الفصل الخامس والثلاثون

2.7K 119 4
                                    

الفصل الخامس والثلاثون

معجزتي

بعد ساعات من الانتظار أمام جناح العمليات .. ساعات من القلق والبكاء الخائف على مصير والدتها .. أخيرا خرج الطبيب مطمئنا لندا وعادل على نجاح العملية .. وأن والدتهما ستكون بخير فور أن تصحو من تاثير المخدر ..
بكت لندا طويلا بين ذراعي عادل الذي ضمها دامعا هو الآخر .. غير مصدق للمعجزة التي حصلت .. والدته بخير .. وستعيش لسنوات طويلة أخرى بإذن الله .. ما الذي فعله ليستحق نعمة عظيمة كهذه ؟ .. أغمض عينيه بقوة مانعا نفسه من أن يتمناها معه .. أن تشاركه فرحة اللحظة .. وأمل المستقبل القادم .. إلا أنه قد فقد الحق حتى في التفكير بها .. لقد قام هو باتخاذ قرار تركها تمضي في حياتها .. هو .. من عليه أن يتحمل مسؤولية شوقه المعذب لها .. هو من أبعدها عنه وعن لندا التي ما كانت يوما في حاجة إليها كما هي الآن ..
لندا التي بقيت طوال فترة غياب والدتها داخل غرفة العمليات .. تنظر حولها بأمل وانتظار .. عل زوجها الغائب يطل ليمسك بيدها .. ليمنحها ما تحتاج إليه من دعم وتشجيع .. لم يرغب بإخبارها بأن صلاح قد اتصل به قبل بدء العملية بساعات .. مخبرا إياه باقتضاب بأنه لن يستطيع الحضور .. وأن لندا ليست بحاجة لتحمل ضغط وجوده بالإضافة إلى ضغط الانتظار .. طلب منه أن يهتم بها لأجله ( وكأنه بحاجة إلى أن يطلب منه صلاح أن يفعل ) .. وأن يبلغها بأنه سيزور والدتها فور خروجها من غرفة العمليات بالسلامة .
لندا لم تر الأمر بهذه الطريقة .. لقد كانت مجروحة .. ومصدومة لغيابه .. نعم هي غاضبة منه .. نعم قلبها ممتلئ بالحقد عليه للطريقة التي عاملها بها .. إلا أن حاجتها إليه في ظرف كهذا كانت بديهية .. ما الذي يعنيه ضغط وجوده مقارنة بضغط انتظار خبر عن والدتها ؟ ..
عندما خرج الطبيب المرهق معلنا عن نجاح عملية الزرع .. نسيت لندا لفترة همومها .. وكادت تصرخ من الفرحة لنجاة والدتها الحبيبة .. عادل كان أكثر منها هدوءا بحيث تمكن من سؤال الطبيب عن السيد رأفت .. فعرف بأنه بخير .. وقد تم نقله إلى غرفة خاصة عبر مصعد داخلي من جناح العمليات .. كما سيحدث مع والدتهما ..
توافد الزوار فور نقل والدتهما إلى الغرفة الواسعة الجميلة التي تحمل صلاح تكاليفها كأي شيء آخر يتعلق بعلاج والدتها .. الأصدقاء .. الأقارب .. لم تخلو الغرفة من المهنئين بالسلامة لحظة واحدة حتى انتهاء ساعات الزيارة .. قدمت جودي برفقة تمام .. لم تستطع التحدث إلى السيدة غيداء النائمة تحت تأثير المسكنات .. إلا أنها هنأت لندا بابتسامة وكلمات خمنت لندا زيفها .. فسألتها بهدوء :- ما الذي تخفينه يا جودي ؟
نظرت جودي إلى تمام الذي انهمك في محادثة عادل وضيف آخر مترددة .. ثم قالت بعصبية :- لن يسامحني تمام على ما سأقوله لك
قالت لندا باضطراب :- ما الأمر ؟ أخبريني
بدت جودي حزينة وهي تقول :- أنا آسفة يا لندا .. حقا آسفة .. لا أعرف لماذا يفعل صلاح هذا بك .. لم يستمع إلي وأنا أخبره بوجوب بقاءه إلى جانبك .. إلا انه كان في عجلة من أمره
هتفت لندا بحدة :- جودي تكلمي
التفت باقي الضيوف نحوهما بفضول .. فحمدت لندا الله على أن الجناح كان مكونا من غرفتين منفصلتين .. إحداهما لاستقبال الزوار .. والأخرى لضمان راحة وعزلة المريض .. همست بحدة :- ما الأمر ؟ ما الذي فعله صلاح ؟
قالت جودي بعجز :- لقد .. لقد رحل .. سافر هذا الصباح في رحلة عمل طارئة ..
بدا الذهول للحظة على لندا بينما تابعت جودي بتعاسة :- أعرف بأنك غاضبة .. ليس من حقه تركك في ظرف كهذا .. ولكنك لم تري وجهه عندما كلمني ... صلاح مضطرب بسبب عملية والدتك أكثر مما تظنين .. إنه ينظر إلى الأمر كما لو أن الأم التي تمناها حقا ولم يحصل عليها .. تتعرض لخطر عدم نجاح العملية .. وجوده ما كان ليساعدك كثيرا .. لكنني أجد في سفره مبالغة كبيرة
لاحظت لندا أن تمام كان ينظر إليهما بطرف عينه وكأنه قد خمن فحوى حديثهما .. تمتمت بشيء من الارتباك :- أنا .. أنا لست غاضبة
نظرت إليها جودي بفضول فأكملت هامسة :- أنا من أبعده .. أنا طلبت منه الرحيل .. لم .. لم أتخيل أنه سيفعل ما أريده بكل هذا الحماس
هتفت جودي معترضة :- لندا .. لقد شرحت لك الأمر .. إنه ليس كما ...
قاطعتها لندا بحزن :- لا بأس .. أنا أصدقك يا جودي .. أعرف كم يحب صلاح والدتي رغم محاولاته إخفاء الأمر .. يظن صلاح بأنه غامض وقادر على إخفاء ما يفكر به .. ولكنه مخطئ .. أستطيع أن أفهمه جيدا إن منحني الفرصة ..
كشرت جودي محاولة نزع الحزن من ملاح لندا :- كل الرجال متشابهون .. يظنون حقا أنهم أذكى منا نحن النساء .. بينما نلاعبهم على أصابعنا كالدمى دون أن يشعروا ..
ابتسمت لندا بشحوب .. فربتت جودي على يدها قائلة :- حمدا لله على سلامة والدتك يا لندا .. يجب أن تفكري بتعافيها فقط ..
أومأت لندا برأسها موافقة فوقفت جودي بنية الرحيل عندما غمزها تمام من بعيد .. فقالت لندا بأسى :- هل أنت راحلة ؟
ومض الارتباك في عيني جودي وهي تقول :- أنا مضطرة للذهاب يا عزيزتي .. ستنتهي ساعات الزيارة قريبا .. وما زال علي زيارة صديقتي ريما .. لقد حدثتك عنها من قبل .. لقد أنجبت أخيرا هذا الصباح .. وقد أردت استغلال وجودي في المستشفى لزيارتها
لاحظت لندا لأول مرة كيس الهدايا الإضافي الملقى جانبا ... كانت جودي قد أحضرت لوالدتها قميص نوم جميل جدا بمناسبة نجاح العملية .. فسرت ارتباك جودي بقلقها من ردة فعل لندا إن تذكرت جنينها المفقود .
قالت لندا بابتسامة شاحبة :- بلغيها تحياتي .. أتمنى لو أستطيع رؤية المولود .. أهو ذكر أم أنثى ؟
هتفت جودي بحماس ظهر جليا في بريق عينيها :- إنها فتاة بارعة الجمال .. سآتي لزيارتك صباح الغد .. وآخذك لرؤية الطفلة .. لا أظن ريما وبشار يمانعان
غادرت جودي برفقة تمام .. كما غادر معظم الزوار .. كانت لندا قد بدأت ترتب المكان قليلا بينما أخذ عادل يتحدث مع والدتها التي بدأت تستيقظ أخيرا عندما ارتفعت طرقات مهذبة على الباب .. تبعها دخول السيدة هناء .. والدة منى .. بطريقتها المتكبرة التي توقفت لندا وعادل منذ فترة طويلة عن استهجانها مدركين بأنها جزء لا يتجزأ من شخصية عمتهما .. ارتبكت لندا وهي تحيي عمتها بتهذيب داعية إياها للدخول .. بينما انتصب عادل واقفا بتوتر .. إذ كانت هذه المرة الأولى التي تصادف إحدى زياراتها وجوده .. رغم كثرتها في الآونة الأخيرة .. لم يكن حضورها وحيدة مستغربا .. وقد لام نفسه بشدة عندما استطال عنقه في محاولة منه لرؤية ما وراء ظهرها
.. قالت لندا وهي تقودها نحو الغرفة الداخلية حيث أشرق وجه السيدة غيداء لرؤية شقيقة زوجها الراحل :- تفضلي يا عمتي ..
رمقت عمتها عادل بنظرة طويلة بينما وقف هو عابسا دون ان يقول شيئا .. فقالت بصرامة :- ألن تحيي عمتك يا ولد ؟
اتسعت عيناه .. بينما فتح فمه بذهول كاد يضحك لندا لولا ذهولها هي الأخرى .. فعمتها كانت تنفر من عادل عادة .. وتصر على تجاهله كلما تواجدا في مكان واحد مظهرة رفضها لأي علاقة به .. احتقن وجه عادل بشيء من الغضب والحرج وهو يغمغم بتحية مبهمة .. ويتحرك بنية واضحة للمغادرة قبل أن تجلس السيدة هناء بأناقتها الشديدة النقيضة تماما لمظهر المرض على وجه والدتهما .. وتقول :- إلى أين ؟ .. اجلس وإلا ظننت بأنك تخافني أو تتجنبني .. أولاد هذه الأيام .. لا يعرفون قيمة للكبير
ابتسمت السيدة غيداء بوهن وهي تقول :- لا تعيريه اهتماما يا عزيزتي .. الأولاد أولاد مهما كبروا .. وهذا الجيل مختلف قليلا عن جيلنا
ازداد وجه عادل احتقانا وهو يجلس مذعنا في زاوية بعيدة .. بينما قامت لندا بطلب فنجان من القهوة لعمتها التي خاطبت السيدة غيداء برقة واهتمام :- كيف حالك يا عزيزتي ؟
قامت لندا بمعظم الحديث عن والدتها المرهقة فحكت لعمتها كل شيء عن حالة أمها .. بينما استمعت عمتها باهتمام بدا صادقا .. تمكنت السيدة غيداء من ان تقول بعد برهة :- لماذا لم تأت منى معك ؟ لقد اشتقت إليها كثيرا وقد طال غيابها ..
قالت السيدة هناء بهدوء :- منى مشغولة جدا هذه الأيام .. والدها يرهقها بالمهام الكثيرة منذ استلامها تلك الوظيفة في مستشفاه .. يبدو كالطفل الصغير الذي نال لعبة أرادها طويلا .. لطالما تمنى أن تعمل معه منى بما انها وريثته الوحيدة ..
قال عادل بشيء من الفظاظة :- لم ترغب منى يوما بالعمل معه ..
رمقته بنظرة عابرة وهي تقول ببساطة :- الناس تتغير ..
عادت توجه اهتمامها نحو غيداء قائلة :- إنها تبذل جهدا كبيرا لإرضاءه .. عليك أن تريها كيف باتت تستيقظ مع الفجر كي تتمكن من الذهاب معه إلى المستشفى .. منذ فترة طويلة لم ارهما بهذا الوفاق
اعتصرت أصابع عادل قبضة عصاه بغضب مكبوت عندما قالت لندا بحيرة :- لقد فاجأتني عندما أخبرتني بتركها المدرسة .. ظننت حقا بأنها مغرمة بمهنة التعليم ..
قالت هناء بترفع :- كما سبق وقلت .. الناس يتغيرون .. كما أن لقائها اليومي بالدكتور حسان من شأنه أن يقوي علاقتهما ...
دوى صوت ارتطام عصا عادل هذه المرة بالأرضية المصقولة قويا .. فالتفتت الانظار نحو وجهه الشاحب هذه المرة .. قبل أن يقول بانفعال :- لا علاقة بين منى وذلك الرجل ..
قالت أمها بجفاف :- وما أدراك أنت ؟.. ثم ما الذي تفعله هنا بين النساء بالمناسبة ؟؟ .. اذهب وجد ما تفعله في مكان آخر ..
بحركة عنيفة .. نهض عادل تاركا المكان بخطوات متعثرة .. مانعا نفسه بصعوبة من صفق الباب وراءه بقوة .. عادت السيدة هناء تقول بازدراء :- فتيان هذه الأيام ..
ثم عادت تلتفت نحو غيداء مبتسمة :- ماالذي كنت أقوله ؟؟؟

مرّت من هُنا(الجزء الثاني من سلسلة للعشق فصول)مكتملةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن