الفصل الثّاني: حقيقة مخفيّة.

72 16 2
                                    

في الردهة المكتظة بالإعلاميين، والذين كانوا ينتظرون فرصتهم ليقوموا بهجومِ أسئلةٍ مباغت على الوفود المشارِكة، وبعد انتهاء اليوم الأول للدورة تمامًا؛ كانت ليال تنظر حولها باحثةً عن ذلك البروفيسور علَّها تظفر بمقابلةٍ معه. فهي كغيرها من الإعلاميين الحاضرين قد رأت في قصته شيئًا يجب أن يُنشر، وفي عقلها ألفُ وألفُ سؤالٍ عن الموضوع الذي قام بطرحه سابقًا. ظلَّتْ كذلك حتى رأت الوفدَ (العِرَاقيَّ) الذي أتى معه، فتقدمت بخطواتٍ سريعةٍ نحوهم وهي تراهم يغادرون على عجالة. استطاعت أن تلحق بهم، فقطعت عليهم طريقهم وهي تقول:
«مهلًا يا سادة، لديَّ سؤالٌ إذا سمحتم.»
رمقها رئيس الوفد -والذي كان غاضبًا بالفعل- بغضبٍ أشد من فعلتها تلك، وقال بعصبية:
«وماذا تريدين أنتِ أيضًا؟»
فَهمتْ من ذلك أنها ليست الوحيدة التي اعترضت طريقهم، لكن ذلك غير مهم لأنها ستستغل فرصتها، فرَدتْ بثبات: «أين ذهب البروفيسور يزن السيَّاف؟»
تنامى غضبه لدرجة الانفجار بعد سماعه ذلك الاسم، ليَرُدَّ بوقاحةٍ فائقةٍ قائلًا:
«هذا ما ينقصنا! فَلْتَسْمَعِي يا أنتِ ولِتُخْبِري هؤلاءِ السَفَلةَ الذين يَمْلَؤُونَ المكان من أمثالكِ! وَفْدُنا لم يجلبْ شخصًا كاذبًا ومُزيَّفًا كهذا معه! ابتعِدي عن طريقنا فورًا وابحثي عنه في أقرب مِكَب نُفاياتٍ بعيدًا عنَّا!»
رمشت بتفاجؤ من حديثه كله واكْفَهَرَّتْ مَلامحُها لوقاحته. ولكنها -بِوَضْعِ إهاناته اللاذعة جانبًا- قد كانت متأكدة مائة بالمائة أنه جاء معهم ودخل برفقتهم، فحتى الأعشى والأعمشُ لن يُخطئِا قامةً عاليةً كتلك، لكنَّهمْ مع هذا لا يزالون يُنكِرون.
سارتْ مبتعدةً عنهم مُدرِكةً أنهم لن يفيدوها. وبينما كانتْ تسيرُ شاردةَ الذهن وهي تبحثُ عن طريقةٍ تُساعِدُها للوصول إلى يَزَن، اصطدمتْ بأحدهم، فرفعت رأسها وفي نيّتها الاعتذار، لتجد أنه (سليط اللسان) ذاك. وقبل أن تقول شيئًا؛ بادرها القول بسُخرية:
«انظروا ماذا لدينا هنا! طفلةٌ أضاعتْ والديها! ولكنْ مُنذُ متى يُسْمَحُ للأطفالِ أَصلًا بالتواجدِ في أماكنَ كهذه؟»
قالها مُشِيرًا في سُخريةٍ إلى مَلامحِ ليالٍ الطفولية (رغم أنها تخطت الثانيةَ والعشرينَ من عُمرِها)، وإلى طولها الذي لا يتجاوز المتر والنصف إلا ببضعةِ سنتيمترات. ورغم كونها كذلك؛ إلا أنَّها لم تخلو مِن جمالٍ مِثلُها مِثلُ أيِّ امرأةٍ على وَجهِ البَسِيْطَةِ، خاصةً مع بشرَتِها البَيضاءِ المُشرَّبةِ بالحُمْرة. نظرتْ لهُ -بعينيها الرماديتين- بينما تسأل نفسها عما ارتكبَتْهُ في حياتِها لتستمرَّ بمقابلةِ أشخاصٍ كهؤلاءِ طوالَ اليوم، لِتَبْتسِمَ بهدوء وهي تُجيبهُ على سؤاله الغبي بنَبرةٍ مُستَفِزَّة:
«مُنذُ اللحظةِ التي سمحوا فيها للحمقى على شَاكِلَتكَ بالتَواجدِ أيضًا.»
احمرَّت عيناه غضبًا، وقبل أن يبدأ بشتمها كما كانت تتوقع من سليط لسانٍ مثله، أسرعت مُبتعِدةً عنه بما فيه الكفاية متفاديةً أي احتكاكٍ أطولَ معه.
قررتْ سؤالَ الإعلاميين الآخرين عن يزن، لكنَّ بعضهم تجاهَلَها، وبعضهم الآخر نفى معرفته بالأمر. وبعد مرورِ عِدَّةِ دقائق؛ لمحتْ تلك الصحفيةَ المدعوةَ راسيل والتي قابلتها أثناء أول استراحةٍ. لقد رأتها واقفةً مع رجلٍ ما وهو يُحَدِّثُها بشيءٍ مع تعابيرَ مُظلمةٍ ومُخيفةٍ على وجهه، بينما هيَ صامِتَةٌ، ومُطْرِقةٌ رأسها الذي تَهزُّه بالإيجابِ بين الفينةِ والأخرى.
انتظرتْ ليال على بُعْدِ مسافة آمنة مع مَرأى الرَجُلِ وتعابيره التي لا تُبشِّرُ بخَيرٍ، حتى تركَ جانب راسيل التي بَقيتْ واقفةً مكانها وعيناها تتبع ظلهُ الراحِل. لَزَمتْ ليال مكانها أيضًا لبعض الوقت، ولم تشأ أن تقتربَ منها فورًا بعد الذي رأته حتى لا تُحرِجَها، وبقيت تُراقبها حتى رأتها تتحرك؛ فتقدمت نحوها مُسْرِعَةً هاتِفَةً باسمها. توقفت راسيل عن المشي والتفتت للنداء، فرأت ليال قادمةً نحوها فابتسمت فورَ أن رأتها. أما ليال؛ فما إن وصلتْ إليها حتى سارعت بالقول:
«آنسة راسيل، أحتاجُ مُساعدتكِ في شيء ما.»
أومأت راسيل موافقةً وهي محتفظةٌ بابتسامتها الوِديَّة، لتسألها ليال:
«هل تعلمين شيئًا عن ذلك البروفيسور المدعو يزن السيّاف؟»
تَبدلتْ ملامِحُ راسيل فجأة، وبدا عليها التوتر وهي تتذكرُ كلام نائب رئيسها قبل لحظات حين حذرها من التفوه بأي شيء؛ وإلا ستكون العواقب وخيمة. فزفرت لتقولَ بهدوء مُصْطَنَعٍ مع ابتسامةٍ صفراء:
«وددتُ مساعدتكِ، لكنني لا أعلم عنه شيئًا أيضًا.»
لاحظت ليال تبدُّل سِحنَتِها، لكنها كانت مُصرَّةً على معرفةِ أيِّ شيء عنه ولو كان معلومةً صغيرةً، فسألتها مجددًا:
«ألا تعلمين المكان الذي ذهب إليه على الأقل؟»
«آسفةٌ يا آنسة ليال ولكن عَليَّ الذهابُ حقًا.»
قالتها وهي تبتعدُ مُسرِعةً، دون أن تعطيَ ليال فرصةَ إبداءِ ردةِ فعلٍ ما على تَهرُّبها الواضح حتى. تنهدت ليال بعُمق، وبقيتْ مكانها تنظر في أَثرِ راسيل وهي تشبكُ ذراعيها ببعضهما على صدرها. تساءلت في نفسها أنه لا يمكن لأحدٍ ألا يعلمَ عنهُ شيئًا. ليس وكأنه كان سرابًا ليختفيَ فجأة، هنالك شيء ما يبدو خاطئًا. تسللَ الشكُّ إلى ليال، فراسيل نفسها -والتي كانت طيبة وودودة معها- قد أبدت ردةَ الفعلِ هذه، وذلك نفس ما جرى مع بقية من سألتهم قبلها، والذين أصبح كذبهم وتهربهم من الأمر واضحًا تمامًا لها الآن. فقط لِمَ هذا التحفظ حول أمره؟ هل هو بسبب قصته الغريبة عن تلك المملكة؟ لقد تيقنتْ الآن أنه لا أحد.. وحرفيًا لا أحد سينطقُ بحرفٍ واحد عنه بتلك السهولة.
كانت الساعة تشير للواحدة بعد الظهر، فتحركت مُغادرةً المكان وقاصدةً مبنى وكالتها المتهالك الموجود داخل مدينة تونس. فبقَدْرِ ما كانت مُنزعجةً من إرسالهم لها إلى شيء يرونه غير مهم، وبغض النظر عن أمر يزن؛ كانت سعيدةً بأول مُهمةٍ مُنفردة لها، فمضت مسرعة لإتمامها.

فَيَافٍحيث تعيش القصص. اكتشف الآن