| ركن الدين |

7 0 0
                                    

خرج ركن الدين من بين يدَي شجرة الدر مخلِّفًا أثرًا عميقًا في قلبها. رأت منه في ذلك الموقف ما لم تره من قبل، وعظم أمره في نظرها، وقد زادها تهيبًا منه تكتُّمُه ما يجول بخاطره، فما هدد ولا توعد ولا نقم، ولكنها كانت تقرأ ذلك كله على أساريره وفي عينيه.

أما هو فسار توًّا إلى غرفته في القلعة، ولم ينبه أحدًا إلى مجيئه، وأجَّل مقابلة الأمير عز الدين إلى الغد. دخل غرفته وأقفل بابها وأخذ في نزع ثيابه وهو غارق في التفكير فيما سمعه في ذلك اليوم من الأمور الغريبة، وهو لا يزال في مقتبل العمر قليل الاختبار. وتلك أول مرة انتبه فيها إلى مطامع الرجال الكبار على أثرِ ما سمعه عن قلب السلطنة بمصر، وما هي عليه الخلافة في بغداد، ولم يَفُتْه غرض سحبان من تقبيح الخلافة العباسية وتحسين الخلافة الفاطمية، ولا غاب عنه قصد شجرة الدر من المبالغة في سيئات المستعصم والتحريض عليه، وأدرك ما في نفسها من النقمة على عز الدين، وأنها إذا أرادت فوز ركن الدين فإنما تريده انتقامًا من الذين أساءوا إليها. مر كل ذلك في خاطره وهو يبدل ثيابه، ثم قعد على فراشه وهو لا يزال في التفكير، فرسخ في ذهنه أن شجرة الدر وسحبان إنما حرضاه على طلب السيادة لا حبًّا فيه، بل انتقامًا لنفسيهما. ولم يكره ذلك ولا رآه غريبًا ولا عده خداعًا؛ لأنه كان عاقلًا حكيمًا ينظر إلى الأمور من حيث حقيقتها، فلم يكن يرجو سحبانُ مساعدةً ليس له من ورائها مصلحة، لعلمه أن الناس لا يأتون عملًا بلا قصد، ولا يُقْدمون على أمر إن لم يتوسموا من ورائه نفعًا لهم. ومن زعم أنه يفعل الخير مجانًا لكي ينفع الآخرين فقد أخطأ وكذب. فإذا علمنا هذه الحقيقة سَهُل علينا أن نعامل أصدقاءنا معاملة حقة، فلا تتوقع منهم فوق المستطاع، ولا نستقبح منهم أن ينظروا إلى مصلحتهم فيما يخدمون به مصلحتنا.

كان ركن الدين على بينة من هذه الحقائق، وأدرك غرض صاحبيه من ذلك التحريض، فقَبِله شاكرًا، وعزم على الانتفاع به، لكنه فضل كتمان مقاصده إلى حين الحاجة. فلما قعد على فراشة وهو وحيد في تلك الغرفة، طفق يحدث نفسه قائلًا: «أخذوا شوكار مني. أخذها الخليفة إليه في بغداد ليسمع غناءها، وهي نعمة قَلَّ من ينالها من الجواري الحسان. أرادت شجرة الدر أن تهيج غضبي على المستعصم لأنه فعل ذلك، وهل يلام لأنه طلبها وقد رفع قدرها وزادها نعمًا؟ لا يحق لي أن أنقم عليه أو أَعُدَّ عمله إساءة لي؛ لأنه لم يتعمد أخذ شوكار وهو يعلم أنها خطيبتي أو امرأتي. وقد يقال إن هذا الخليفة ضعيف أو محب للَّهو، يجب قتله أو خلعه لأجل ذلك، وهذا معقول، ولكن من يضمن أن خلقه لا يكون أكثر ضعفًا منه؟ ومن يخاطر بنفسه في خلعه أو قتله وهو لا يرجو أن ينال حظًا لنفسه من السيادة؟ وقد أضحكني ما رأى ذلك الشيعي من إحياء الدولة الفاطمية أو غيرها من العلويين بمصر. وما الفائدة لنا من إحيائها؟ متَى صارت مصر خلافة لا يبقى مجال لطلاب السلطنة؛ أي لا يبقى حاجة إلى السلاطين. أما إذا بقيت الخلافة العباسية في بغداد تثبت السلاطين في مصر، فإن سلطان مصر يشبه أن يكون مستقلًّا، غير أن ذلك لا يمنع مجاراة الرجل ومصانعته لعل في سعيه نفعًا يأتي عن غير قصد منه. وإذا لم ننجح فلا خسارة من مسايرته.»

شجرة الدر | ج.زحيث تعيش القصص. اكتشف الآن