الصّفحة الحادية عشر

198 14 2
                                    

يجلس شوغا في منزل جيمين الذي صار له بعد بدء مسيرته الفنيّة، يجلس وحده في صمت قاتل، كأس النبيذ الأحمر القاتم بيده، يرتشف منه رشفة و من ثمَّ يعود الى تأمل تلك الزّخارف الذهبية المتناثرة على جوانب الجدار امامه. كان يجلس بصمت على الاريكة المواجهة للبيان الأحمر القاني، و بلمحة مرّة مقلتيه على تلك المفاتيح البيضاء تغريه ليتلمّسها بسلاسة و حنكة، و هذا ما فعل. استقام شوغا من مجلسه و قد اهمل كأس النّبيذ على المنضدة الصّغيرة و تقدّم ناح كرسي البيان يتّخذه مجلسًا، و بشوق عاشقٍ بدأ يتلمّس تلك المفاتيح، يخاف خسارة الشّيء الوحيد المتبقّي له في هذا العالم. و بعد هنيّهة من الترحيب بالبيان، بدأت انامله ترقص فوق المفاتيح، تنتج اروع الأنغام و الألحان. كانت ناعمة و سلسة في البداية، لكن مجموعة كبيرة من اشرطة ذكرياته الأليمة قد مرّ امام عينيه، فصار يعنّف تلك المفاتيح لتخبر عن هذه الذّكريات، يصب كل تلك المشاعر المتراكمة على تلك المفاتيح المسكينة التي تستقبل عنفه برحابة صدر لا مثيل لها.

ظلّ شوغا يعزف و يعزف، و يتمايل مع تلك الأنعام الهاربة من قلبه الضائع، حركته صارت أعنف، غضبه و حزنه و ضياعه و ألمه، كلّها اجتمعت معًا على مسرح الهيجان الذي يؤدي عليه شوغا، يتشاركون بقعة الضّوء نفسها و يتصارعون عليها. و بدأت قيوده الثّقيلة توجع قلبه و تثقل كاهله، لكنه ظلّ يعزف و يفرغ غضبه في تلك الآلة المسكينة. كانت الأنغام تضرب جدران القصر، و صداها يحوم في الأرجاء، و تعلو، تعلو اصوات العذاب الذي يملأ ذلك القلب المحطّم، يعلو صوت صراع العزف الصّامت بمحاولة يائسة بكسر هذا الصمت القاتل، تعلو و تعلو نغمات البكاء و التّذرع بالرّحمة و طلب النّجدة...

و توقّفت. فجأة توقّفت تلك النّغمات، و صمتت تلك الصّرخات، و توقّف العازف عن ضرب تلك المفاتيح المُعَنَّفَة. توقف عن ما يفعله و تجمّد في مكانه حين شعر بشيء يسكب عليه. لقد كان كأس النبيذ الذي اهمله منذ وهلة قد سُكِب عليه، يغسله من رأسه حتّى أخمص قدميه.

هو عرف من فعل هذا، هو دائمًا يعرف من يفعل هذا، و هو يعرف ما سيأتي خلف هذا. لكنه لم يتحرّك، لم يعترض، هو لا يستطيع فعل شيء أصلا، فمن فعل هذا يملكه، يملك شوغا، جيمين يملك شوغا...

.....................................................

يستلقي على ذلك السرير عارٍ من اي شيء يستره، يستلقي وحده هناك، و الكدمات القاتمة واضحة على بشرته الباهتة البيضاء، يستلقي و هو يبحلق بالسّقف و يغرق في بحر فكره العميق، يغرق في عالم آخر غير هذا الذي هو به الآن...

"لما لا زلت نائمًا؟" ذاك الصوت مجدّدًا يخرجه من عالم افكاره، ذاك الصوت التابع لمالكه. استقام شوغا من فوره حين سمعه، و هلمَّ يخرج من تحت الاغطية السّوداء، لبس ردائه الرمادي، ثم خرج متجها ناح غرفته لينظف نفسه و يبدّل ملابسه، الحفل السّنوي سيبدأ بعد اربع ساعات و عليه ان يكون هناك قبل هذا ليتأكد من التفاصيل الأساسية الدقيقة و الإضافات الأخيرة، لكن قبل ذهابه سمع جيمين يقول:"نفّذ ما امرتك به اليوم."

"و ماذا ساستفيد ان فعلت هذا!" اجابه شوغا مستغربا امرا كهذا، فما الفائدة منه.

"و بأيّ مقام انت فيه لتعترض على ما آمرك به؟" اجاب جيمين و هو ينظر اليه بتعبير خالٍ من المشاعر. لم يعترض شوغا اكثر من هذا، بل اومأ برأسه يُعلِم جيمين انّه فهم ما قاله و هلمّ خارجًا من الغرفة، ثمّ غادر المنزل كلّيًّا و اتجه الى موقع الإحتفال.

حين وصل هناك، كان مدير اعماله بٱنتظاره و استقبله مرافقًا إيّاه الى غرفة تبديل الملابس خاصّة شوغا و هو يخبره عن برنامج الحفل، ثمّ تركه و رحل ليتأكّد من باقي التّحضيرات.

جلس شوغا هناك ينظر الى نفسه في المرآة بعد ان خرجت الفتاة من الغرفة بعد وضع القليل من مساحيق التجميل على وجهه. كان غارقا في بحرٍ لا متناهي من الأفكار تضيع  بين الحاضر و الماضي و ما يخبّؤه المستقبل من آلام اكثر فأكثر.

هو لا زال نادمًا على قراره في بيع نفسه، و الآن هو قد ادخل شخصًا آخر الى هذا العذاب، فما الذي سيحصل معهم في المستقبل؟

◀▶◀▶◀▶◀▶◀▶◀▶◀▶◀▶◀▶◀▶◀▶◀▶

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Jun 13, 2022 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

الجوهرة المميتةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن