بمناسبة الأحكام الأخلاقية اللي قاعدة تتطاير هنا وهناك، النهاردة هنتكلم عن نظرية في علم الإجتماع والجريمة معروفة بنظرية الوصم Labelling Theory واللي باختصار شديد بتقول لنا إن صفة الانحراف نسبية وإن هوية الفرد وسلوكه بيتأثروا بشكل كبير بالوصف اللي المجتمع بيديه للفرد ده.
الغرض من النظرية اللي ظهرت في الستينات ولسه علماء الإجتماع بيطوروا فيها لحد دلوقتي هو محاولة فهم السلوك المنحرف وتأثيره على الفرد والمجتمع. معظم العلماء اللي اشتغلوا على النظرية قالوا إن مفيش سلوك منحرف متأصل، أو بمعنى آخر سمة الانحراف دي مش حاجة ثابتة ومحددة وعلى أساسها بنحدد إيه من السلوكيات منحرف وإيه لأ. الانحراف هو وصف مرن جدًا بيستخدمه المجتمع – أي مجتمع – كوسيلة لإحكام السيطرة على أفراده قانونيًا ونفسيًا.
يعني مثلاً تعاطي نوع معين من المخدرات قد يُعتبر حاجة عادية جدًا في بعض القبائل والمجتمعات، في حين إنه في مجتمعات أخرى بيتشاف على إنه عمل إجرامي والفرد بيتعاقب عليه وبيحمل بسببه وصمة الانحراف وسط أقرانه. ده برضه يمكن تطبيقه على السلوكيات والميول الجنسية اللي ممكن في مجتمع تتشاف على إنها حاجة طبيعية ولكن في مجتمع آخر بتُعامل على إنها سلوك منحرف. زمان الستات اللي كانت بتعترف برغبتها الجنسية كانت بتتوصم بمرض الهيستيريا وبيتحطوا في مصحات نفسية لحد ما الدنيا اتغيرت والناس ابتدت تفهم – مش كل الناس للأسف! – إن الست عندها رغبة جنسية قوية زيها زي الرجل.
الأمثلة دي بتوضح لنا إن الانحراف مش حاجة واضحة الأركان والمعالم يمكن استخدامها كمعيار ثابت باختلاف الزمان والمكان، إنما هي منظومة من الأفكار والمعتقدات المتغيرة اللي بيحددها المجتمع نفسه والأفراد اللي عايشين فيه. يعني المعيار الوحيد لتحديد إذا كان سلوك الفرد منحرف ولا لأ هو المجتمع والناس اللي بيشهدوا السلوك ده ورد فعلهم عليه.
النظرية بتقول لنا إن خطورة الموضوع ده تكمن في تأثيره على هوية الأفراد ورؤيتهم لأنفسهم. فاكرين لما اتكلمنا على وإزاي إن هويتنا بتتشكل من خلال الانطباعات اللي بياخدها الآخرين عننا؟ الفكرة إن بمجرد وصم الفرد بسمة الانحراف هو بيبدأ، حتى ولو بشكل غير واعي، برؤية نفسه على إنه شخص منحرف غير سوي وده بيأثر بشكل كبير على أفعاله المستقبلية وبيتصرف في حدود الإطار "المنحرف" والصورة النمطية المصاحبة له اللي المجتمع فرضها عليه، ده غير طبعًا مشاعر الذنب اللي هتفضل ملازمة للشخص ده خصوصًا لو سلوكه اتوصم بالانحراف من منطلق عقائدي أو قَبَلي.
لو بنت مثلاً عايشة في مجتمع قبلي بدائي قررت إنها تخرج عن طاعة أهلها وتسافر تدرس أو تعيش لوحدها، طبعًا البنت هتتوصم بالانحراف في نطاق المجتمع ده وهتتعاقب أشد عقوبة – قد تصل للقتل – ولو نجحت إنها تهرب من المتوقع إنها هتفضل عايشة بوصمة الانحراف دي حتى لو اللي حواليها في المجتمع الجديد مش شايفينها. نفس الموضوع يمكن تطبيقه على الأمراض النفسية اللي هي أصلاً تعريفاتها وأعراضها بتتغير كل يوم، بمجرد ما المجتمع يصنف شخص على إنه مريض نفسي الشخص ده بيبدأ ياخد دور المريض النفسي ويعيشه. والفكرة دي كانت من أهم الأسباب اللي خلت الأنظمة القضائية تطلق على أي طفل بيرتكب عمل إجرامي لفظ "حدث" بدل من "مجرم"، بس طبعًا هيهات لأن المجتمع برضه بيوصمه بالإجرام والطفل بيكبر على كده وهويته وسلوكه بيتحددوا على هذا الأساس.
الموضوع كله عايز يوصل لأن فكرة الانحراف ممكن المجتمع يستخدمها لإحكام السيطرة على أفراده والتأكد من إنهم مش هيخرجوا بره الحدود اللي رسمها لهم. ولو فكرنا في منصات التواصل الإجتماعي على إنها مجتمعات صغيرة هنلاقي إننا بنطبق نظرية الوصم بحذافيرها.. فيه قيم وسلوكيات معينة بتنتشر على إنها المعيار السوي وأي خروج عنها بيُقابل بالهجوم وبيعتبر سلوك منحرف، والغريب إن القيم والسلوكيات دي بتنتشر على إنها ردة فعل لما يراه المجتمع الفعلي\الحقيقي من الثوابت غير مدركين إننا بنتحول لنسخة من المجتمع اللي بنهاجمه ولكن في الاتجاه المعاكس: عملنا حصان وركبنا عليه وماشيين نرمي وصمة الانحراف – أو أي صفة أخرى – على اللي مش متفق معانا ومع المعايير اللي خلقناها في المجتمع الافتراضي ده.
أنت تقرأ
الأزمة الوجودية في الفترة المسائية
Historical Fictionتأملات بالعامية المصرية في الأساطير والفن والفلسفة وعلم النفس... من الحلة إليك