14- علكة!

19 4 0
                                    

رواية #هومكا
#الفصل_الرابع_عشر
"عِلكة"

منذ تسع سنوات تخرجت من الجامعة في كلية العلوم قسم البيولوجيا. كنت شابًا مفعمًا بالأمل والحيوية، مقبلًا على الحياة بكل شوق، أرسم أحلامًا عدة أمامي وبحثت عن عمل في كل مكان سعيًا لتحقيقها فانتهى بي المطاف بأن أعمل في إحدى الصيدليات الكبرى في مدينة بعيدة عن الحارة التي أقطن بها في مصر القديمة؛ فقد كنت فقيرًا معدمًا، ضاع حلمي بأن أُصبح معيدًا في الكلية بسبب الواسطة بالطبع، كما أنني كلما بحثت عن عمل في تخصصي اشترطوا سنوات من الخبرة، ومن أين سآتي بها وأنا ما زلت خريجًا غريرًا؟! طيلة أربع سنوات وأنا أعمل في الصيدلية ليلًا نهارًا حتى أستطيع أن أجمع مالًا أستطيع به أن أسافر لأي بلد عربي فلربما استطعت أن أعمل هناك في مجالي أو على الأقل أعمل في مجال آخر يُدِرُ علي دخلًا جيدًا أستطيع به أن أؤسس بيتًا وأسرة. كنت أتمنى أن أسافر وأعوض والديَّ عن سنوات شقائهما لأجلي، لكن للأسف ماتت أمي بعد تخرجي بعامين، وما لبث أبي أن لحق بها قبل أن تمر ذكرى وفاتها الأولى فلم يتحمل فراقها وقتله حزنه عليها. بعد وفاة أمي حزنت بشدة فقد كنت أحبها جدًا، كانت مني بمثابة الروح للجسد، فقدت روحي بموتها، وبعد وفاة أبي فقدت قلبي وأصبحت أحيا بجسد فارغ، خاوٍ من الروح والقلب والمشاعر أيضًا. لمدة شهرين وأنا أحبس نفسي في بيتي، لا أريد الخروج ولا رؤية أي شخص؛ فرؤيتهم تُزيد عذابي، كيف لا وهم عندما يرونني يتأملون ملامحي ويقولون: "كأننا نرى أباك إذ رأيناك؛ فأنت نسخة منه، تُشبهه بشكل لا يصدق! كأنه قد تم استنساخك منه!" كانوا يظنون أن تلك الجملة ستربط على قلبي وتجعلني أبتهج وأصبر لكن لا يعلمون وقعها على نفسي، كانت تلك الجملة تنزل على سمعي كالصاعقة كأنهم قد غرزوا خنجرًا مسمومًا في قلبي ثم انتزعوه منه فتركوه ينزف إلى أن أغرق الأرض بدمائه، تلك الجملة جعلتني أتمنى لو لم أكن أُشبهه قط مما جعلتني أحاول أن أخرج من قوقعتي وأعمل جاهدًا لأجمع مالًا أستطيع به أن أترك البلد للأبد ولا ألتقي بمن يعرفوني مرة أخرى. بحثت كثيرًا وسألت في كل مكان عَمَّن يستطيع أن يساعدني حتى قابلته صدفة ذات يوم؛ إنه مرتضى رافع، زميل الجامعة، الصديق الأقرب لقلبي والذي فرقتنا مشاغل الحياة وها نحن نلتقي بعد أربع سنوات من تخرجنا. كان لقاءً حارًا مفعمًا بالشوق والذكريات، تلاقى قلبانا عندما تلاقت أذرعنا ونحن نتعانق بكل شوق والبكاء هو المتحدث الوحيد. كم كان لقاءً مبهجًا لقلبي المكلوم! لم نترك بعضنا ذلك اليوم، خرجنا معًا وتحدثنا كثيرًا نسترجع الذكريات ويحكي كل منا للآخر ما مر به خلال سنوات الفراق الأربع. عندما علم مرتضى برغبتي في السفر قال لي: "أبشر يا صديقي! سأساعدك."
قلت له بلهفة: كيف؟ أرجوك أخبرني.
قال لي وهو غير مصدق أنني متلهف للسفر إلى هذا الحد: "لقد دلني زميل لي في العمل على شخص يقوم بمساعدة من يرغبون بالسفر مِثْلنا أنا وأنت وسيقوم بتسفيرنا إلى أوكرانيا."
سألته بدهشة: مثلنا! هل تريد أن تسافر أنت أيضًا؟!
قال لي بفرحة شديدة: "نعم يا صديقي؛ فلقد أخبرتك أنني خطبت الفتاة التي أحببتها في صمت منذ كنت صغيرًا، وأريد أن نجتمع سريعًا في الحلال فلا بد أن أسافر، وكم زادت فرحتي برغبتك أنت أيضًا في ذلك! فهذا يعني أننا سنجتمع مجددًا ونكون معًا في كل لحظة كأيام الجامعة؛ فوجودك معي سيهون علي أيام الغربة والشقاء."
سألته بخوف: لكنني أخشى أن يكون هذا الشخص نصابًا ونغرق في البحر ككل من حاول الهجرة غير الشرعية.
ضحك ضحكة قصيرة وقال لي: "يا لك من غِر! ومن قال لك أننا سنسافر بحرًا بطريقة غير شرعية؟!"
تعجبت من كلامه وسألته: كيف سنسافر إذًا؟!
قال: "بالطائرة يا صديقي، بالطائرة وبطريقة شرعية تمامًا."
قلت له بغباء: كيف ذلك؟ أنا لا أستطيع فهمك!
تعَالَتْ ضحكاته وهو يقول: "الطالب المجتهد 'سليمان سالم'، أذكى فتى بين أقرانه، لا يفهم كلامي الواضح! هل بقاؤك وسط علب الأدوية جعلك غبيًا لهذا الحد؟!"
قلت له بجدية: أرجوك لا تسخر مني فأنا حقًا لا أفهم.
قال وقد كف عن الضحك وتحدث بجدية: "أنا أمزح معك، لا عليك يا صديقي سأشرح لك؛ ذاك الرجل سيأخذ من كل واحدِ منا مبلغًا قدره عشرة آلاف جنيه، وسنستخرج باسبورًا بشكل قانوني تمامًا، وسيتكفل هو بأمور الفيزا وحجز تذاكر الطيران، ثم عندما نصل إلى أوكرانيا سنعمل هناك في مصنع لشخص يسمى الدباغ، يقوم باستخلاص المواد الخام اللازمة لصناعة الأدوية من النباتات والحيوانات، ذاك الرجل يقوم بمساعدة من يريد السفر ليعمل في تخصصه هناك مثلنا، فلنقل أنه وكيل الدباغ هنا حيث يقوم بتوريد عاملين له."
قلت له بوجل: وهل هذا الدباغ يعمل بشكل قانوني أم أنه..
قاطع حديثي قائلًا: "المهم أن نسافر وسنجرب، إن وجدنا العمل جيدًا نبقى به وإن وجدناه مريبًا نتركه ونبحث عن عمل في مكان آخر؛ فالفيزا مفتوحة."
قلت له: حسنًا أنا موافق، لكن من أين لي بذلك المبلغ؟ فليس معي إلا خمسة آلاف هما ما استطعت جمعه طوال الأربع سنوات الماضية.
قال لي: "لو كان معي لساعدتك لكن الله وحده يعلم كيف جمعت هذا المبلغ."
سكت قليلًا ثم تابع: انتظر! أليس لديك شقة تمليك؟ لم لا تبيعها؟ فلن تحتاجها بعد الآن طالما تود ألا تعود مجددًا."
قلت له: إنها قديمة جدًا، لا أعتقد أنها قد يشتريها أحد، لكن سأحاول.

انتهى لقاؤنا ذلك اليوم مع وعد باللقاء مرة أخرى عندما أقوم بتجميع باقي المبلغ، وقد وعدته أن أذهب في الصباح لاستخراج الباسبور الخاص بي. في اليوم التالي بعدما أنهيت مشوار استخراج الباسبور عدت لبيتي، وقبل أن أصعد إلى شقتي عرجت على القهوة وأخبرت صاحبها برغبتي في بيع الشقة فوعدني أن يجد لها زبونًا في أسرع وقت وقد صَدق؛ فبعد يومين أخبرني أنه وجد مشتريًا وسيدفع مبلغًا قدره سبعة آلاف جنيه، فوافقت وتم البيع. في خلال شهر كنت قد انتهيت من كل إجراءات السفر وركبت الطيارة أنا ومرتضى وعشرة شباب آخرين؛ نشترك معًا في حلم واحد وهدف واحد ورحلة واحدة إلى نفس البلد لنعمل عند نفس الشخص.
وصلنا أخيرًا، فاستقبلنا في المطار أحد رجال الدباغ وأخذنا لبيت صغير يقع في محيط المصنع، وأعطى لصديقي علبة حلوى صغيرة طالبًا منه أن نتناولها؛ فهي تحية لنا من الدباغ، وأخبره أن نستريح اليوم وفي الغد سيأتي ليأخذنا إلى المصنع ليسند إلينا وظائفنا، ودّعناه ثم ذهب. أسرع مرتضى إلى العلبة ليفتحها فتفاجأ بما فيها وقال بدهشة: "أهذه هي الحلوى؟! إنها علكة أو ربما حبيبات نعناع!" أغلق العلبة وقال: "سنتناولها بعد العشاء فأنا جائع." وذهب إلى الطاولة ليفتح لفافات الطعام التي أحضرها لنا ذلك الشخص ووضع علبة العلكة هناك وبدأ بالأكل هو وباقي الشباب وطلب مني أن أنضم إليهم فأخبرته أنني متعب بشدة سأنام أولًا وبعد أن أستريح سأتناول طعامي. تركتهم وذهبت إلى غرفة من الغرف وارتميت على السرير بملابسي وحذائي فنمت سريعًا. بعد نحو الساعة استيقظت على أصوات انفجار فنهضت من سريري مهرولًا للخارج خوفًا من أن يكون حريقًا قد التهم البيت، فخرجت من الغرفة فوجدت الشباب الأحد عشر ساقطين على الأرض ولا يوجد أية آثار لأي حريق أو حتى رائحة غاز! فهرولت إلى مرتضى فوجدته ما زال يتنفس، فقال لي بوهن شديد: "لا تتناول العلكة!" ثم سمعت صوت انفجار مجددًا لكنه كان قادمًا من بطن مرتضى الذي قد... مات.
سكت سليمان قليلًا يبكي بحرقة ثم تابع: هرولت إلى باقي الشباب لعلي أجد أحدهم حيًا لكنهم جميعًا كانوا قد ماتوا فقلبتهم واحدًا واحدًا على ظهره فإذا بأجسادهم ما زالت سليمة! فمن أين أتى صوت الانفجار إذًا؟! تذكرت تحذير مصطفى لي بألا أتناول العلكة فوجدت العلبة بجواره وقد ظل بها حبة واحدة فقذفتها بعيدًا عني بأقصى قوتي وأنا مغتاظ منها فسقطت في حوض سمك صغير على طاولة بجوار الحائط، وبعد ثوانٍ معدودات سمعت صوت انفجار مرة أخرى فنظرت أمامي فوجدت الحوض ينفجر! اندهشت واضطرب قلبي، وعلمت أن تلك العلكة هي من قتلتهم، وخمنت أنها ربما تكون قنابل صغيرة مصنعة، ولكن لماذا يفعلون بنا ذلك ونحن لا نعرفهم ولم نؤذهم في شيء؟! كاد البكاء والتفكير يقتلاني، والأسئلة تنهش رأسي، ولا أدري ماذا أفعل؟ ولكن لم يَطُل تفكيري هذا؛ فقد سمعت أصوات أقدام تقترب حتى أصبحت أمام باب البيت، فتصنعت الموت مثل أصدقائي خشية أن يقتلوني أنا الآخر.
فُتح باب البيت ودخل منه ذاك الرجل الذي أعطانا العلكة ومن خلفه رجال يحملون معهم... محفات!!

يُتبع إن شاء الله....
#سلسلةالمحققان_تقيةوسليمان
#العددالأول
#هومكا
#هبةالله_رزق_عيسى

هومكاحيث تعيش القصص. اكتشف الآن