| أول ملكة للمسلمين |

8 1 0
                                    

أصبحت القاهرة في اليوم التالي وأهلها في هرج، والناس يزحم بعضهم بعضًا نحو القلعة، بين راكب وماشٍ، رجالًا ونساءً، حتَّى أصبحت ساحة الرميلة تحت القلعة غاصَّةً بالناس من كل الطبقات، وقد اختلط بهم الباعة يحملون أنواع الكعك والفاكهة والثمار والمملحات والحلوى والمأكولات الجافة. وبينهم حملة الودع وكُشَّاف البخت وفاتحو المندل، ينادي كل واحد على بضاعته على اختلاف الألحان وطبقات الأصوات، وقد علت ضوضاء الناس وأصوات الحيوان.

ولو أشرفت على الرميلة من سور القلعة لرأيت الساحة بقعًا، يشغل كل بقعة جماعة متشابهون لباسًا وشكلًا، أكثرهم قاعد القرفصاء، يلهو الواحد منهم بشيء يمضغه أو عود ينكت به الأرض أو أداة يلاعب بها أصابعه. وهناك جماعات الْتفَّت على رجل يلاعب دبًّا أو قردًا، ثم يدور عليهم بدفِّه يجمع ما يجودون به من الدوانق، وجماعات هدأ جوهم لاشتغالهم بحديث يقصه عليهم شيخ منهم يبذل جهده في اجتذاب قلوبهم ونيل إعجابهم، وهم يتطاولون بأعناقهم نحوه، وقد أخذهم الاستغراب.

ولو أتيح لك حضور تلك المجالس لرأيت عجبًا وأخذتك الدهشة من أخلاق العامة وسرعة تصديقهم للغرائب؛ لأنك قد تسمع حديثًا أنت أعلم الناس به فتجده تَشوَّه واضطرب حتَّى انقلب إلى غير ما تعرفه، وقد تُنكره وتظنُّه حديثًا آخر. ويزداد تحريفهم للأحاديث بنسبة ما تحويه من الغرابة عن مألوفهم، فما ظنك في موضوع ذلك اليوم، وهو تنصيب امرأة ملكة على المسلمين، مما لم يسبق له مثيل في تاريخهم. فتضاربت أقوالهم في ذلك، واخترعوا الأسباب الباعثة عليه، وافترضوا الأسرار، وتكهنوا بمصير هذه الحال، وزعم بعضهم أنهم صاروا في آخر الزمان، وسوف تنقضي الدنيا؛ لأن ذلك من دلائل الفناء.

وبينما هم في ذلك إذ سمعوا نفخ الأبواق وقرع الطبول، ثم رأوا موكب أمراء المماليك البحريين متوجهًا نحو القلعة، وفي مقدمته كبراء الفرسان بالملابس المذهبة تتلألأ في شعاع الشمس حتَّى يكاد بريقها يذهب بالإبصار، وبعدهم هودج شجرة الدر تحمله البغال وقد تجلل بالحرير المزركش، وأحاطت به الفرسان في أزهى الملابس وأجملها وفيهم حَمَلَة الأعلام، ووراءهم كوكبة من الفرسان أصحاب المزاريق، ثم كوكبة من حملة الرماح، ووراءهم جماهير الناس مشاة على أقدامهم يموجون كالبحر الزاخر، وفيهم من تبطل وأوقف عمله لمشاهدة موكب الملكة، وهو لا يرجو شيئًا من وراء تلك الخسائر، وإنما يساق العامة إلى ذلك بفطرتهم الساذجة وميلهم الطبيعي إلى مشاهدة الغرائب، فهم يؤخذون بالظواهر ويتبعون كل ناعق؛ ولذلك كان إجماع العامة على أمرٍ ما لا يدل على صوابه.

وصل الموكب إلى باب القلعة الكبير المواجه للقاهرة، ويقال له الباب المدرج، وكانت طائفة من الجند قد وقفت هناك بالسلاح لتمنع الناس من الدخول. وللقلعة باب آخر نحو القرافة أقفلوه في ذلك اليوم لئلا تتزاحم الأقدام في ساحة القلعة، وهي ساحة كبيرة في وسط القلعة تنتهي بمصطبة وراءها باب كبير هو الباب الداخلي المؤدي إلى الأبنية الخاصة بسكنى السلطان والأمراء والأجناد، وفيها الجامع والإيوان.

شجرة الدر | ج.زحيث تعيش القصص. اكتشف الآن