استفقتُ على صوت أحدهم وهو يقول :سيدي بيتر ما الذي تفعله هذه الفتاة هنا ؟
حاولتُ فتحَ عينيَّ بصعوبة ، شعور الغثيان لازال موجودًا ، نظرت من حولي لأجد الضابط جالساً القرفصاء أمامي كان يحاول تجفيف جبيني بمنديل أبيض حريري اللون سرعان ماابعده عني ودسّه في جيب بنطاله الزيتوني عندما لاحظ استفاقتي . تأملني دون أن يسأل وكأنه يريد التأكد من قدرتي على الجلوس دون أن ينبس بحرف ودون أن أُخبره بشيء ، ابتلعت ريقي وبادلته النظرة المثقلة كانت نظراتي باردة للغاية حاولتُ الجلوسَ مسندة كوعيّ يديّ على الأريكة دون ان أستقيم في جلستي ، تركتُ وجهه لأتأمل الغرفة ، جدرانٌ بيضاء ،ستائر بيضاء، سرير مرضى أبيض، وإلى جوار الأريكة التي أستلقي عليها منضدة صغيرة تتوسطها زهرية شفافة ممتلئة حتى المنتصف بالماء توجتها زهرةٌ صفراء وحيدة ،
إنها زهرة النرجس أعرفها جيداً فكانت صورة الغلاف الخاصة بأمي على تطبيق فيسبوك ، كما وأن اسمها في التطبيق كان زهرة النرجس أيضاً
حتى وافقت على مبادراتنا وقررت تسميته بإسمها بدلا من زهرة النرجس.
أمي معجبة بزهور النرجس وتقول إن للنرجس سحر في الحب
ضع هذه الزهرة بالقرب من قلبك لاستخلاص الحب ، لكن احذر أن حُبك ليس من جانب واحد. وتقول بأن زهرة النرجس جالبة للحظ ، إذا تمنيت الحظ لشخصٍ ما عليكَ بزهرة النرجس .
ولكن لماذا زهرة واحدة قلت بتعب : لو انهم وضعوا زهرتين او اربعة ماهذا البخل
صوّبَ نظراته نحو الزهرة ثم قال : لا تكفين عن الانتقاد انتِ في المستشفى ولستِ في برنامج طلبات الأغاني
حملقت في وجهه مجددًا وقلت : ماالذي تفعله هنا ومهلاً لحظة من هو بيتر ؟
- لايوجد شخصٌ آخرٌ غيري هنا
نُسِجَت خيوط الصمت بيننا باحكام ، أشعر وكأنه يتعالى بصمته ، يعاقبني ربما ، لاتخرج الأصوات من أفواهنا ولكن هناك أصوات تتعالى بيننا بالنظرات هو غاضب وأنا اتذمر النجوم على كتفيه تصيبني بالتوتر . كان سيقول شيئا ولكنني تحدثتُ في اللحظة ذاتها التي قال فيها :
- انا أعرفك و..
- سألتني اذا اخاف مثل صديقتي اي اخاف منك وياريت متخليني أشوفك بعد
عقدَ حاجبيه بعدم فهم وقال : هل تحدثتِ بلغتكِ للتو كيف سأفهم ؟
- ياسيد لاأريد رؤيتك ثانيةً
- أتتهمينني بالملاحقة ؟ إنني اؤدي عملي هنا
- عملُ ماذا القتل ؟ أنت مجرم
- لستُ كذلك ويفضل أن تُبدي بعض الاحترام إنها أوامر أنا لااطلب منكِ ذلك ولن أحذركِ ثانيةً لست مضطرًا للجلوس هنا والتبرير لشخص لااعرفه
شعرت بالخوف من نبرة صوته التي بدَت عليها الجدية وحاولت الوقوف فسبقني بالنهوض شعرت بميلان الأرض قليلاً فوضع ذراعه خلف ظهري ليعترض وقوعي بها ، أبعدتها عني ونظرت له،
أشعر برموشي وهي تلتصق بححاجبيَّ لأنني أنظر لمن هو أعلى قامةً مني
أُحاول أن اسبقه بخطوات وقدميّ تشعران بالمشي على أرضٍ رخوة لأصل إلى الباب ولكنه لم يخرج بقي بانتظار مروري قبله حتى خرجت
رأيت دانييل ذلك الجندي الذي رفعني من كتفي أعلم بأنه تعرَّف عليَّ فورَ تفحصه لوجهي ، وعندما شاهدني الجندي آلاخر رفع صوته ليأمرني بالجلوس عدت إ الخلف بفزع فارتطمتُ بصدر الضابط دُرت برأسي فقط لأشاهد شاراته الحمراء والازرار الذهبية لسترته الزيتونية وصدره العريض يعترض بصري ، قال بهدوء : اتركوها لتغادر المكان كما سيفعل البقية
هززت رأسي مؤكدةً وعيوني تتأمل الجثة المرمية أرضا بقلق
أسرعتُ الخطى متجهة صوب الباب الرئيسي مبتعدة عن فريق الضابط بيتر الى حيث يزداد ضوء النهار سطوعًا ، التقطت أذناي كلمة واحدة (هجوم معاكس ) إلا أنني لم اكترث لما تعنيه. المسافة عن المنزل مشياً تستغرق عشرين دقيقة أو أكثر بقليل ، ابتعدتُ عن المستشفى بمسافة خمس دقائق
وبدأتُ ألاحظ بعض الجنود الاوكرانيين وهنا ارتعد قلبي خوفاً بحثت بنظراتي الفزعة عن مكانٍ أحتمي به عندما سمعتُ صوت الرصاص ثم تلاه رد الفعل السريع للجيش الروسيّ هرعت الى البناية المقصوفة على يساري يبدو عددٌ كبيرٌ من المباني مدّمراً، كما أنها على وشك الانهيار ، الباب مهدومٌ بالكامل فوهات النوافذ فارغة من الزجاج كلُ فوهة تحيطها هالة سوداء ناجمة عن الاحتراق ،تظهره بعض اسياخ الحديد من الكونكريت في العديد من الجدران، رائحة الإطارات القريبة المحترقة امتزجت برائحة التراب الموجودة في هذه البناية ،دخلتها بعد اعتلاء تلٍّ من الركام ، سمعت أصواتاً قريبة فهرولت مسرعة لأختبئ اسفل السلالم . أصوات الاوكرانيون تداهم المكان ضابطهم يُلقي الأوامر ، يأمر هذا بالصعود للطابق الثاني وذاك إلى طابق الثالث وغيرهما الى سطح العمارة بينما يُبقي البقية برفقته . في ظروف كهذه يتهادى سؤال واحد الى النفس ، هل سألقى حتفي في هذا المكان ؟ تكرر هذا السؤال على ذهني كثيراً منذ سماعي برغبة روسيا بالاحتلال وحتى هذه اللحظة .لا يكاد العالم ينفض عن نفسه كابوس حرب، حتى تشتعل حرب جديدة كما لو كان الصراع والتشريد والقتل وحصد الأرواح قدر البشرية المحتوم. حكام يُشعلون المعارك انطلاقاً من غرف مغلقة لا يغادرونها، بينما يدفع تكلفتها الباهظة ملايين من الأبرياء.
أنا الآن جالسة هنا على دلومقلوب اسفل السلالم . عندما أسمع صوت الرصاص أسقط على الأرض، ووجهي للأسفل. ربما لهذا السبب ما زلت على قيد الحياة . الإشتباك الآن ، بين كتيبة الضابط بيتر والاوكرانيين ،كان المكان سابقاً حيّاً مزدهراً في خاركيف، ويقيم فيه أكثر من مليون شخص والآن هذه بداية دماره فقط .
سمعت الجنود الاوكرانيين وهم يخططون للصعود الى الطوابق العُليا بكامل عددهم ، كانوا يتقافزون على السلالم دون أن يعلمون بوجودي اسفلها . بعد استقرارهم في اماكنهم وجهوا الرصاص واستلموه لمدة اخذت من الساعة ربعها ، تلا ذلك هدوء في العمارة ، انتظرت قليلًا لأتأكد من سبب الهدوء ولكنني فقدت صبري ، نهضت لأخرج من مخبئي وعيناي تحاول الاصغاء مع أذنيَّ ، جريتُ في الشارع المكشوف، سمعتُ رصاصة تقع بالقرب مني، وأخرى تمر بجانبي، وقبل أن تصل الثالثة كنت أرتمي بالقرب من كتيبة الضابط الذي منع جنوده مجددًا من الإيقاع بي وهو يهدئهم ويشرح بإيماءاته المتتالية سلميتي ، أمسك بمرفق يدي وسحبني بعيداً عن المقدمة خلف الدبابة الروسية أمرني بعدم التحرك وهو يتفحص جسدي بنظراته بحثاً عن إصابة ما! حذرني مجددًا وقال : لاتتحركي
رفع يده وأشار دون كلام للجنود الثلاثة في النهاية بالتقدم بينما بسط كفه للستة في الوسط وهو يأمرهم بالتزام اماكنهم وحثَّ من في المقدمة على الانتشار بالإشارة الى يمين الشارع وهي الجهة المقابلة للاوكرانيين في البناية .
فخرجوا من مخابئهم متحدّين وابِلَ الرصاص المتساقط عليهم كما امرهم بيتر كنت أسعل وأكاد أختنق بسبب عاصفة الغبار التي اجتاحت المكان، وأشعر بطعم الرمل في فمي ، وأسمع صوت أنفاسي المضطربة.
لم أستطع الرؤية جيداً بسبب الدخان الكثيف المنبعث ولمحت فجأةً وميضاً خفيفاً صادراً من هاتف جنديٍ روسي بدا أنّه مصابٌ بشدّة، ولكنه يحاول إرسال كلماته الأخيرة...
لعلّها كانت لمن يحبّ! وقفتُ مُصابةً بالذهول ولا أعرف أين سأهربُ وأنا أسمع أصوات القذائف تتساقط في كلّ مكان بشكلٍ منتظم، فتهتزّ الأرض وتتطاير الشظايا في المكان. حاولت أن أحصي عدد الانفجارات لكنها كانت كثيرةً جداً، وتوقفت عن العدّ عند القذيفة الثامنة وصلّيت بصمتٍ أن نستطيع الخروج من هناك أحياء.
التهمت ألسنة اللهب سقف أحد أطراف المبنى ، وكانت تتلاعبُ وتسطعُ وتمتد لتحرقَ أغصان شجرةٍ قريبة منا فنحن وسط الشارع على ميسرة البناية التي يتواجد داخلها الاوكرانيون ، . لذلك قررنا الذهاب في الاتجاه الآخر كما امرنا بيتر ، أخذنا نفساً عميقاً واتجهنا إلى هناك والحطام يصدر صوتاً قوياً عندما ندوس عليه.
لا أجدُ كلمةً مناسبة للتعبير عمّا شعرت به. فبعد أن مشينا لمسافةٍ قصيرة سقطتُ على جسمٍ طريّ اكتشفت أنه جثّةً بشرية... أو بالأحرى العديد من الجثث. نهضتُ ببطء وأنا أحبس صرختي وأشعر بالخوف مما هو أسوأ وتكاد نوبة الغثيان أن تصيبني من جديد ، لأنني شعرت بشيء رطبٍ ولزج على ركبتي. فحصتُ جسمي بسرعة ورأيت جرحاً على ركبتي، وشظايا الزجاج تملأ بنطالي من الخارج وخشيت أن تدخل جسمي، ولكنني تفقدته جيداً ولم أجد إصابات بالغة لحسن الحظ.
صاح الضابط بغضب: لماذا لاتزال الطائرات الروسية تزاول القصف ألا يعلمون بأمر فريقنا
أجابه الجندي المختص بالاتصالات : الاشارة ضعيفة للغاية مع ذلك فانني قمت بتبليغ الطيران الحربي على هذه المنطقة .
سكت وهو يتأمل السماء ، الطنين المتواصل في الأعلى أثار الكثير من التساؤلات. أهي طائرة؟ هل ستلقي قذائفها؟ لماذا تقصف رغم وجود الكتيبة ؟ لماذا نحن؟ وفجأةً، ودون سابق إنذار، دوّى انفجارٌ هائلٌ هزّ المكان، كان قريبًا للغاية ،
غضب بيتر وصاح : ارشقوهم بالرصاص علينا ان نخرجَ احياءاً من هذا المكان
وبدأوا بتبادل الرصاص دسست سبابتيَّ يدي َّ داخل أذنيَّ واخفضتُ رأسي وصرخت دون شعور وكأنها محاولات يائسة لصنع ضجيج ينافس ضجيج وابل الرصاص الممطر فوق رؤوسنا رائحة الدخان خانقة، والجثث والشعر المحترق تنافسها قوة ، ورائحة الدم الدافئ الممزوج بالبارود والرعب الذي شعرت به يمتزجون في قلبي وحواسي. لم أستطع أن أقاوم الرعب والحاجة إلى الهرب بحثاً عن ملجأ أحتمي فيه، لكنني تذكَرتُ أنني بأمانٍ حتى الآن ، كان قلبي يخفق بسرعةٍ كبيرة، وجلست في مكان قريب من الضابط المحتمي بالجدار لكي ألقي بنفسي إلى الخارج عند الضرورة. ودارت الأسئلة في رأسي بلا توقف. ما الذي سنفعله إن تعرضنا لهجومٍ بالقنابل، أو إن لم يسمحوا لنا بالمرور، أو إن تعرضّنا للاختطاف ؟! .
صاح الضابط وفي صوته انفعالٌ سعيد : سقط الهدف الأول والثالث عليكم بالثاني
صاح جندي عبر النافذة المطلة علينا من جانب البناية المقابلة للاوكرانيين: لقد وقع الهدف الرابع والخامس سيدي .
وهكذا بدأ الاوكرانيون بالانسحاب من المكان . بعد رمي الدخانيات في الشارع شعرت بالاختناق ، فأنا أكرهُ القنبلة الدخانية في لعبة ببجي وهي الآن أسوء فرائحتها كريهة ولونها رمادي ممتزج بالأحمر ، هتف الروسيون بسعادة وعانق الجنديان القريبان منا بعضهما وهما يهتفان تبادل الجميع الابتسامة رغم الخسائر التي حدثت ، ليسوا سعداء لأنجاز ذلك لدولتهم انهم سعداء لأنهم على قيد الحياة . اما أنا فعدتُ بظهري إلى الخلف وجلستُ براحة دون ان أنتبه بأنني أستندُ على ظهرهِ
____________________________________________
كنتُ أتّكئ على ظهرهِ عندما هزّني بعنفٍ بظهره وأيقظني وأنا أشعر بالرعب. ابتعدتُ عنه وأبعد نفسه هو الآخر .
سألته بصوتٍ مُرتجف: "ما الأمر؟"
فقال لي بقلَق: "هل أنتِ بخير"؟
أومأت برأسي إيجاباً.
ازداد الدخان كثافةً وخشي أن نختنق فقال: "لنخرج من هنا".
ولكنني أجبتهُ بحزم: "لا، سأبقى هنا. أفضل الموت اختناقاً بأوّل أكسيد الكربون السام على الموت برصاصةٍ طائشة
وأضفتُ قائلةً وأنا شبهُ غائبةٍ عن الوعي :" أغمض عينيك ان كنت خائفًا
لم أعرف ما الذي دفعني لقول ذلك، ولكنني الآن أضحك على تلك العبارة. فهي خارج السياق تماماً.
ابتسم رغم التعب الذي كانَ جليًا في مظهره ووجه المتسخ بالسخام فأبرز ذلك لون عينيه الرماديّ أكثر انتزع الخوذة من رأسه فتبعثر شعرُه ، قدَّمها أمام ناظريَّ فسألت : "ماذا "
رفع حاجبيه وقدمها أكثر فاخذتها ، امسكتُ بها بيديّ وتأملتها بهدوء وقد خالجني شعور الامتنان عندما رفعت رأسي لألقي نظراتي عليه ،ووضعتُ الخوذة على رأسي
ابتسم وقال بصوتٍ مرتفع محدثاً فريقه دون ان يزيح نظراته عني :"لنخرج من هنا "
نهض وناظرني بعناد واضح : "أوامر ! "
لم اتمكن من تفسير شبح الابتسامة المرافق لهذه النظرات الجدية ، استسلمتُ في النهاية متنهدة اتنفس تلك الانفاس المنتظمة التي تعقب الازمات .
بعد دقائق تمَّت تصفية المنطقة وتوقفت الغارات ، وانشغل الجميع بنقل الجثث بينما كان يوجههم ويستحثهم على الإسراع
اتجهت صوب مكان وقوفه كانت الشمس خلف رأسه تواجهني فكنت اناظره وعينيَّ تشكوان من الشعاع الذي يخترقهما لان طول قامته تطلب مني رفع رأسي بهذا القدر سألته : هل عليَّ أن أقول سيِّدي أم ماذا
-"هو هو هو "
قام أحد الجنود بتمثيل صوت الكلب فنظرت الى المجموعة الواقفة خلفي مباشرة أحدهم يدَّعي الكتابة ممسكًا قلمه ودفترهوالآخر يحاول معالجة صديقه المصاب ودانييل يرتدي خوذته ويربط حزامها على وجهه بقوة ،
-"ليس عليكِ ذلك فلستِ تحت إمرتي "
اجابني الضابط بهدوء ليس كعادته ، قال دانييل فجأة :
- "احترس سيدي فهي تعُض "
عقدتُ حاجبيَّ وقلت : "لن أعض أحدًا سأُغادر وأتمنى ألاّ نلتقي "
- دانييل قم بتوصيلها إلى منزلها لتعرف بأننا لا نؤذي العُزَّل
قال عبارته موجهاً دانييل مجدداً ، المتنمر الذي سيمضي الطريق ب"هوهو "
- "كيف سأوصلها ياسيدي "
نظر بيتر للسيارة المركونة والواضح أنها مركونة في مكانها منذ فترة اوراق الاشجار تجمعت على صندوقها مع ثمر الكرز المتساقط ، وقال : "هكذا"
انتزع مسدسه من محفظته وضرب زجاجة السيارة بقوة وفتح بابها ، دخل ليجلس بكامل جسده مخرجاً اسلاكها عن طريق مفك كأن موجودًا في دُرج السيارة .بقيت ساقه الطويلة الثانية خارج السيارة وتركَ الباب مفتوحًا . اخذ دانييل واحدة من ثمرات الكرز المتساقطة على صندوق وأسفل زجاجة الواجهة مسحها بثيابه ورمى بها نحو الاعلى ليتلقفها بفمه ، صوَّبت نظري نحو الكرز كان مظهره شهياً مع جوعٍ كالذي أشعر به ولكنَّ نظري وقع أبعد من ذلك ، إلى ماوراء الزجاجة حيث ، يركز قاطباً حاجبيه على الأسلاك ليربطها ببعضها ويقوم بتشغيل السيارة ، جبينه متعرقٌ رغم برودة الطقس ، يبدو بارعاً في السرقة .
انتبه لنظراتي فشعرت بالإحراج لأنه توقف عن النظر للأسلاك
ونظرَ لي ، اخذتُ حبة كرز من نفس المكان ، كانت كبيرة وغامقة مقارنةً بالبقية قضمتها ، انساب ماؤها الأحمر على شفتيَّ فابتلعتها مع نواتها اثر انزلاقها في فمي دون قصد ، ضحك بخفة عندما فعلت ذلك قاطعه صوت السيارة التي بدأت بالعمل وارى ابتسامته خلف ملامحه الجدية عندما لمحني . ترجل من السيارة ودفع بكتف دانييل ليجلس مكانه قائلًا: " لاتتأخر "
- "ايمكنني الاعتراض "
قال دانييل ذلك بترجٍ واستكمل مازحًا : "لاأعرفُ قيادة السيارات "
رفع بيتر حاجبيه متعجبًا وقال : " المعاملة الجيدة افسدتكم "
ضحكَ دانييل وقال :" سيدي إن اذنت لي أُريدُ محاولة محادثة أُمي عسى أن التقط إشارة قبل حدوث اشتباك آخر "
فتح بيتر باب السيارة ليركبها مشيرًا بيده لدانييل ليغادر الأخير ،
حرّكَ رأسه بإيماءة صغيرة وقال : " اركبي السيارة "
ركبتُ السيارةَ بجواره ، اخفضتُ زجاجة النافذة بعدَ أن تحرَّكت السيارة ، وبدأ الهواء الممتزج برائحة الدُخان والكرز بلفح وجهي بهدوء ، تناثر الكرز الذي كان يعلو الصندوق بعدَ زيادة سرعة السيارة . لأنه كان يقود السيارة وكأنها سيارة عدو! بل كأنها هي العدو ! إنَّه لايأبه لأمر المطبات والتقاطعات يفتح هاتفه ويناظره دون أن يرى الطريق ثم يرفع رأسه ممسكًا المِقوَد بكفٍ واحدةٍ ويعود مرًّ أُخرى للهاتف ، ألتصقُ بظهري على مقعد السيارة أمسكُ بطرفيه محاولة مقاومة القفز من المقعد اثناء قيادته
قلتُ متذمرة :" أهذه قيادتك للسيارة بشكلٍ عام لقد خرجنا للتو من موتٍ مُحتم "
لم يُعرني إنتباهاً، بقيَ على سُرعته وربما قد زادها قليلًا ، يقود السيارة كمن يريد الانتحار بشكلٍ مشهديّ .
خفَّضَ سُرعته عندما شاهد بعضُ المارّةِ وهم يقطعون الشارع ، توقف والتفتَ نحو نافذته تأمل الفراغ بهدوء .يكاد رأسه ان يرتطمَ بسقف السيارة لطول قامتهِ.
- "كيف شحنت هاتفك "
ناظرني بعد سؤالي كمن يقرأ وجهي وقال : "أنا في الجيش الروسي
أتستصعبين شحن الهاتف عليّ ؟"
فتحتُ دُرج السيارة بعد إجابته الغريبة .وقعَ نظري على دفتر صغير ، اخذته وبدأت تلمسَ غلافه الجلديّ الأخضر ، فتحته وبدأتُ بقراءة مافيه كُتبَ في الصفحات الاخيرة : لقد نقلت المعلومات قبل نفاذ بطاريتي ،الجيش الاوكراني يحاول شن هجمات على الكتائب الحدودية في خاركيف ، يوجد مخطط ....
توقفتُ واغلقت الدفتر بقوة فأصدرَ صوتاً .
- أتتطفلين هكذا دوماً ؟
- سأحتفظ بالدفتر كذكرى
- تسرقين
- ألم تسرق سيارة ؟
- سرقتها للإنتهاء من مسؤوليتكِ ومن منظورٍ آخر لأُنقذ حياتك
ارتخى جيب سترته بسبب كسرة في قماشها الصوفي اثر جلوسه فسقطت منه زهرة النرجس الصفراء . ذكرتني بالزهرة التي كانت في المستشفى
نظرتُ له وقلت " لقد أوقعتَ زهرتك "
نظر بجواره باحثاً عنها أمسكَ بها ودسَّها في جيب سترته بصمت دون أن يوضح سبب احتفاظه بها .
تحرَّك بالسيارة مختصرا الدقائق بسرعته حتى اوصلني إلى المنزل .
ترجلتُ من السيارة وكنت سأخفض رأسي لأُحدّثه عبر نافذتها ولكنه قاد السيارة على عجل ٍ مبتعداً فرفعتُ يديَّ بفزع ولوم . وخوذته تعلو رأسي .
لم يترُك لي فرصةً لشُكره . قد لايستحق الشُكر ولكن كانت رغبة كبيرة. بعد ان اطمئناني على رفل التي كانت خائفة بسبب تأخري وسرد الأحداث لها ومضيّ فترة العصر والغروب . خيَّم الظلام على المدينة ، انقطاع في خدمات الإنترنت والإتصالات رافقها انقطاع تام للكهرباء ، لم يتبقَ لدينا سوى ضوء مصباح يدوي . وموقد نجلس حوله وغطاء نتلحف به أمام النار حتى أوشكت النار على الخمود ، زارني وجه الضابط بيتر تذكرتُ أين رأيته من قبل . كان الامر قبل ثلاث سنوات ، وسط مدرجات من أربع مستويات تحيط بحلبةٍ مساحتها تتجاوز العشرين مترًا ، أجلسُ وقد سطت على وجهي علاماتُ الاكتئاب فأنا هنا لوحدي بعد ان نكث اصدقائي وعودهم لي بمرافقتي ، ابتسم عندما يقع نظر أحدهم على وجهي ولكنهم يتجهَّمون ، الروس قليلوا الابتسامة رغم كونهم شعبًا ودودًا. اجلس وسط هذه الحشود الشقراء لمشاهدة صراع بين دببة مروضة تشبه الى حد كبير دببة السيرك ، يقومون باستعراضها في كل عام ضمن عادات عيد "ماسلينيتسا" ، يعتبر اسبوع العيد هذا وداعاً لفصل الشتاء يقوم المحتفلون بحرق مجسماً من القش يرمز إلى الشتاء في كثير من القرى والمدن وداعاً له لاعتقاد الفلاحين أنه بعد الحرق ونشر الرماد على المحاصيل فإنها ستصبح أكثر خصوبة. يطلق على عيد "ماسلينيتسا" أسماء عديدة من بينها "أسبوع المرافع"، أو "أسبوع السمن" أو "أسبوع الفطائر"، والأخير نسبة إلى الفطيرة الروسية الشهيرة "البليني" التي تعتبر جزءا لا يتجزأ من هذا الأسبوع. وكعادتي أُصاب بالملل بعد قضاء عشرِ دقائق في الجلوس ، يخبرني عقلي أنه موعد البليني ، لاوقت لمشاهدة الصراع بين الدببة فالصراع يحدث كل يوم مع عائلتي وأصدقائي ،
أقف بحركة سريعة ارتب حزام البلوفر الداخلي ثم اسحب ياقة سترتي لأجعلها مسطحة اكثر ، واتحرك مسرعة عبر ممرات الحلبة الداخلية ، لأصل إلى الباب الخارجي . يمكنني رؤية الطاولات والاكشاك التي تقوم ببيع الفطائر كنتُ على حيرة من أمري ، اخترتُ الأقرب لمكان وقوفي ، وقفت حيث يسبقني شخصان بانتظار دوري ، استرقت النظر من خلفهما الى الفطائر الموضوعة بكميات كبيرة ، أحسست فجأة برغبة جارفة لم تكن مجرد رغبة كانت جوعاً ، لمعت عيناي إثر هذه الرغبة . لا أتمكن من رفع نظري مليمتراً واحداً لأرى أكثر مما أراه في هذه اللحظة.
لكن ، فجأة سمعت صوت الرجل الذي يقف خلفي مباشرةً وهو يردد بنبرة حزن : كل مااعرفه أنني اريد لهذه الحرب أن تنتهي لقد واجهت في سوريا أمورًا لا أريد أن اراها ثانيةً .
التفتُ على عجل لألقي عليه نظرة سريعة بدافع الفضول ولكنه دعس على طرف قدمي بعد ان القى التحية على البائعة التي تعرفه متقدمًا بخطوة كنت سأدفعه عني بسرعة ولكنه بدأ بسحب قدمه بروية وتدريجيًا ملقياً بصره على قدمينا ، تسائلت في رأسي لمَ لم يبتعد فحسب ولأنني ابحث عن المشاكل دوماً دون قصدٍ مني إنما هو أحدُ طباعي التي لم أتمكن من السيطرةِ عليها حتى الآن قلت بنبرة عالية ليتمكن من سماعي وسط ضجيج المهرجان : لقد آذيتني إرفع قدمك فحسب
نظر لي لبرهة دون أيّ تعبير على وجهه ، ثم ارتسمت ابتسامة جانبية صغيرة تكاد لاترى على شفتيه ،قال بصوت جذاب وسرعة نطق للكلمات : ظننتك روسية ، اعتذر انها إحدى عاداتنا هنا
بتجهمٍ واضح على وجهي اجبت :الدعس على الأقدام ؟
ابتسمت ساخرة من عبارته فقال مقاطعاً سخريتي : سحب القدم بروية يا ..؟
- سارة
عقدتُ حاجبيَّ ومازالت تلك الابتسامة الساخرة تظهر على وجهيشكراً لتواجدكم 🤍 واراؤكم 🤍😍
أنت تقرأ
رسائل تحت وابل الرصاص
Romanceماالذي يُجبرك على الكتابةِ بين الركام ألا يُمكنك سماع المدفعيات -على هذه الرسالة أن تصل إليها أنت تعرف أنَّ الرسالة الورقية هي وسيلتي الوحيدة حاليًا لايُمكنني ترك وسيلتي للوصول إليها ، أريد أن أراها -لاارى في الامر سوى ان احدهم سيموت ، نحن في مواق...