(مشهد) مساء ممطر

45 19 0
                                    

في مكان مفتوح مظلم نسبياً وبينما المطر ينهمر بغزارة كان يُسمع فقط تساقُط حبات المطر متتابعة وارتطامها بالسطح القرميدي الذي يوفّر حماية آنية للرجلين الجالسَين تحته فوق مقعد خشبي طويل تفصلهما عدة إنشات.

أحدهما كان مطأطئ الرأس يتأمل الرصيف المبلل أمامه بصمت تام.

الآخر كان يعبث بهاتفه (المصدر الدائم الوحيد للضوء، إذ أنارت سيارتان عابرتان المكان لفترة وجيزة من الوقت خلال المشهد الصامت السابق.)

"هل تعيش في الجوار؟ أراك عادة هنا تنتظر معي حافلة الساعة التاسعة"

قطع الصمت الرجل صاحب الهاتف. وكان ذا جسد ممتلئ طويل وضخم، صوته خرج عالياً بدايةً ولكنه عاد وأخفضه في نهاية الكلام.

"لا. عليّ أن أستقل حافلة أخرى بعد حتى أصل إلى حيث أسكن".

"هذا يعني بأنّه قريب!"

مرة أُخرى قُطع الصمت.

الآن أصبح المكان مظلماً تماماً لأن الرجل صاحب الهاتف قد أغلق هاتفه والتفت يناظر جليسه مومئاً.

"في الحقيقة، أنا أظنّ أنّي أعرفك."

حين سمع الرجل ذو الرأس المطأطأ العبارة الأخيرة هو فقط همهم بعدم اهتمام وما يزال منكساً رأسه.

"أنت مدرّب في النادي الرياضي القريب، ألستَ كذلك؟".

"لا لستُ كذلك".
بنبرة جافة تحدّث الآخر.

"غريب! يبدو أني أخطأتك مقابل شخص آخر"

"لا عليك".

ما يزال الرجل المخاطَب على حاله ولهجته كذلك ما تزال جافة.

"أوه! نعم لقد عرفتك، أنتَ ممرض قسم الإسعاف في المشفى القريب، صحيح؟"

همهم الآخر فقط كإجابة.

"عملك صعب في الحقيقة أنا أعترف بذلك".

"ربما".

"هل أُزعجك بثرثرتي المتواصلة؟"
قال الرجل صاحب الهاتف. ولم يبدُ آسفاً حقاً..

"لا، لا عليك".

"إذاً. كم حالة أسعفتم اليوم؟"
بلحظة كانت نبرته قريبة للأسف، ولكنّها تحوّلت إلى الحماس في اللحظة التالية.

"لا أعلم".
اكتفى الآخر بذلك.

"ما هو اختصاصك بالتحديد؟"

"التخدير"

صفّر الرجل صاحب الهاتف معجباً قبل أن يقول: "جميل!"

"نعم هذا صحيح"
الآن تفاعل الرجل ذو الرأس المنكَس مع جاره لأول مرة موافقاً.

"كم مضى على عملك في ذلك المشفى؟".

"عامان تقريباً".

"تلك هي المدة ذاتها مذ باشرتُ مزاولة عملي".

أخبر الرجل ذو الهاتف وتلقّى الصمت في المقابل.

"أنت تحب التحدث عن عملك. لاحظتُ ذلك".
صرخ تقريباً رغم ما حصل عليه من تجاهل.

"نعم أوافقك القول".
قال الآخر وعاد لصمته.

"ألا تزعجك ثرثرتي حقاً؟".

"لا، تبدو مرحاً وهذا ظريف".

"شكراً".
بلباقة تحدّث الرجل ذو الهاتف.

ضحكات صاخبة أخذت بالتصاعد مصدرها الرجل ذو الرأس المنكَس.

ببطئ رفع رأسه محدّقاً في الشارع المقابل، ذلك تَزامنَ مع مرور مركبة أضاءت الموقع تُظهر التشابه الكبير والغريب ما بين الرجلين، بدا أحدهما وكأنه صورة للآخر.

"أنت تحب هذه المشاهد الخاصة باللقاءات العشوائية، ألستَ كذلك؟"
قال ذلك الرجل الذي كان منكس الرأس حتى وقت قليل مضى.

"وأنت موجود هنا لتلبّي ما أحب وأهوى. هل أنا مخطئ يا توأمي العزيز؟".
بلهجة عابثة ردّ الآخر.

الاثنان كانا يناظران الأفق البعيد الذي اتخذ صورة رائقة صافية الآن بعد أن تلاشى المطر وكذلك ما سبّبته من غيوم مظلمة قد أخذت بالتباعد تدريجياً.

"لا لستَ مخطئاً."

أعلن الرجل الذي كان رأسه منكساً ثم استقام مع وصول الحافلة المنتظَرة يتبعه الآخر قابضاً على هاتفه بيد وبالأخرى مظلّته الطويلة التي بدت لامعة بالقطرات العالقة بها أسفل الضوء الصناعي من المركبة الضخمة.

-

Randomحيث تعيش القصص. اكتشف الآن