|نجاة|

67 24 4
                                        

سئمت وتيرة الأيام المتشابهة، المواعيد الثابتة، مواعيد الإستيقاظ والوجبات وجلسات الأطباء، الغرفة نفسها، الجدران البيضاء نفسها، نفس الأوجه البائسة التي أرهقها المرض وتبعاته.. وما أشد قساوة من المرض العقلي.

كثيرًا ما كانت تؤرقني فكرة أنه هناك فيني ما هو معروف من قبل الآخرين ومجهول من قبل ذاتي.. وهذه تسمى بالمنطقة العمياء تبعًا لنافذة جوهاري، حدثني عنها ولدي نوح بعدما سمعها من.. لا أذكر بالتحديد، ولكنه عزيزي جالب الفخر لأمه على الدوام واسع المعرفة والمصادر.

اشتقت إليه حقًا.

فكرة أنك غير ملم بذاتك، يوجد إحتمال أن تكون جاهلًا كل الجهل لما تتسبب فيه من أذى لنفسك ولمن حولك! ويا لشقاء حياتك إن وسعت المنطقة العمياء هذه، وصرت أكثر الجاهلين بذاتك، كما حدث معي.

وككل مرة، تقودني أفكاري إلى النقطة ذاتها، مرضي المفاجئ، شقاء أبنائي وحرمانهم من أمهم الطبيعية، ومن أبيهم تبعًا لذلك، عيشهم في بيتٍ ليس ببيتهم، اضطرار نوح، مناضلي الصغير، لدخول مدرسة داخلية ليخفف العبء عن خالته.

طفرة أصابت حيواتنا جميعًا.

أفاقني من شرودي الطويل صوت بكاء مكتوم، التفت إليها، كانت ورد، أول المرضى الذين رأيتهم عند قدومي، من أشد اليائسين هنا، كنتُ جالسةً على العشب مستظلة بشجرة، وكانت تجلس ورائي على مقعد بلا مسند، لم يكن به مظلة حتى، وكأنها جلست وحسب دون تفكير إن كان المقعد مريحًا أم لا، كانت تبكي وترتعد أكثر من أي مرة مضت، وفي يديها الدفتر المهترئ نفسه، والقلم الذي أيقظت المصحة بأكملها ليلة البارحة لتجده، وكأن رفيق عمرها كاد يفارقها، وكانت تكتب بصعوبة من شدة بكائها.

رفعت رأسها لي، فانتبهت لنظري لها، ثم عادت لتخط آخر كلمت بدفترها بسرعة لتنهض وتتركه هو والقلم على المقعد، ومضت في ثبات.

شعرت أنها مختلفة عن كل مرة رأيتها تبكي فيها، نهضت بتثاقلٍ لجلوسي المطول على الأرض، اتجهت إلى حيث كانت تجلس، أمسكت بالدفتر وجلست بمكانها.

الشمس حارقة، كيف احتملت الجلوس هنا.

«اليوم لم يأتي أحد لزيارتي.»

وجدتها مكررة في كل صفحة بدفترها بشكلٍ أقلقني، اقلب الصفحات، اتخطى العشرات منها ولا جديد في فحواهم، كاد الدفتر ينتهي قبل أن أبصر ما جعل يداي تجمدتا.

«أعلم أنك مللت هذه الجملة كثيرًا، فأبشر، جئت لأخبرك غيرها اليوم، جئت لأخبرك بأنني مللتها أيضًا.. مللت الإنتظار، مللت الأمل الزائف، الأمل المخادع الكذاب المحطم..

مرسىحيث تعيش القصص. اكتشف الآن