استمر ابراهيم في فتره راحه لمدة خمسة عشرة يوماً أخرى ثم بدأ في العودة لعمله من جديد وسط فرحة كبيرة وترحيب من زملائه حيث ان الجميع يُكن له محبة واحترام
داوم على الذهاب للطبيب لمراجعة حالته الصحية، الامور جميعها بخير، وابراهيم لا يجتمع مع محمد إلا في أضيق الحدود كالمناسبات التي يضطر كل منهم للحضور فيها وتكون المعاملة هامشيه، وفي احيان كثيرة كانت تقتصر على إلقاء التحية فقط
مرت الايام والسنوات، نجح التوأمان واتموا تعليمهم في الشهادة الإعدادية وانتهت عشق من السنة الخامسة لها في الدراسة ومع بداية المرحلة الثانوية لرائد وأماني تعرض ابراهيم لوعكة صحيه أخرى ولكن هذه المرة كانت أسوء بكثير من المرة الاولى، تعرض لأزمة حادة في القلب ما أدت إلى جلطة شديدة نتج عنها شلل في النصف الأيسر من جسده والتي جعلته طريح الفراش لفترة طويلة لا يستطيع التحرك من فراشه إلى ان ساءت حالته الصحية واحتجز في العناية المركزة في غيبوبة تامة.
في هذه الفترة بدأ محمد الاقتراب اكثر من مي فكان يساندها بكل ما تحتاجه من مال، حسام كان يتابع الحالة عن كثب وكان يقضي اغلب الوقت معه غير مواصلته المستمرة مع الطبيب المتابع لحالته وكان يوالي مي دائماً بكل جديد في الحالة
اُجهدت مي في تلك الفترة ما بين رعاية الابناء ومتابعتها لحالة ابراهيم في المستشفى والتي كان تزداد سوء كل لحظه عن الأخرى
ايام طويله مرت على مي والاولاد لا حول لهم ولا قوة سوى ان يتوجهوا إلى الله بالدعاء لكي ينظر له نظرة رحمة ويعافيه
مي في منزلها وقبل نزولها للتوجه للمشفى للاطمئنان على زوجها واذا بهاتفها يعلن عن اتصال من حسام على غير العادة، اسرعت لتجيبه
حسام بتوتر: صباح الخير يا مي
مي بقلق بالغ: صباح الخير، في حاجة حصلت لإبراهيم؟
- الحالة سيئة جداً ودخل في غيبوبة من امبارح الفجر وبلغوني بالتليفون وانا معاه في المستشفي من امبارح بس مرضتش ابلغك في وقت متأخر، للأسف الحالة سيئة جداً، تعالي شوفيه
بكت مي بشدة وهي تقول: يا حبيبي يا ابراهيم
- مي لازم تتماسكي علشان الولاد مينهاروش ..
- حاضر يا حسام، انا جايه على طول
- في انتظارك وياريت تجيبي الولاد معاكي علشان يدخلوا يشوفوه محدش عارف ايه اللي مكتوب.
- حاضر، رائد بييجي معايا كل مره بس انا هجيب البنات علشان يشوفوه.
انهت المكالمة وتوجهت تبلغ الاولاد ان يجهزوا نفسهم للنزول، وبعد نصف ساعة... مي والاولاد يقابلون حسام الذي اخبرهم مضطراً بتطور الحالة حتى يجهزهم لاستقبال اي خبر سيء في اي وقت، دخلت مي ووقفت تنظر إليه. كانت تستشعر انها ستكون النظرة الأخيرة .. اقتربت منه وقبلته وفاضت عيناها بالدموع فساندتها الممرضة لتخرج وودعته الوداع الأخيرة ولكنه ودائع من جانبها فقط حيث إبراهيم فاقدا للوعي لا يشعر بمن حوله،
دخلت الفتيات بصحبة أخيهم رائد، واقتربوا منه قبلوه وخرجوا مسرعين امتثالا لأمر الطبيب
حسام: يا رائد يا حبيبي ياله ارجع انت وماما واخواتك البيت وانا موجود معاه، وهطمنكم بالتليفون أول بأول بإذن الله مفيش داعي تفضلوا في المستشفي، هو كده كده مش حاسس بوجودكم فارتاحوا في البيت احسن
رائد: حاضر يا خالو ..
ثم توجه لوالدته واخوته بالكلام، وعينيه دامعتان، ياله نرجع البيت وان شاء الله خير .. ربنا يعفي عنه
عادوا لمنزلهم .. مي تشعر بالوحدة في غياب زوجها وتتابع الحالة مع حسام ..
مرت الساعات حتى دقت الساعة الثالثة صباحاً اذا بهاتف مي يستقبل اتصال هاتفي من
حسام وقد اختنقت الكلمات بين شفتيه: ألو .. مي .. البقاء لله .. شدي حيلك
صرخت مي وسقط الهاتف من بين يديها: اااااه، ابراهيم يا حبيبي، سبتني لمين، انا مليش غيرك في الدنيا
اسرع إليها رائد والفتيات ليحتضنهم رائد وقد اغرقت الدموع ووجنتيه.
توفي إبراهيم ودفن جثمانه في المقبرة التي دفنت فيه سماح حبيبته وزوجته ووالدة ابناؤه، وأصبحت مي واولادها الثلاثة دون سند أو رفيق سوى محمد الذي رفض ان يتزوج طوال السنوات الماضية
بعد فتره كبيرة من الاحزان، وفي صباح يوم جديد استيقظت مي على صوت هاتفها معلناً استقبال رسالة، التقطت هاتفها لتتفحص من المرسل واذا بها من رقم مجهول
فتحت لتقرأ ما بها ....
تعلمت من الحياة، أن دموعي لن تجرح سوى قلبي، لن تشعر بها سوى روحي، لن تترك أثار قهرها سوى على وجنتاي! تعلمت من الحياة أن أكتب أحزاني، الآمي، جروحي بيدي على جدار قلبي وأجعلها كالسر المدفون بنبض قلبي، لا تراها سوى عيني، لا تحفظ سرها سوى روحي!
تعلمت من الحياة أنه لا مخلوقاً على وجه الأرض سيحبني، سيخاف عليَّ، سيحافظ عليَّ سوى أنا فقط وليس غيري
أغلقت هاتفها وتحدثت لنفسها متسائلة:
- مين اللي بيبعت الرسايل دي؟
لأ، ده كده يبقا مش بتوصلني بالغلط بقى دي مقصودة، بس من مين يا تري؟
انشغلت مي بيومها مع اولادها وتناست أمر الرسائل، مرت السنوات وانتهي الاولاد رائد واماني من السنه الثانية من الثانوية وعشق اجتازت المرحلة وحصلت على الشهادة الابتدائية بتفوق
وفي صباح أحد الأيام استيقظت مي على رسالة جديدة من نفس المجهول، وكان فحواها....
صعب جداً أن تعطي إنسان كل حبك وتفكيرك وحياتك وهو لا يستطيع حتى أن يعطيك بعضْاً من وقته ليسّأل عنك وعن أخبارك.
وبعد ان تنتهي من قراءتها كادت ان تُجن، وتحدثت لنفسها قائله: وبعدين بقا انا زهقت من اللي بيحصل ده، مين اللي بيبعت الرسايل دي وعاوز ايه مني بالظبط ؟
اعمل إيه يا ربي، اروح ابلغ، بس ده هيزود قلقي والتليفون هيبقى تحت المراقبة لحد أما يعرفوا مين اللي بيبعت الرسايل دي، اوووووف انا مش هشغل دماغي اللي عاوز يبعت حاجه يبعتها بقا هو حر
مرت الايام وذات مساء صدح هاتف مي واذا بالمتصل محمد
- ألو، ازيك يا مي، وحشتيني
- ألو، ازيك يا محمد، انا بخير الحمد لله وانت اخبارك ايه؟
- انا بكون بخير اما بعرف انك بخير، انا عاوز اتكلم معاكي في موضوع مهم، ممكن نتقابل في اي مكان بعيد عن الاولاد علشان نتكلم براحتنا
- طيب في حاجه بخصوص الشغل؟
- لأ، الشغل تمام، الموضوع خاص بيا انا
- طيب ماشي، امتى وفين؟
- انا هعدي عليكي الساعة سابعه تكوني جاهزة، هاه مناسب ليكي الوقت ده ولا إيه؟
- اه تمام مناسب هكون في انتظارك بإذن الله.
- تمام
توجهت مي لرائد لتخبره ما حدث ليسألها:
- طيب تفتكري هو هيكون عاوز منك ايه يا ماما؟
- والله يا حبيبي مش عارفه، بس لازم اقابله واشوف هو عاوز اي، ابن عمي واخويا بردو وانا مش ممكن أتأخر عنه لو محتاج حاجه انت عارف انه واقف جنبنا من وقت وفاة بابا
- طيب خلاص ماشي يا ماما، ان شاء الله خير
سريعاً مر الوقت ودقت الساعة معلنة السابعة مساءًا بالتزامن مع رنين هاتف مي ليخبرها محمد: انا مستنيكي تحت انزلي
- انا جاهزة ونازله على طول
اطمأنت مي على الأولاد ونزلت لمقابلة محمد لتجده يقف بجوار باب السيارة وبعد أن سلم عليها فتح لها الباب وقاد بها السيارة متوجها لمكان هادئ على النيل وبمجرد أن جلست على المقعد سألته:
- خير يا محمد، في ايه، قلقتني!
- خير يا مي متقلقيش، انا مش هلف وادور كتير وهدخل في الموضوع على طول، انا من زمان كلمتك في موضوع الجواز وانتي رفضتي، وانا متجوزتش وانتي عارفه اني بحبك ولسه بحبك لحد دلوقت وبعد وفاة ابراهيم انتي ملكيش حد غيري وبيتهيألي انا مقصرتش معاكي في اي حاجه، وانا بعيد عليكي تاني الطلب مرة تانية، تتجوزيني يا مي؟
- يا محمد انا عندي اولاد وانت ليه تربط نفسك بمسئولية أسره مش اسرتك في حين انك ممكن تتجوز وتكون اسرة ويكون لك بيت واولاد
- انا مش مشكله عندي اي حاجه ولا حتى الاولاد انا عاوزك انتي وبس، وانا كمان مش عاوزك تردي عليا دلوقت خُدي وقتك وفكري وبعد اسبوع ردي عليا
- طيب ماشي يا محمد، ممكن نقوم علشان متأخرش على الاولاد؟
- بس انتي مشربتيش العصير ولا مش عاوزه تقعدي معايا كمان عشر دقايق.
- لأ مش كده والله يا محمد، انا بس مش حابه اتأخر عن الأولاد، أنت عارف أن من وقت وفاة ابراهيم وأنا معاهم دايما وحتى مش بخرج غير معاهم مش حابه كمان إنهم يحسوا بالوحدة وبعدين احنا انت قولت كل اللي عندك، انا هفكر وارد عليك.
- ماشي يا مي، اللي تشوفيه، اتفضلي هوصلك وهستنا منك تليفون
- ان شاء الله
عادت مي لبيتها لتجد رائد في انتظارها وملامح وجهه ونظرات عينيه تنم عن شغف وفضول لمعرفة سبب المقابلة فسألها:
- حمدلله علي السلامة يا ماما، خير اييه اللي حصل وخالو محمد عاوزك ف ايه؟
- والله يا حبيبي مش عارفه اقولك ايه، بس هو اتكلم معايا في موضوع جواز، يعني نتجوز انا وهو
رائد بفزع: جواز، جواز ايه، هو ازاي يفكر في كده اصلا، طيب وانتي رديتي عليه قولتي ايه؟
- انا طبعاً رفضت
- وهو كان اييه رد فعله على الرفض؟
- هو قالي فكري وبعد اسبوع ردي عليا
- وانتي هتفكري؟
- يا حبيبي انا مفكره من زمان اوي، شوف انا عارفه ان محمد بيحبني من زمان اوي وطلب مني الجواز قبل كده وانا رفضت وكان وقتها مفيش حد ف حياتي، ومش هوافق دلوقت بعد ما ربنا رزقني بيكم
- ربنا يخليكي لينا وميحرمناش منك ابدا يا ماما
احتضنت مي ابنها حتى يطمئن قلبه، تركها لمدة ثلاثة أيام يثم ُعاد يسألها:
- هو خالو محمد متصلش من وقت ما تقابلوا؟
- لأ، متصلش واكيد هو مستني أما يخلص الاسبوع علشان أكون فكرت وأخدت قرار في الموضوع.
- امممم، طيب تمام
_____________
مرت الايام في هدوء تام لينتهي الاسبوع برنين هاتف مي التي استقبلت اتصال من محمد
- ألو، ازيك يا مي، عامله ايه والاولاد اخبارهم ايه؟
- ألو، الحمد لله انا بخير، وانت؟
- انا بخير طول ما انتي بخير، هو انا ممكن آجي البيت عندك ونتكلم شويه؟
- اه طبعاً البيت بيتك تتفضل في اي وقت
- طيب ان شاء الساعة سابعه هكون عندك
- ان شاء الله في انتظارك
انهت مع محمد الحديث وارفعت صوتها تنادي: رائد، يا رائد تعالي انزل هات عصير من السوبر ماركت
- حاضر يا ماما، بس في حاجه؟
- خالك محمد جاي، هو تقريبا جاي علشان نتكلم في الموضوع بس فضل اننا نتكلم هنا في البيت
- يكون افضل بردو، بس معلش انا لازم احضر المقابلة دي، ومعلش تاني قبل ما تقولي اي حاجه انا مش هينفع اسيبك لوحدك معاه، وانا مش صغير
ابتسمت مي ابتسامة رضا عن تربيتها لابنها التي ربتت على كتفه قائله:
- ماشي يا حبيبي، أما ييجي تبقا تستقبله واحضر المقابلة معانا من البداية
- تمام، انا هنزل اشتري العصير وباقي الطلبات وانتي شوفي لو محتاجه حاجة تاني
من تحت اشتريها مرة واحدة.
- لا، مش هنحتاج دلوقت حاجة، انزل انت وبسرعه ترجع علشان الساعة ستة ونص دلوقت وهو قال سابعه هيكون هنا.
- ماشي هنزل على طول.
#يتبع
#نوري