|أذهان عاصفة|

191 35 102
                                        

أنس

أحيانًا يخطر بهذني أن موافقة أمي على بقائي مع والدي كانت غريبة، كيف تطمئن بوجودي مع الشخص الذي تسبب في نزع رحمها ضربًا؟ أكان إهمالًا منها ورغبةً في الخلاص من الإزعاج الناجم من تواجدي مع جدتي وخالي؟

أرى أن أكثر الأشياء إرهاقًا هي التشكك، تجد كثير من الأسباب الصريحة والواضحة التي تشير إلى حكمٍ صريحٍ منطقيٍ على شخصٍ ما، وبمجرد أن تاتي هذه الفكرة لذهنك يصدع صوت حاد جالد يخبرك: «أنت تشك بمن فعل هذا وذاك لأجلك؟ ألا ترى أنك جاحدٌ ولا تستحق الجيدون بحياتك؟» وتظل أفكارك مشتتة إلى أن تصلك الحقيقة الصافعة، في كلتا الحالتين صافعة.

على أي حال، كانت رغبتي في الإلتحاق بهذه المدرسة تزداد يومًا بعد يوم، وجدتها تناسبني الآن أكثر من أي وقتٍ مضى، من شتى نواحي حياتي، بداية من كونها داخلية وسأبعد عن أبي، وهكذا لن نتألم أنا وأمي معًا، مرورًا بكونها توجب الدراسة الشاقة، بل المضنية، وهذا سيمكنني من الهروب من ذاتي بمهارة، نهايةً بجعل أمي فخورةً بي.

توالت الأيام، خضعت لاختبار القدرات الخاص بها، وبعد أسابيع طويلة من الإنتظار، قُبلت بها، ولكن بمدرسة تقبع بحافظة الأقصر.. ونظرًا لتوطني القاهرة فكانت المسافة كبيرةً جدًا، تراجعت أمي في موافقتها لوهلة ولكن سريعًا ما عدلت عن قرارها لتعلقي بها وفرحتي بقبولي.

كوني بمحافظة بعيدة سيجعل عدد مرات قدومي إلى القاهرة قليلة، وهذه ميزة ابتسمت بسببها داخليًا حينما انتبهت لها.

استمر تتابع الأيام، جاء أول يوم سأذهب فيه إلى السكن، كان اليوم السابق ليوم بداية العام الدراسي.

مررت بكل شيءٍ ببرودٍ تمام أثار تعجبي، لم أكن متحمسًا حتى، مضى كل شيء أمامي كأنه ينتمي لحياةِ شخص ما غيري، وأنا مجبرٌ على العيش بجسده ليس إلا.

أنت من رغب في الإلتحاق بهذا المكان يا أنس، كنت منبهرًا به.. فلمَ تشعر باللا شيء اتجاه كل شيء الآن؟

مع التفكير، أنا لم أكن منبهرًا وشغوفًا تجاهه إلا قبل إنتكاسة البيت، أي قبل ثلاث سنوات كحد أدنى، قبل إدمان أبي حتى، الحقيقة هيَ أني مع بداية هذه الفترة صرت تدريجيًا لا أملك شعورًا، أسير في دربي أفعل ما يجب علي فعله، اجتنب ما يجب على اجتنابه، من منظورٍ عقلانيٍ بحت، وما كنت أظنه حماسًا لم يكن سوى محاكاة لشعوري الماضي.

ككاتب شرع في الكتابة بقدارٍ عالٍ من الإلهام، ثم وجد أن الجزء الذي توجب عليه إنهاءه لم ينتهي مع إنتهاء إلهامه، فاضطر للإكمال بإلهامٍ مصطنعٍ مبتذل.

كانت أمي بجواري، ولكنها لم تحاول جذب حديثًا معي لأنها تعلم أنني لن أجذب معها أطرافه، فآثرَت الصمت، وكان هذا مريحًا لي.

مر الوقت في القطار دون أن أُمِل، الجلوس بجانب النافذة، ضوء القطار الخافت، السكون المخيم، كل هذه الأجواء فجرت الإلهام فيني، فشرعت في صياغة الأفكار القابعة بذهني منذ فترة لأستخدمها في روايتي، اخطط تخطيطًا بسيطًا للأحداث المقبلة، يملؤني الحماس حتى آخر رمق، فتأخذني الكلمات في رحلةٍ مصوغةٍ من ذاتي.

مرسىحيث تعيش القصص. اكتشف الآن