وقع لفظ السلطنة على قلب ركن الدين أجمل وقع؛ لأنه أقصى ما يتمناه، فخفَّ غيظه ومال إلى استطلاع حقيقة ما تقوله سلافة، وظل ساكتًا وهي ترعاه بنظرها، فلما رأت سكوته أمسكت بيده ومشت إلى شرفة في تلك الغرفة تطل على دجلة، وأومأت إليه أن يقعد على وسادة هناك، وقعدت هي بجانبه والماء يجري بين أيديهما، وركن الدين لا يرى شيئًا لعظم ما جاش في خاطره، فقعد قعود المتحفز، وأدركت هي أنه يطلب تفصيل ما ذكرَتْه.
فقالت: «أظنك تحب أن تطَّلع على تفاصيل خبر سلطنة مصر وما فعلتُه في سبيل إعدادها لركن الدين؟ آه لو تشعر يا قاسي القلب بعِظَم حبي! ولكنك ستشعر متَى علمتَ بما ارتكبتُه من الأمور العظام في سبيل مرضاتكَ.»
وتنحنحت ووضعت ضفيرة الشعر إلى جانبها استعدادًا للحديث ثم قالت: «فارقتَ القاهرة وأنت تعتقد أن الملك الأشرف سلطان عليها وعز الدين أيبك وصي عليه.»
فهز رأسه أن «نعم».
فضحكت وقالت: «ذهب هؤلاء جميعًا وذهبت شجرة الدر معهم.»
قال: «إلى أين؟» قالت: «إلى الموت.» فأجفل وقال: «كيف ماتوا؟ إنك تكذبين.» قالت: «سامحك الله على هذه التهمة، أنا لا أكذب، إلا إذا كان ذلك في سبيل مرضاتك. نعم قد ارتكبتُ في هذا السبيل أفظع من الكذب، ارتكبت القتل والخيانة في سبيل ركن الدين، وهو ما زال يضن عليَّ بكلمة أو لفتة.» قالت ذلك وغصت بِريقها وتلألأ الدمع في عينيها، فتأثر ركن الدين من منظرها لكنه تجلد ليسمع تتمة الحديث.
فقالت: «إنك تركت عز الدين وصيًّا على الملك الأشرف، وقد رضي بذلك، وشجرة الدر ساكتة قانعة بالسلامة، ولو بقي الحال على ذلك لم يبقَ لركن الدين سبيل إلى نيل السلطة. وهبْ أنه نالها، فهو لا يكون سلطانًا، بل وصيًّا، والسلطان من بني أيوب، وأنا أريد أن يكون ركن الدين سلطانًا كما وعدته، أتدري ماذا فعلتُ؟»
فتطاول لسماع الحديث فقالت: «أظنك تعلم منزلتي عند عز الدين ومقدار انصياعه إلي لأني كنت السبب في نيله ذلك المنصب بعد خلع شجرة الدر. أنا خلعت شجرة الدر ونصبت عز الدين، وأنا جعلت القوم يختارون سلطانًا أيوبيًّا، ففعلوا وصار عز الدين وصيًّا. فعلتُ ذلك تمهيدًا لك يا قاسي القلب، وقد ذكرت لك عملي هذا ونحن في القاهرة فلم تعبأ بقولي، وأوشكت أن أنقلب عليك وأنتقم منك، لكن قلبي لم يطاوعني، فظلَلْتُ على حسن ظني بك، والقيام على خدمتك، فأغريت عز الدين بالملك الأشرف فألقاه في سجن مظلم سيموت فيه قريبًا إن لم يكن قد مات. وقبض عز الدين على السلطنة بيده ولم ينازعه أحد في ذلك، بقي عليَّ أن أتخلص من عز الدين ليخلو الجو لركن الدين ويكون هو السلطان، وأنا أعلم أن لعز الدين أعوانًا أشداء ولا يسهل قتله، فأغريت به شجرة الدر، وكان قد تزوج بها، فدسست بواسطة بعض الجواري مَن أبلغ شجرة الدر أن عز الدين لا يحبها، وأنه عازم على التزوج بابنة بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، وشغلتُ عز الدين عن زيارتها مدة، فتحققت تلك الإشاعة، وأنت تعلم غلظ قلب هذه المرأة، فاشتدت غيرتها حتَّى أغرت بعض الخدم وأوصتهم إذا دخل عز الدين الحمام أن يقتلوه خنقًا، فقتلوه وقالوا إنه أغمي عليه في الحمام فأخرجوه وشاع أنه مات مصروعًا.»
أنت تقرأ
شجرة الدر | ج.ز
Historical Fictionتدخل رواية «شجرة الدر» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول قصة أوّل امرأةٍ ملكة تتولى الحكم في التّاريخ الإسلامي، حيث قدّرت لها الأقدار أن تتوج ملكة على مصر بعد مقتل الملك «طوران شاه» آخر سلاطين الدولة الأيوبية. وقد تزامن توليها للحكم مع أحداث...