| شوكار في دار النساء |

1 0 0
                                    

ذهبت شوكار مع غلام الخليفة إلى دار النساء، برغم إرادتها، لكنها كانت تفضل أن تكون فيه على أن تبقى عند أبي بكر. وكانت قد قضت فترة وجودها عنده وهي في حرب دائمة معه؛ لأنه يريدها لغير الغناء وهي تأبى ذلك، ولا سيما بعد أن جاءها كتاب ركن الدين مع الخصي عابد البصري رسولها إليه الذي كتبه وهو نافر من سعاية سلافة في شوكار، ولم يكن سعيها فيها إلا ليزيده تمسكًا بحبها، فكتب إليها كتابًا ضمَّنه العطف عليها والوعد بإنقاذها، فجاءها الرسول بالجواب المذكور وهي في حوزة ابن الخليفة، فاحتالت حتَّى أدخلت عابدًا في خدمته لعلها تحتاج إليه في شيء بعد أن اختبرت أمانته، وهو الذي أعانها في الفرار إلى الكرخ وجرى بسبب فرارها ما جرى بين القتل والنهب، وخرج معها إلى الكاظمية، ولما استرجعها أبو بكر إلى منزله كان عابد لا يزال فيه. ثم بعث المستعصم في طلبها فجاءت وحدها وأمر الخليفة بإرسالها إلى دار النساء كما رأيت.

وقبل وصولها إلى الدار بلغ أهل القصر أن الجارية المغنية التي كانت مرسلة إلى الخليفة واختطفها اللصوص قد وجدت وجيء بها إلى قصر التاج، وأنها قادمة الآن إلى دار النساء. فلا تسل عمَّن تجمَّع لمشاهدتها من الرجال والنساء. وكان في قصور النساء هناك مئات من السراري والجواري على اختلاف الطبقات والأغراض، فجاء كثير منهن إلى قهرمانة القصور يستوضحن ما سمعنَه عن شوكار، وقد اختلفت الروايات في شكل هذه الجارية وطول قامتها أو قصرها ودرجة رخامة صوتها، وغير ذلك مما تُصوِّره المخيلة في مثل تلك الحال.

وكان أكثر النساء اهتمامًا بأمرها المغنيات؛ لأن شوكار قادمة لمناظرتهن في عملهن، فاجتمعن وتحدثن في أمرها وما وصل إلى علمهن من الأقاويل عنها. وهذا طبيعي في الناس، وبخاصة في ذلك العصر، وبين نساء لا عمل لهن غير أمثال هذه الأحاديث؛ إذ لا يشغلهن عن ذلك كتاب ولا جريدة ولا مجلة ولا مدرسة ولا خطاب ولا اجتماع علمي ولا أدبي، مما قد يشغل نساء هذا العصر، وإنما همهن كله هذه الأحاديث والمباراة في التبرج لاجتذاب قلوب الرجال.

وأول من لقيَتْه شوكار هناك أستاذ الدار — رئيس الخصيان — أخذت إليه وهو متصدر في غرفته فقبَّلت يده ووقفت باحترام تنتظر أمره، وهو الآمر الناهي في تلك القصور، وذو نفوذ كبير في الشئون السياسية، كما كان شأن بعض أغوات يلدز في زمن عبد الحميد. وبعد أن قدمت نفسها لأستاذ الدار واستفهم عن اسمها وعمرها ويوم وصولها وسائر الأوصاف المميزة لها، أمر بتدوين ذلك في أماكنه لئلا يختلط أمر النساء بعضهن ببعض لكثرتهن. وقد تتشابه الأسماء.

ثم أخذوها إلى قهرمانة الدار، وهي كهلة رهلة، قد تراكم اللحم على بدنها مثل تراكم المصوغات والمجوهرات حول عنقها وزنديها، وعليها أفخر اللباس، وهي في تلك الدار كالملكة، ليس في الجواري والسراري من لا يتزلف إليها ويخطب رضاها بالمحاسنة والمجاملة والهدايا. مشت شوكار وهي مطرقة حياءً لكثرة من لقيتهم في طريقها من الخصيان والجواري وقوفًا في الدهاليز والأبواب يتفرسون فيها ويتهامسون. فلما أقبلت على غرفة القهرمانة رأت الخصيان ببابها كالحراس بأبواب الملوك، فدخلت تلك الغرفة وتلفتت لتتعرف الوجوه، فعرفت القهرمانة من مجلسها المرتفع ولبسها الفاخر. فمشت نحوها حتَّى إذا دنت منها أكبت على يدها تقبلها، فقبلتها القهرمانة وأمرتها بالجلوس إلى جانبها، وأخذت ترحب بها بعبارات مألوفة في مثل تلك الحال، لو تُلِيَت على إنسان لم يألفها لَظَن قائلها أشد الناس مودة له وتفانيًا في مصلحته، لكنها على طول التكرار أصبحت لا معنى لها، أو أن لها معنًى يناقض أصل المراد بها.

شجرة الدر | ج.زحيث تعيش القصص. اكتشف الآن