم يكن البرد سببها
أخذ نفسا عميقا من هواء الربيع المشبع برائحة زهرة العسلة العطرة ..وأنصت بخشوع إلى الصمت الذي تخلله إنشاد صراصير الليل بسمفونيتها المعهودة .. كل هذا السلام لم ينجح في تهدئة روحه المتخبطة .. والثائرة على واقعه المعقد ..
الفوضى التي غمرت أحاسيسه .. الشعور باليتم .. والهجر والوحدة .. الإحساس بالغربة في المدينة التي عاش فيها حياته كلها .. قطعا لم يكن ناتجا عن طرده لآخر عشيقاته قبل دقائق قليلة من منزله .. مصرحا لها بكل ما يحمل من قسوة وازدراء بأنها لم تعد تثير اهتمامه بعد الآن
التقط سيجارة من العلبة الأنيقة التي كان يحملها في يده .. ودسها بين شفتيه وهو يشعلها بآلية
ما الذي يريده بالضبط ؟ ما الذي يحتاج إليه ؟ إلى ما يتوق رجل امتلك فعليا كل شيء .. المال الوفير .. المركز الاجتماعي المرموق .. الاسم العريق الذي تعود أصالته لأجيال عدة .. بالإضافة إلى جاذبية رجولية ساحقة يحسده عليها معظم الرجال .. وتتهافت عليها النساء من كل صوب
إذن .. لقد تزوجت حبيبته من رجل آخر .. يا له من أمر جلل .. لقد تمزق قلبه إلى أشلاء .. وفقد كل قدرة له على العطاء العاطفي .. إلا أنه ما يزال حيا .. صحيح ؟
يعيش وحيدا في المنزل الذي بناه قبل سنوات على أمل أن تدخل إليه عروسا في يوم من الأيام .. وها هو الآن ..منزل جميل واسع .. وخالي .. وموحش بدون وجودها فيه معه
لم يكن له من ونيس في حياته سوى عمله الجاد ليزيد من ضخامة ثروته الطائلة أساسا .. إلا أن هذا لم يمنعه من الاستمتاع بالمرأة .. تلو الأخرى .. تلو الأخرى .. تدخل إحداهن حياته بشكل عابر .. تمنحه متعة وقتية .. مخدرا لا يدوم مفعوله طويلا لآلام جسده .. قبل أن يملها .. ويرميها خارجا
دون أن يسمح لإحداهن باقتحام قلبه مجددا .. لقد سبق وقدمه لامرأة واحدة .. رفضته بكل ازدراء .. ورمته عند قدميه بلا اعتبار .. قاومت كل محاولاته المتطرفة والقاسية للسيطرة عليها بشراسة قطة برية متوحشة .. وفي النهاية .. كانت من نصيب رجل آخر
لقد فاز الرجل الأفضل بالجائزة
فكر بهذه العبارة بمرارة وهو يسحب النفس تلو الآخر من سيجارته المحترقة .. وماذا بعد ؟ ... إلى متى سيظل على هذه الحالة الميؤوس منها من تعذيب للنفس .. ونكران للذات .. رفض للحاضر .. وامتعاض من المستقبل المجهول .. نعم .. لقد كانت حالته مزيج من كل هذه التناقضات .. بالإضافة إلى حنين قاتل إلى ماضي بريء وبسيط
حنين إلى السنوات التي سبقت دخوله منزل عمه الكبير .. عندما كان والده ما يزال حيا .. والده الطيب البسيط الذي كانت تكفي ابتسامة أو لفتة بريئة لتمنحه السعادة .. وهو ما لم ينطبق أبدا على والدته التي لم تكتف قط بما لديها
ما زال يذكر ذلك اليوم عندما أوصلته والدته إلى الباب المعدني الكبير للفيلا الفخمة .. بعد أيام قليلة من وفاة والده .. نظرت إلى المنزل الضخم .. الذي بني كل حجر فيه بقصد التباهي بالثراء .. ثم نظرت إليه وهي تقول بجمود :- من الآن فصاعدا .. هذا المكان سيكون بيتك .. وذلك الرجل .. سيهتم بك شاء أم أبى .. لن يجرؤ على التخلي عنك كما سبق وتخلى عن والدك
كان خائفا .. مجرد طفل صغير فقد والده لتوه .. مصدوم بالوجه الحقيقي لأمه والذي انكشف له مؤخرا
استقبلهما ذلك الرجل المهيب .. الذي لم يسبق له رؤيته .. رجل ضخم أنيق الثياب .. ملامحه القاسية كانت شديدة الصرامة .. وقف في البهو الواسع .. المترف الأثاث .. المضاء بثريات ضخمة متلألئة تدلت من السقف المرتفع
نظر الرجل الغريب إلى والدته المتوترة .. التي وضعت يديها على كتفيه لتدفعه إلى الأمام :- هاهو ابن أخيك يا سيد محمود
انتقل نظر الرجل نحو الطفل .. الذي حدق فيه برهبة وخوف .. شيء ما تخلل قسوة عينيه الخضراوين .. قبل أن ينظر إليها قائلا ببرود :- سيصلك الشيك عبر المحامي هذا المساء
في تلك المرحلة العمرية المبكرة .. لم يدرك أو يفهم بأن أمه تبيعه للرجل الغريب .. كل ما أحس به هو الخوف والذعر عندما تركته بدون أي كلمة .. وغادرت المكان تماما
لم يبك .. فلطالما كرهت أمه دموعه .. كانت تقول بفظاظة بان الرجل لا يبكي أبدا .. بينما كان أبوه يغمزه من ورائها وكأنه يقول له بأن أمه مخطئة .. وأن كليهما سيخفي هذا السر عنها
هذه المرة لم يستطع أن يبكي أمام العينين المتفحصتين .. دوى صوت الرجل الصارم يقول :- اقترب يا فتى
اقترب بساقين مرتعشتين .. وقف أمام الرجل الذي عاد يقول آمرا :- ارفع رأسك عاليا .. فانت من آل النجار .. أم أنك قد ورثت ضعف أبيك واستكانته ؟
الكلمات استفزت ابن العشرة أعوام .. فرفع رأسه غاضبا ليواجه العينين القاسيتين بتحدي .. ساد الصمت لدقائق طويلة .. وكل منهما يحدق في الآخر بإصرار ..قبل أن تلين ملامح الرجل الذي ربت على رأس الفتى الداكن قائلا بهدوء :- لك ملامح والدك .. وعيني جدك رحمهما الله .. وروح آل نجار التي لا تقهر .. أهلا بك في بيتك يا بني
نبرة الرجل لم تكن لطيفة وهو يرحب به في بيته الجديد .. إلى انه شعر بالدفء عندما سمع كلمة بني من الرجل الذي استطاع منذ اللحظة الاولى .. وبكلمات قليلة .. أن يكسب احترام الطفل
من مدخل جانبي .. صدرت حركة نبهتهما معا ..التفت الفتى نحو السيدة الجميلة .. التي وقفت حاملة بين ذراعيها رضيعة شديدة الحلاوة .. سرقت قلبه من النظرة الأولى .. كانت المرأة تنظر إليه بفضول شديد .. مع لطف ورقة لم يجدهما أبدا لدى والدته ..
أما ما لفت نظره حقا .. كان ذلك الخيال الأشقر القصير القامة والذي اختبأ خلف تنورة السيدة .. وكأنه يأمل بألا يلاحظه أحد
قال السيد محمود بهدوء :- هذه ستكون عائلتك الجديدة .. زوجة عمك ستكون كوالدة لك منذ الآن .. كما ستكون ابنتي عمك بمثابة شقيقتين لك
ابتسمت السيدة مؤكدة على كلام زوجها .. بينما أطلت الطفلة الشقراء ذات السنوات الخمس من خلف ساقي أمها .. لترمقه بنظرات شديدة الخضرة .. تصرخ بالرفض القاطع .. ساهمت مع فمها الأحمر المبروم بتمرد إلى الأمام .. في خلق صورة فاتنة جعلته يشعر بحاجة غريبة بدأت تتولد داخله .. حاجة ملحة لجعل هذا الفم العنيد يبتسم له في النهاية
لاحظ السيد محمود النظرات المتبادلة بين الصغيرين .. فمد يده نحو الطفلة قائلا بهدوء :- تعالي يا أماني .. ورحبي بابن عمك صلاح
في اللحظة التي تجاهلت الطفلة فيها أمر والدها .. واختفت عن الأنظار على الفور عبر أحد الأبواب الجانبية .. عرف صلاح بان حياته بسببها هي .. لن تكون سهلة على الإطلاق
وهاهو بعد أكثر من عشرين عاما .. بينما هو واقف في شرفة منزله .. ينفث دخان سيجارته بعنف ومرارة ..
يشك بأنه قد يعرف الراحة يوما


قراءة ممتعة..
يتبع...

مرّت من هُنا(الجزء الثاني من سلسلة للعشق فصول)مكتملةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن