(سارة )
عندما التقط دانييل الإشارة أخيرًا أجابه قسطنطين ، فضغط دانييل على زر المايكرفون لأتمكن من الإستماع للمكالمة ، قال قسطنطين بصوتٍ متقطع : أين أنت وهل سارة برفقتك
أجابه دانييل بنبرة مرتفعة وضعتُ اصبعي في أذني لأتجنبها : نحن بخير ، في منطقة نائية لاإشارة قوية هنا مازلنا في اوكرانيا منطقة ريفية لاأعرفُها ولكنني أعتقد بأنها الى الجنوب وليس الى الشرق في مزرعة صغيرة ماذا عنكم ؟
تقطَّع صوت قسطنطين عندما أجاب لم تكن عبارته مفهومة ، كل ماالتقطته اذنيّ هو اسم بيتر ، فأخذتُ الهاتف ورفعتُ صوتي هاتفةً بلهفة : ماذا عنه ماذا حدث ؟ اخبرني هل بيتر بخير
لم تستلم أذنيّ أيَّة اشارة ، صوته متقطع ؛ بين الحرف والحرف فاصلٌ زمني ،حتى انتهاء الاتصال . ظهرت على شاشة الهاتف عبارة "ضعف الشبكة " "انتهاء المكالمة" .
بقيتُ صامتة أُفكر في سبب ذِكر اسم بيتر في بداية المكالمة ، أخَذ دانييل الهاتف وهو يتفحص ردة فعلي الغريبة الواضحة على وجهي ، دسَّ الهاتف في جيب بنطلونه وجلس على الكرسي المجاور لي في غرفة الطعام ، دسستُ أصابعي بين خصلات شعري ، فانسابت الخصلات على وجهي لتغطيه ، لم أبكِ هذه المرة ولكنني أكادُ أجَن بسبب الفضول القاتل ، شعرتُ بكف دانييل حين وضعه أعلى ظهري بخفة وهو يقول: لاعليكِ سنستمر في محاولاتنا
درتُ برأسي قليلاً لأتأمله ، ابتسم بلطف بالغٍ وهو يبعد يده عن ظهري
تأملت أكمامه القصيرة وابتسمتُ مُرغمة ً .
سألته لأطمئن عليه: كيف حال جرحك ؟
وضع يده على صدره وقال : لقد قمتُ بتعقيمه قبل قليل ولكنني أكنُّ الضغينة لذلك الذئب أريد أحد أنيابه لأصنع قلادة
سألته بفضول : ألديكَ الخبرة؟
عبث بأطراف كمه محاولاً سحبه ليُصبح أطول مرددًا: في تراثنا لاشيء يجلب الحظ كَتعليق أحد أنياب الذئب أسفل العنق ليس هذا فقط تقول أمي بأنها تطرد الأرواح الشريرة أيضًا .
ابتسمتُ وسألت : يبدو انك على علاقة جيدة بوالدتك
ضحك بخفة وقال : تمتلك أمي روح دعابة يشكل خطرًا عليّ تفوز دائمًا بخفة دمها عندما تنافسني
اتسعت ابتسامتي فقلت بصوت خفيض : أتمنى ان تلتقي بها قريبًا
أطرق رأسه مستمراً بسحب أكمام كنزته بحزن وقال : لم اتمكن من مهاتفتها منذ أسبوعين تقريبًا
ربتت على كتفه بخفة وقلت : ستعود وستعرفني عليها أيضًا
قاطع حديثنا سيمون وهو يدخل مصفقاً بيديه السمينتين الصالحتين للاكل وهو يقول : ماهذا التأخير اأنتما متأخران كثيراً هيا هيا انهضا
ابعدتُ الكرسي إلى الوراء لأنهض فقال دانييل لسيمون وهو ينظر الى ثيابه بشفقة : عمي هذه الثياب قصيرة كثيرًا
ضحك سيمون وهو يتأمل دانييل وساقيه الظاهرتين مردداً : لقد جفت ثياب الفزاعة التي سرقتها يمكنك ارتداؤها .
ابتهج دانييل وتبع سيمون ليأخذ الثياب المغسولة والجافة وبينما كان يغير ثيابه تبعتُ آنوشكا الى الحقل بعد أن طلبت مني جَني ثمرة الاجاص الأصفر ، كان لدي عشر سلات خشبية متوسطة الحجم ، وبينما وصلتُ الى منتصف السلة اقترب دانييل آخذاً احدى السلات ليسبقني الى العمود المجاور حيث الجهة الاخرى للشجرة التي أقوم بجني ثمارها .
كان أطول قامة مني وبأمكانه جَني عدداً أكثر مما لدي . شعرتُ كما لو أنني في منافسة معه فحاولتُ الإسراع في قطف الثمار ، بينما لم ينتبه لحركاتي السريعة أخذ يتأمل الشجرة اقترب من الجذع كما لو أنه سيحتضنه وقعت نظرته على وجهي فسألته : ماذا
قام بهزّ الشجرة بقوة فأوقَعَتْ الكثير من الثمار الناضجة ، بدت كما لو أنها تُمطر بالاجاص واوراق الشجر، اخذتُ اجمع مايتساقط جالسة القرفصاء قرب الشجرة ، فاتجه صوب الشجرة المجاورة وعاوَد الكرّة وعندما وقعت ثمرة اجاص كبيرة وغريبة على رأسه صاح موبخاً الشجرة : لم نتفق على هذه الطريقة ياحبيبتي
فرك انفه متألمًا فاتجهتُ لأجمع ما اسقطته الشجرة بالقرب منه ، ولكنني لم اتمالك ضحكتي مستذكرة أنفه الأحمر ، هز الشجرة ثائراً فوقعت اغلب الثمار فوق رأسي ، نضرت حولي نظرات تهديد باحثة عن شيءٍ أرمي به ناحيته فهرب نحو الشجرة الثالثة واختبأ خلفها ضاحكًا وهو يهتف : سليطة اللسان ألا يمكنني المزاح قليلًا
رمقته بنظرة يأس وجمعتُ الاجاص محاولة مداراة إبتسامة بدت واضحة على طرف فمي .
أنتزعني صوته من أفكاري بغتة ، وحين نظرتُ إليه وجدته متأملًا لضحكتي حين قال : الضحكة أجمل بكثير من عقدة حاجبيك المخيفة تلك
أطلقتُ تنهيدة مريرة وأنا أنهض من مكاني وأخطو عدة خطوات نحوه : وكيف سيهنأ لنا بال وكيف سنضحك ونحنُ لانعلم ماحل بأصدقائنا هناك
تأملت الحقل المليء برائحة الفواكه والزهور والطين لوهلة ثم تركته خلفي ،و تابعتُ قطف الثمار .
مرَّ ذلك النهار بحبٍ بالغ ودفئ وكلماتٍ طيبة ، لاينقصه سوى إيفانوفيتش يقتطف الثمار يفتح الفاكهة ويضع بعضها في فمي او ربما يملأ خوذته بها ويقدمها اليّ ، وقد يكون جالسًا على ذلك الكرسي الخشبي الفارغ في نهاية طاولة الطعام يسترق النظرات ويتأملني كما لو أنه يراني للمرة الأولى غير مهتمٍ بما يتلقاه من تعليقاتٍ مازحة . قد يكون جالسًا على طرف السرير ينتظر جلوسي في حجره ومعانقته والمسح على رأسه . او قد يتخذ من الكرسي المتحرك مقعدًا محبباً .
لكنه لم يكن هنا ، كان يومي فارغًا منه ، حتى استرحتُ على السرير واجتذبت الغطاء لمنتصف جذعي ، متكئة على حافة رأس السرير وأنا أتأمل النافذة ، أنظر الى القمر ، ﻛﺎن ﻳﻨﻈـﺮ ﻣـﻦ ﺳـﻤﺎﺋﻪ شبه اﻟﺼﺎﻓﻴـﺔ إﻟـﻰ اﻟﻤﺪﻳﻨـﺔ ، تقاطعه بضع غيوم خفيفة متبقية من ليلة البارحة. وضوئه يتسلل الى الغرفة رغم وجود الإنارة المنضدية بجواري. أقوم من السرير واقف عند النافذة افتحها لأتأمل القمر فيلفحني هواء الربيع البارد ، درجة الحرارة ٧ درجة مئوية ، استنشق حلاوة الليل ببطئ تهب الرياح الخفيفة فتحرك شعري بهدوء ، أُغمض عينيَّ لأتخيله ، أين هو الان في هذه اللحظة من الليل ! لايمكنه أن يكون ميتاً ، ليس من المعقول أن يغطي التراب وجهه الحسَن ، ليس من المعقول أن يشيع جثمانه كشهيدٍ روسي ، من غير المنصف أن يجلس القادة خلف عروشهم دون خدش ويموت الأبرياء من الطرفين دون ذنب .
تخلل أسماعي صوت فتح الباب فالتفتُ لأرى دانييل الذي دخل مبتهجًا وهو يدور حول نفسه بأعجاب لُريني ثيابه الجديدة وهو يقول : لقد اشتراها سيمون يبدو انه عطف على مظهري المثير للشفقة وقرر ان يرحمني .
ضحكت متأملة البلوفر الرمادي الذي ناسب مقاسه تمامه ، والبنطلون الكتان المليئ بالجيوب ، لم يختلف مظهره عن الزي العسكري كثيرًا سوى انه اظهر عضلات صدره وكتفيه بشكلٍ واضح.
اقترب ليقف بجواري مسنداً كوعيه على حافة النافذة رفع نظره نحو القمر وقال : ليلة مقمرة وطقسٌ لطيف لاينقصه سوى المعسكر
اختفت ابتسامتي ، فرفع جذعه وحرَّك يده بغير قصد لتلامس شعره ولكنه ضرب اطار النافذة بقوة فتألم ممسكاً بيده ، يتقافز في مكانه ضاحكاً من شدة الألم ، بينما كنتُ أراقبه بعينين دامعتين من شدة الضحك .
كان دانييل مسكن الألم الذي اتعاطاه متجاهلة سقمي ، بينما فقدتُ علاجي مع بيتر منذ الهجمة .
مرَّت عشرة أيام أصبحتُ خلالها فلاحة محترفة تعلمتُ من آنوشكا بعض الأكلات الروسية ومن سيمون بعض الاكلات الاوكرانية الحديثة ، ساعدتهما في جميع اعمال المنزل واعتدتُ على إطعام حيوانات المزرعة الخراف والبقرات الاربع ، الدجاج ، والبط والإوَّز ، وكلب الحراسة الذي اعتاد وجودي تدريجيًا حتى أصبح يركض صباحًا نحوي فورَ رؤيتي فيُذكرني بلوسي وجوجو .
رأيت ولادة انثى الحصان للمرة الاولى ، وشهدتُ موت أحد الخنازير للمرة الاولى ، كان ذلك حزينًا بالنسبة لآنوشكا وسيمون ولكنهما يتأقلمان مع الأمر.
كانت آنوشكا القلب الحنون الشبيه بعاطفة جدتي كلما رأيتُ القطط تجتمع حولها تجمعت الدموع في عيني ، وأنا أتأملها كلوحة مرسومة بتلك الربطة الحمراء المثلثة التي غطت نصف شعرها فتضهر غرتها البيضاء على جبينها، وبإبتسامتها الحانية تحتضن القطة التي في حجرها وتتمسح على رأس القطة التي تجلس على حافة الكرسي الخشبية المجاورة ، تمسح الأخيرة رأسها بأكمام آنوشكا فتضحك بحنية وتقرب القطتين منها كما لو أنهما صغيرتيها المدللتين .
تجلس في الباحة الامامية للمنزل وقت الغروب لاشيء يشوب فكرها سوى الحيونات والحقل . تضع وشاحاً صوفيًا أبيضاً على كتفيها . تنورتها البنية الواسعة واضحة عند الجلوس . وحذائيها الملونين مدببي المقدمتين كانا في غاية الجمال .
أخبرتني بأنها تحضر لمفاجأة لطيفة صباح اليوم التالي ولكنها لم تخبرني عنها .
ليلًا وبعد خلود سيمون وآنوشكا الى فراشيهما كان دانييل يجلس حول مائدة الطعام الفارغة يطوي أحد ساقيه على الكرسي ويسدل الأخرى ، يسند أحد كوعيه على طاولة الطعام يعتصر جبينه بكف يده وهو يتأمل الهاتف الذي لم يتمكن من التقاط اشارة حتى اليوم .
قررتُ إعداد كوبين من شاي زهرة الزيزفون لكلينا ، الروس يفضلون منذ القدم الشاي الخفيف جدا. ففي المقاهي والمطاعم الروسية يوجد منذ العهد السوفييتي معيار واحد لغلي الشاي: اربع غرامات شاي لكل لتر من الماء. وهذا المعيار في إنكلترا هو 30 غراما، وفي الهند 45 غراما لكل لتر من الماء. للشاي الخفيف في روسيا جذوره القديمة. إنها عادة توفير بقيت منذ كانت قوافل الإبل تحمل الشاي من الصين، وكان الشاي يعتبر مادة ترف ليست في متناول الجميع.
الشاي عند الروس جزء مكون للثقافة القومية على امتداد عدة قرون.
أنت تقرأ
رسائل تحت وابل الرصاص
Romanceماالذي يُجبرك على الكتابةِ بين الركام ألا يُمكنك سماع المدفعيات -على هذه الرسالة أن تصل إليها أنت تعرف أنَّ الرسالة الورقية هي وسيلتي الوحيدة حاليًا لايُمكنني ترك وسيلتي للوصول إليها ، أريد أن أراها -لاارى في الامر سوى ان احدهم سيموت ، نحن في مواق...