أسوَد و أبيَض

30 3 0
                                    

بقلبٍ مُتلهف إنتظرتُ والدي ،
بقلبٍ مُتلهف إنتظرتُ عَودتهُ كَثيراً
بقلبٍ مُتأمل إنتظرتُ عودتهُ من حربٍ دامية خَلَفَها جيشٍ رَمادي اللَون.

أمتلكُ والدةً كي أعيلَها .
في رَيّعان شَبابي جربتُ....
جربتُ العَمل
جربتُ التَعب
احببتُ التَبسم.
كنتُ أرسُمها لتلكَ الإبتسامة في كل وقتٍ و مكانٍ
لم أشعر بالكلل أو الملل منها.
بابتسامتي المُشعة أنا أخبر والدتي الحَزينة أن كُل شيءٍ بِخَير
و أن العالم لا زالتْ أبوابهُ مَفتوحة لم تُغلَق
بكل عرَقي و دَمي و دُموعي
بِكلُ نَفَسٌ أستنشقهُ أقسمتُ أنني سأستمر بالحياة
بالعَيش لانني مُدرِكة
طالما الشمسُ تُشرق كل يومٍ من جَديد
إذاً أنا لديّ الحقُ بالعَيش
إذاً كُل شيءٍ لا زال بالفعِل بِخَير .

مرحبا أدعى " أبيض"
فتاةً إنتظرتْ النومَ بهدوء من دونِ تفكير.

صادفَ في يومٍ مُشمس حيثُ مَكانَ عَملي
" محل الزهور" القابع في أسفَل ذلك المُنحَدِر المُزهر
أنني رأيتُ سَوادٌ قاتم يَدخل المَحل فأسرعتُ نحوهُ كي أخدِمَهُ.
ذلكَ السواد أقصِد ذلكَ الزَبون طلبَ بعضٍ من أزهار " الفيوليت".
لَبَيتُ طَلَبهُ و ها هو ذا يُغادر المَكان تاركاً آثارهُ في عَقلي .
" لما هذا الوجه العَبُوس؟"
ذلكَ الزَبون يَرتدي الاسود طوالَ الوَقت
وجههُ العبوس يحملهُ معهُ طوالَ الوَقت
هو زبونٌ مُلازم لِمَحَلنا
فهو يَشتري الوَرد دائما لوالدتهِ و التي بِدورها تَعشَق هذه الباتات اللطيفة
خرجتُ أكمل تَنظيف زُجاج المَحل
فرأيتهُ واقفاً هنالك ، كالعادة
واقفاً يُحدق بالزهور
بدا لي حَزيناً ، حزيناً لِلغاية.
كان يُحاول إيصالَ مشاعرهِ السوداء الى الزهور بنفسجيةَ الَلون المُستَوطِنة يدهُ.
لكنهُ لم يَفلَح...
غادرَ بعدَ أن لاحظ وجودي.
غادرَ و هوَ يَجر ذُيول الحزن معهُ.
ذلكَ الزَبون البائس يُدعى
" أسود"
شابٌ في مُقتَبل العُمر
دَرَسنا معاً في نفسِ المَدرسة
عرفتهُ إنساناً رائعاً
لطيفٌ مٌشرق
بعد أن حلتْ الحرب الطاحنة
اختفى والدهُ فيها
لم يعرفوا عنهُ خَبَراً
أهو حيٌ يُرزق أم مَيت؟
تغيرَ ولم يَعُد المُشرق الذي عَهَدناه.
كانَ لإختفاء والدهُ أثراً كَبيراً على روحهِ.
لم يختلف الامرَ مَعي ، حصلَ لي نفسُ الشيء.
كِلانا ينتظرُ والدهُ أن يَعود.
أنا الآن هَدفي الوَحيد هو العَيش
العَيش من أجلِ كُل فُرصة أمتلكها
من أجلي
من أجلِ والدتي
من أجلِ أبي أيضاً.
لكن معَ " أسود"
الامرُ لم يَكُن سهلاً البَتة!
رُغمَ أن حالهُ أفضلُ مني
فهو يَملك عائلةً كبيرة و مالاً وفيراً و كل شيء قد يُخَفف عليهِ إختفاء والده.

مرةٍِ أخرى ، بعد فترةٍ من الزَمَن قصيرةٌ بعضَ الشيء
عادَ " أسود" ليزور مَحلنا.
كأي يومٍ عادي ، خرجَ من المَحل و عيناي تُراقب خُطواته
ها هو ذا يفعل نفس الشيء ،
نظرَ الى تلك الزهُور بينَ يديهِ ثم تَنَهد بأختناق
لكن هذهِ المرة لم أقُم بتركهِ يَذهب مُحبطاً
وإنما خرجتُ من مَكاني بسرعة ذاهبةً إليهِ
حدقتُ بهِ بصمت كما فعلَ هو المَثل!
كان من الغريبِ حقَاً فتحَ المُوضوع.
بعد فترةٍ وجيزة من الصَمت ، تحركتْ قَدماهُ ناوياً مُغادرة المكان
لكني أسرعتُ بإيقافهِ قائلةً
" أنتَ تُجرم بحقِ هذهِ الزهّور!"

" لما؟"

" إنها شيءٌ بَريء ، لايجب أن تَحضنها بحزنك!
لا يجب عليكَ أن تَعيش هكذا
الحياة لن تتوقفْ على ذهابِ والدك
فهَو ليسَ الاول أو الاخير من ذَهب و لم يعُد
هناك الكثيرُ من النُجوم اللامعة التي تُنير السماء
هناك الكثير ُمن الاشخاص الذينَ فارقونا"

"أنتِ لا تفهمينَ شيئاً، جميعكم لا يعلم و لن يعلم
لذا إتركِ هذه النُصح لنفسكِ فأنا لا أحتاجها"
رمى الازهار على الارضِ و ذهبَ غاضباً
حملتُها ثم نظرتُ الى السماء مُحدقةً بها.
شعرتُ بالضيقِ يملئُ صَدري .
حملتُ نَفسي ثم عاودتُ الرُجوع إلى مكاني.

ها هُنا مرةً أخرى
في إحدى الحُقول البراقة
أعيشُ السعادة التامة بعدَ رُجوع والدي من الأسر.
الفطائر الدافئة المُعدة بعنايةٍ من قِبَل والدتي الحَنون
و مشاعر ُالحُب التي يَبعَثها والدي لنا
تلكَ هي السعادة التامة.
بعد طولِ إنتظار عادَ من كُنا نَنتظرهُ.
لم تكُن أنا الوَحيدة السعيدة بذلكَ اليَوم
بل " أسود"
كان كذلك ، قد تَحَول الى " أبيض"
بعد أن عادَ والدهُ أيضاً.
و لإول مرةٍ أراهُ يَبتسم بعد فترةٍ طَويلة .

واصلتُ العَمل في محلِ الزُهور اللطيف
و عاودَ " أسود" أقصِد " أبيض"
التحديقَ بتلكَ الازهار
لكن هذهِ المَرة بِسعادة و فرَح، كم كان يوماً رائعاً
كم كانت فترةً صَعبة.

تلكَ كانتْ قصةً حاولتٌ ذاتَ يومٍ كتابتها و أثناءَ كتابتي أدركتُ
كميةَ التَناقُض المَوجود في هذا العالم
سبعَ مليار شخصٍ و كُل واحدٌ مع مشاعرهُ
جميعها مُنتشرة في الفَضاء
كُل شيءٍ كان مُقدراً من البداية
مكتوبٌ و مُخَطط للحُدوث
كان حزيناً و لم يحُن بعدَ الوَقت للحُزن
حزنَ على وفاة والدهُ ، ثمَ والدهُ قد عادَ لهم حيٌ يُرزق!
تلكَ مشاعرُ البشر غريبةُ أطوارٍ
عاشوا نفسَ الظُرُوف رُبما هي أسوءُ من حالهِ.

لكنها أخبرتْ نفسها أن الفُرصة للعيش لازالتْ قائمةً
لم يفتْ الاوانُ بعَد
الشمسُ ستشرق بعدَ ظلامِ الليل
المطرُ سيسقط كُل شتاء
بعدَ كُل حزنٍ ، هناك فرحٌ قادم
و بعد كُل مَجهودٍ ، ثمارٌ سَتأتي
لن يطولَ الحُزن أبداً
فبعدَ دُموعِ السماء و تَصبغها بالغيومِ السَوداء ، هُناك قوسُ قزحٍ بَراق سيحلُ
تَذَكر!
هُناكَ فرصةٌ دائماً لكُلِ شيء .

لهُ اسمٌ في قلبكحيث تعيش القصص. اكتشف الآن