٢٩ : كنا عظماء يا ساده

17 1 0
                                    

كُنَّا عُظماء يا سادة!

‏تقولُ الأُسطورة: إنَّ بيضةً سقطتْ من عُشِّ النَّسْرِ إثر زلزالٍ عنيفٍ، واستقرَّتْ في قُنِّ الدجاج ... فقررتِ الدجاجةُ العجوزُ أن ترقدَ عليها حتى تفقس. فخرجَ منها نسرٌ صغيرٌ تربى مع الدجاج، وأخذَ طباعهم، وصار يأكل الحَبَّ مثلهم!
‏وفي أحدِ الأيامِ كان النَّسرُ يلعبُ في ساحةِ القُنِّ مع أخواته الدجاجات، فشاهد مجموعةَ نسورٍ تُحلِّقُ عالياً في السماء... تمنى أن يُحلِّقَ مثلهم، لكنه قُوبِلَ بضحكاتِ الاستهزاءِ من أخواته، وقُلْنَ له: إنَّ الدجاجَ لا يطير!
‏وبعدها تنازلَ النَّسْرُ عن حلم التحليقِ في الأعالي، وعاشَ دجاجةً وماتَ دجاجة!

‏إنَّ حكايةَ بيضة النَّسرِ التي تدحرجتْ من أعلى إلى قُنِّ الدَّجاجِ هي حكايتنا نحن!
‏نحن النُّسور التي أوهموها أنها لا تنتمي إلى القمم فاقتنعتْ، ونسيَتْ أنَّها جارحة، ولها مخالب، وأنها تصطادُ، وتقولُ ملءَ حنجرتها: هذا الفضاءُ كلُّه لي! وأنها أكبر من أن تكون طيراً وديعاً لا تمتلىء حويصلتها إلا بما يلقيه إليها الآخرون من حَبِّ، فتأكلُ ورأسها إلى أسفل!

‏إنَّ النُّسور لن تكتشِفَ هويتها من جديد، إلا عندما تُقرر أن تطير، وقتذاك فقط ستعرفُ أنَّ هذه الأجنة خُلقتْ للقممِ! ولكن من يُقنع البذرة الصغيرة أنَّ في داخلها شجرة ضخمة! لن تعرفَ هذا حتى تكتشفه بنفسها، حين توضعُ في حُفرةٍ، ويُهالُ التُّرابُ عليها، وتُسقى بالماء! وقتذاك فقط ستكتشفُ أنَّ ما في أعماقها أكبر بكثير من حجمها!

‏كُنَّا عظماء يا سادة، كان غَضَبُنا أفعالاً، لم نكُنْ نشجبُ وندين ونستنكر، كانت المرأة إذا نادت : وامعتصماه!
‏جهّزَ لها الخليفة جيشاً! كان عِرض امرأةٍ واحدةٍ كأنه أعراض النّساءِ جميعاً!

‏كُنَّا عظماء يا سادة، كان فينا عِزَّة وأنفة، ينظرُ خليفتنا إلى السحابة، ويقولُ لها: أَمْطِري حيث شئتِ، فسيعودُ إليَّ خَرَاجُكِ!
‏وكان يكتبُ إلى حاكم الرُّومِ قائلاً:
‏من هارون الرّشيد إلى نقفور كلب الروم، الجواب ما ترى لا ما تسمع!

‏كُنَّا عظماء يا سادة، نحملُ لواء العلم لهذه البشرية، وفي العام ١٣١٣ للميلاد أمرَ الملكُ فيليب بإحراق المصابين بالجُذام لأن روحاً شيطانية تسكنهم! كُنَّا في العام ٧٠٧ للميلاد قد أقمنا مستشفىً تخصصياً لعلاجه!

‏كُنَّا عظماء يا سادة، نهتمُّ بالنظّافة "والإتيكيت"، وعندما كانت لندن غارقة في الوحل والطين، كانت قُرطبة تُسجّل براءة اختراع، كأول بلدية في التاريخ، تُنظّفُ الشوارع، وتجمعُ القمامة!
‏وفي قرطبة أيضاً كانوا يضعون على باب البيت مطرقتين، واحدة كبيرة وأخرى صغيرة، فإذا ما طُرق الباب بالمطرقة الكبيرة جاء الرجل وفتح الباب لأنه يعلم أن الطّارق رجل، وإذا طُرق الباب بالمطرقة الصغيرة، تفتح سيدة البيت، لأنَّ الطارق حتماً امرأة!

‏كُنّا عظماء يا سادة، كُنَّا نُراعي الكرامات، كان في بلادنا أيام العثمانيين "حَجَرُ الصّدقة" من كان مكتفياً مدّ يده ووضع فيه، ومن كان مُحتاجاً مدَّ يده وأخذَ، فلا يعلمُ النَّاسُ من الذي يُعطي ولا من الذي يأخذ!
‏وعلى باب البيت الذي فيه مريض، كانوا يُعلّقون باقة ورد، فيعرفُ المارَّة بهذا، فلا يُحدِثونَ ضجةً!

‏كُنَّا عُظماء يا سادة، وكانتْ لنا في قُلوب أعدائنا مهابةً، كانتْ سُفننا إذا مرَّتْ بمحاذاة السواحل الإيطالية في طريقها من وإلى الأندلس، تسكتُ الكنائس عن قرع أجراسها، مخافة أن يُثيروا غضبنا، فنفتح المدينة!

‏كُنّا عُظماء يا سادة، والآن نحن عُظماء، وسنبقى عظماء، ينقصنا فقط أن نُؤمن بأنفسنا، أن نُخرجَ النَّسر القابع في أعماقنا، أن نُطلق هذا المارد المُقيّد في دواخلنا!

‏أدهم شرقاوي / مدونة العرب

تدبروا حيث تعيش القصص. اكتشف الآن