«ليـال!»
استفاقت ليال من شرودها إثر صُراخ أخيها قُرب مسمعها، لتنتفض وتعتلي سحنتها ملامح مفزوعة. فأردف قائلًا بقلق:
«لقد كُنا نناديكِ مُنذُ بُرهة، ما بكِ؟»
كانت جالسة مع والديها وشقيقها الوحيد وهم متحلقون حول سُفرة الطعام في منزلهم المتواضع ذي الطابقين، بينما يتناولون كعادتهم فطورًا فلسطينيًا تقليديًا. فرغم هجرة عائلتهم لتونس منذ ثلاثة أجيال خلت بعد الاحتلال الصهيوني، واستقرارهم بأحد أحياء عاصمتها الشعبية؛ إلا أن عاداتهم وتقاليدهم لم تتغير أبدًا. نظرت ليال لشقيقها محاولةً استيعاب ما يقول، وهي تنقل بصرها بين أفراد عائلتها الثلاثة الذين رسموا فوق رؤوسِهم علامات تعجبٍ واستفهامٍ خالطت تعابيرهم القلقة. حتى حاز والدها على انتباهها بقوله:
«هل حصل لكِ شيءٌ بالأمس؟ أتيتِ مُرهقة وسقطتِ في النوم بعد وصولكِ مباشرةً، لقد كان أول يوم عمل لكِ بعد كل شيء.»
كانت بالفعل غارقة بالتفكير في كل ما جرى معها بالأمس؛ خاصةً الموقف الذي واجهته بعد خروجها من مكتب رئيس الوكالة.━━━━━━ ◦ ❖ ◦ ━━━━━━
مرت عليها تلك اللحظات ببطء شديد وقد شعرت بالتصاق أحدهم بها من الخلف مُكممًا فمها بيده. حركت رأسها إليه مفزوعةً، فوجدت وجه السكرتيرة المرعوب يكاد يلتصق بوجهها، ويدها الأخرى قد مدتها ووضعتها فوق يد ليال التي كانت ممسكةً بمقبض الباب؛ فسحبته ببطئ، حتى أغلقته بهدوء تام. تراجعت للوراء بسرعةٍ؛ وهي تسحب ليال المصدومة -والتي لم تُبدي أدنى مقاومة- بينما لا تزال يدها تغطي فمها وتُغلقه. وتخطت بها صالة الانتظار الضئيلة التي يتواجد بها مكتبها، ثم الممر الضيق المُفضي إليها، ثم منعطفًا صغيرًا، لتصل بها إلى بداية الممر الرئيسي للطابق، والذي يتواجد به مصعد المبنى القديم. فكت قيد ليال، لكنها تشبثت بذراعها بقوة وهي تسترق النظر للممر يُمنة ويُسرة؛ فلم ترَ أحدًا به، فسحبتها من معصمها بعنفٍ حتى دخلتا غرفة تخزين صغيرة كانت موجودة في نهايته قرب الدرج. أدخلتها ودخلت معها، ثم أغلقت الباب بعد أن تأكدت أن أحدًا لم يَرهُما أو يتبعهما. وداخل ذلك المخزن الضيق البارد الخانق، ذي اللمبة الشاحبة التي كانت تنطفئ كل بضعةِ ثوانٍ، ومع اللحظة التي عملت فيها مجددًا بعد انطفائها؛ وجدت ليال الوجه المُلطخ بالمكياج الثقيل أمام وجهها مباشرة لا يكاد يفصلها عنه شيء، وقد زادته الإضاءة الشاحبة والأعين المفتوحة على اتساعها إرعابًا. انحبست أنفاس ليال بصدرها، لتنطفئ الإضاءة مجددًا؛ كأنه مشهد مبتذل لفيلم رعب كلاسيكي.
ووسط ذلك الظلام الذي طال؛ سمعت ليال همسها الحاد كأنه فحيح الأفعى، وقد امتدت ذراعاها مثبتة إياها على الجدار بقوة توهمت معها أنها لا تستطيع الحركة:
«اِنْسَي كل ما سَمعتِ!»
لم تفهم ليال ما تقوله أو تفعله هذه السكرتيرة إطلاقًا، والتي أردفت بصوت أعلى خرج مهزوزًا وهي تقول:
«لو أردتِ الموت فاذهبي إليه وحدكِ!»
وأيضًا، لم تفهم ليال شيئًا. لكنها اكتفت مما يجري، خاصةً وهي تتخيل وجهها المُرعب في هذا الظلام، فتحركت أخيرًا لتدفعها بعيدًا عنها بأقوى ما تملك. تجاهلت صوت الاصطدام الذي سمعته، واستغلت اللحظة التي عادت فيها الإضاءة مجددًا، فخطت نحو الباب فورًا وفتحته لتخرج، ليتسلل الضوء من الممر وينتشر بداخل غرفة المخزن الصغيرة. لكنَّ السكرتيرة التي وقعت أرضًا قد أسرعت وتشبثت بقدم ليال مانعة إياها من المغادرة، وهي تتوسلها باكية:
«أرجوكِ! أنا أتوسل إليكِ! لا تخبري أحدًا أنكِ سمعتِ شيئًا وأنتِ في ذلك المكان! لديَّ أطفال أُطعمهم ولا يملكون أحدًا سواي! لو انتهى أمري فسيتضورون جوعًا من بعدي، أرجوكِ فلتعديني أنكِ لن تتحدثي بأي شيء أبدًا!»
بقيت ليال تحدق بها بضيقٍ وهي مُمسكة بالباب المفتوح، فترجتها السكرتيرة أكثر، وقد بدأ بكاؤها يصبح نحيبًا ونواحًا ويعلو أكثر فأكثر، مما اضطر ليال لتهز رأسها في موافقةٍ على ما تريده. لكنها لم تتركها، فزفرت ليال بحدة وهي تقول بضيق شديد:
«أعدكِ بذلك، لذا اتركيني الآن!»
نالت مرادها، فأرخت قبضتها عنها، وتراجعت للوراء وهي تكفكف دموعها بيديها. تركتها ليال مغادرةً المخزن فورًا وهي تحتضن نفسها بعد أن سارت قشعريرة باردةٌ على طول عمودها الفقري. ابتعدت عن المكان برمته قبل أن تفعل تلك المرأة شيئًا آخر غير متوقع، خاصةً وأن وجهها الآن قد ساحت به مساحيق التجميل واختلطت ببعضها بعد بكائها، والله وحده يعلم كيف سيبدو داخل ذلك المخزن إن تم إغلاقه مجددًا الآن. حصلت تلك المرأة على ما أرادت منها، وحصلت هي على لغزٍ جديد يُثير الصُداع.
أنت تقرأ
فَيَافٍ
Ngẫu nhiênحكومات جاحدة، وحقائق مخفية، وشعوب غافلة، وأسرار غامضة تُريد من يكتشفها.. رحلةُ المصيرِ ومغامرةُ الحياةِ والموتِ على وشك أن تبدأ! -بأنامل فريق السّحر.