و مرت الايام بسرعة.. كانت فيها قمراء تتلصص على زوجها الوسيم الصامت خلسة.. تثيرها حركاته الهادئة و يفتنها حضوره القوي المغري لها وهي المراهقة المتعطشة لادنى ملامح الاهتمام... حتى جاء ذلك اليوم الذي لم تنساه ابدا..بل نقش في عقلها فبات مرجعا لحقدها فيما بعد ...
كان ذلك قبل عيد الفطر بثلاث ليالي تحديدا.. يومها جلست في الحديقة الصغيرة امام الباب الداخلي للمنزل..تتأرجح بخفة على ارجوحتها المفضلة وقد ارتدت كامل حجابها.. سارحه في خيالها بعد ان انتهت ساعات العصر منذ فترة و اقتربت ساعات الغروب الاولى .. و كان هذا الوقت يضيق بصدرها دوما.يشعرها بالوحدة و الفراغ....فعلى الوجوم وجهها الفتي.. و غامت نظراتها تفكر بمدى وحدتها..فهذا العيد على ما يبدو مشابها لما سبقه من الاعياد... ستحيه وحدها دون شريك مهتم يأخذ بيدها مربتا...يملأ فراغا مؤذيا باتت تشعر به حقا..
وكانت افكار قمراء تتعمق اكثر فأكثر... تنظر امامها بهدوء وقد اتكأت برأسها على حبل الارجوحه المتين تتأمل سكون ما حولها وقد شعرت بالفراغ فعلا...تنتظر ابيها منذ وقت تود استئذانه بالخروج مع سروة و والدتها لسوق المدينة القريب كي تشتري ثوب العيد الجديد.. فهذه هي عادتها منذ اعوام.. لا تشعر بلذة العيد الا مع سروة و أهلها...والدها لا يهتم ابدا لهذه التفاصيل بل انه يتعمد احيانا عدم التواجد في اول ايام العيد بحجة العمل .. و لشدة غرقها في افكارها المتعبة...لم تنتبه ابدا لذاك الذي توقف عند باب المجلس الخارجي موليا ظهره...ثم التفت ناحيتها بتأمل ليسير بعدها باتجاهها ببطء و تكاسل حتى وقف على مقربة منها يتأمل ملامح وجهها الطفولية ثم جاء صوته ساخرا ..
-شو گاعدة برة اليوم؟ و كان صوته قد ايقظها من افكارها فشهفت بصوتا خافت و وضعت كفها على صدرها..ترفع انظارها المضطربه اليه.. لترى قربه الشديد منها.. يتأملها ببرود تام و لمحات استخفافا ظهرت على وجهه القريب..... عيناه كانت بلون رمادي دخاني غريب لم ترى مثله مسبقا...يخطف الانفاس حقا...به رونقا ساحر.. قوي طاغي خدر بحضوره كل حواسها..فسرحت به دون ان تشعر ...تتأمل عينيه بهدوء و قد حافظت على هزهها لارجوحتها التي تشبثت بحبالها بقوة كأنها ستسقط منها ...و مر وقتا محرج شعرت انه زاد من مشاعره الساخرة نحوها لتتنبه من لحظات سحره الخاص على صوته الساخر المتهكم مرة اخرى وقد ظنها تركز فيه
-شگد عينج قوية... ما اخذج الحيا او المستحى عين بعين عادي عندج كأن متعودة ما تنزلين عينج ! شعندج برة و ليش مبدلة؟ طالعة مكان! فتذهل قمراء تماما و تتوقف عن الحركة مدركة نبرته الهجومية القاسية التي استغربت لها حقا فعقدت حاجبيها تتأمله بانشداه مجددا لوقتا قصير وقد عجزت حقا عن رده..
الا انها قالت باضطراب خافت بعد ان ادركت انه ينتظر ردها
- منتظرة بابا.. و كان يوسف قد مال نحوها قليلا يود سماع همسها الخافت...وشعرت قمراء بأحراج بليغ.لم يصدف ابدا ان تكون بهذا القرب منه... ثم اشاحت عنه بعد هنيهة تنظر امامها لتسمع صوتت ساخرا اطلقه شعرت هي على اثره بالغبن لشدة كرهه الواضح لها..هل انصفتها ايامها بزوجا شبيه والدها في الاخلاق حقا؟ ففضلت قمراء الصمت احتراما لنفسها... و فسر يوسف صمتها بأنه عدم احتراما له..تجاهلا لشخصه الماثل امامها....من هي حتى تتجاهله هكذا.. فوصلها صوته مجددا يحمل حدة ساخرة ما ان ادرك صمتها
-صوتج ناصي اليوم و وحيل هادئة خير شعندج ؟؟ عادة صوتج عالي دائما اسمعه و ابوج اذا صاح خلال ثانية تكونين عنده؟ بس لا دا تبيعين ثگل( تتبغدد) لان حاليا اني و انتي وحدنا؟ و مرة اخرى الجمتها غطرسته..نبرته القاسية كأنه يحقد عليها حقا.. وهذه المرة تعمدت عدم النظر ناحيته نهائيا فقد جاشت في صدرها احاسيس مظلمة...مؤلمة.. شعورا قاسي بالنبذ و بأنه يستهين بها حقا.. و يبدو ان هذا الامر استفزة كونه لم يشعر أنه المحور كما عودته دوما.. فوضع يده على إحدوى جوانب الأرجوحة يهزها قويا بعمد...فالتفت عندها قمراء اليه تنظر له بعقدة حاجب و قد اثارها تصرفه حقا..
لن تتحدث طالما يحدثها بهذا الاسلوب القاسي...ان تكلمت الان....بكت..فحالتها النفسية سيئة بسبب والدها...و ذكرياتها التي جاشت وقتها....و كان يوسف عندها منحنيا عليها بشكل قريب.. نظراته متهمه كارهه...
عاد و سأل
- طالعه مكان؟؟ فهزت قمراء رأسها برفض و قد دمعت عيونها الان حقا...يظن السوء بها..يكرهها كأنها قاتله او مجرمة اغتصبت حقا من حقوقه بعمد.. و نظراتها كانت حائرة و قد تسللت اليها رائحته الغادرة...عميقة...نظيفة... فأسكرتها حقا وجعلت خفقات قلبها تتقافز كأنها في سبق تحاول بجهدا لاحظه يوسف تنظيم انفاسها و قد انحدرت عيناها نحو شاربه الخفيف..ثم شفتيه و لذهوله رأها تزدرد ريقها كأنها تنظر لوجبة شهية ما حرمت منها...فثار غيظه منها اكثر وقد شعر بمدى رخصها...ولم يعلم انها غارقة به...تغص به عشقا..قلبها الثائر الفتي ماعاد ملكها...لقد وهبته له دون طلب رغم نفوره و كرهه الملحوظ الغير مفسر وقتها لها...تحبه بكل احلام الصبا..بجنون المراهقة الثائرة .. يأسرها و يفتنها فيسلب منها حيويتها و قوتها.. بينما هو.. كان الكاره النافر..هكذا من دون سبب..كما كان يصور عقل قمراء المراهق لها وقتها.. ولم تستغرب حقا ميلها نحوه بهذه السرعة...فهو اولا و قبل كل شيء...زوجها...حلال لها... تهرع اليه فطرتها السليمة دون تهاون وهي التي عاشت عمرها وحدها...ضيفة ثقيلة على منازل الجيران يقبلونها تعطفا..فهل تلوم قلبها انه مال اليه..انه فتن به وجدا؟ و لا تبالغ ان قالت ان هذا كان أول حديث خاص بينهما منذ أن تم عقد قرانهما.. لاول مرة يكون قريبا هكذا لدرجة انها كانت تشعر بوهج جسده الحار الذي احاط تقريبا بها.. و اشتمت رائحة عطره الغريب العميق كشخصة و ملامح وجهه الاسره لها و الماثلة بكل جبروتها امامها..
-متواعدة ويه مسرة بنت جوارينا .. جاء صوتها غريبا..حمل عبرة لاحتدام كل مشاعرها
وصمتت قمراء بعدها..كتمت بقية الحديث في نفسها...فعادت بأنظارها عمدا تنظر لمكان اخر لا يكون "هو" في مداه و قد تمنت حقا ان تأتي سروة الان و تنقذها.. فبكائها بات وشيكا و ان اي رد ستتفوه به سيكون مخزيا..وقد ايقنت ان صوتها المضطرب ان خرج سيفضحها.. و ان ارتعاشة حرفها المؤكدة لن تزيده الا نقمة عليها....فعلى مايبدو ان قلبه محملا منها...اتراه مجبرا عليها؟؟ فعقدت عندها حاجبيها تتذكر ماهي.. و ماهي بيئتها...و تقارنها به..تشعر انه من عالم مختلف تماما عن علمها المتواضع.. فبقيت على وضعها...تهدأ قلبها المتراقص برقصات العشق الصاخبة ...حتى جاء صوته مرة اخرى هامسا ببرود
أنت تقرأ
حَيثُ كُنّا
Romanceعن العشق.. بكل وجوهه.. بلوعته..لذته..والم فراقه بفصوله الاربع.. بين اللقاء ولهفته..وبين العشق و غيرته.. بين الوداع.. وبين اصول نسيانه.. نكتب هذه الحكاية...