ديوجين الكلبي والبرميل

36 3 2
                                    

النهاردة هنتكلم عن الفيلسوف اليوناني صاحب البرميل ديوجين الكلبي Diogenes the Cynic..

أولاً، لقب "الكلبي" ده أطلق عليه لأنه كان من أوائل الفلاسفة اللي نشروا الفلسفة الكلبية Cynicism (الكلمة أصلها يوناني ومعناها "كلب" أو "أشبه بالكلب") ويُقال إن الفلسفة حملت الاسم ده لتفضيلها طبيعة الكلاب على طبيعة الإنسان المتحضر وهنعرف ليه دلوقتي.

أما موضوع "صاحب البرميل" فده لأن ديوجين كان عايش في الشارع جوا برميل زي الحيوانات بالظبط بيأكل وينام ويقضي حاجته مكان ما يحب.

ديوجين كان بيؤمن أن الإنسان أصلاً كائن كويس وابن حلال بس التحضر والقواعد الإجتماعية والسياسية والأخلاقية أفسدته وأبعدته عن طبيعته البسيطة، وده بالظبط الأساس اللي قامت عليه الفلسفة الكلبية اللي فحواها إن كل ما الإنسان بيتحضر بيفرض على نفسه قيود باسم الحرية والترقي في حين إن القيود دي بتخلق مخاوف جديدة الإنسان مابيعرفش يتعامل معاها وبتعقد مفهوم السعادة\المتعة وبتخليه صعب التحقق. الكلبية بتقول إن السعي نحو النجاح والسلطة والأموال والعائلة والألقاب الإجتماعية جعل الإنسان ينصرف عن طبيعته ومتطلباتها البسيطة، وبالتالي فالإنسان كل ما يقترب من الطبيعة ويبعد عن القواعد السياسية والإجتماعية اللي فرضتها عليه الحياة الحديثة كل ما بقى سعيد ومبسوط.. زي الكلب بالظبط.

الناس طبعًا كانت بتعامل ديوجين على إنه واحد مجنون عايش في برميل وده كان بيعصبه أكتر فكان بيهاجمهم فيتأكدوا إنه مجنون وهكذا. كل القصص اللي تناقلتها الكتب عن ديوجين بتصوره ككاره للبشر بس هو كان كاره للإنسان المتمدن والسحلة الحضارية اللي ساحل نفسه فيها بلا داعِ. ويمكن التصوير ده هو اللي شوية ربط بين الفلسفة الكلبية والفلسفة التشاؤمية في العصر الحديث. الاتنين بيحملوا نفس الاسم cynicism ولكن الأولى شايفة إن طبيعة الإنسان غير سيئة ولكن السبب في كل الشرور هو رغبة الإنسان في إخضاع نفسه لقيود الحضارة والذي منه، في حين إن الثانية شايفة إن أصلاً طبيعة الإنسان سيئة وهي السبب في كل البلاوي.

الكلبية ألهمت وأثرت على مدارس فلسفية كتير زي الرواقية Stoicism اللي بتشوف إن الإنسان سعادته تكمن في اللحظة الحاضرة وإنه المفروض مايخليش الخوف من الفشل أو الألم أو الرغبة في النجاح يتحكموا فيه، ودي بالتالي أتطورت وظهرت في شكل اتجاه فكري معاصر اسمه العبثية Absurdism اللي بيقول إن الإنسان هيبقى سعيد لو تقبل كل اللي الحياة بترميه في طريقه سواء حلو أو وحش – مفيش حاجة أصلاً حلوة أو وحشة بشكل متأصل، هي حاجات بتحصل بشكل عشوائي – ويعيش اللحظة بلحظتها وخلاص من غير ما يحاول يدور على معاني سامية وأسباب عليا وأهداف وآمال والبتنجان ده كله.

الكلبية ألهمت وأثرت على مدارس فلسفية كتير زي الرواقية Stoicism اللي بتشوف إن الإنسان سعادته تكمن في اللحظة الحاضرة وإنه المفروض مايخليش الخوف من الفشل أو الألم أو الرغبة في النجاح يتحكموا فيه، ودي بالتالي أتطورت وظهرت في شكل اتجاه فكري معاصر اسمه ...

اوووه! هذه الصورة لا تتبع إرشادات المحتوى الخاصة بنا. لمتابعة النشر، يرجى إزالتها أو تحميل صورة أخرى.

من فترة كده كنت بقرأ قصة قصيرة لكافكا Kafka اسمها "تقرير لأكاديمية" A Report to an Academy كافكا بيتكلم فيها على لسان قرد تم اختطافه من الأدغال من قبل بعثة علمية والقرد بيحكي إنه علشان يهرب من الحياة في القفص والقيود اللي فرضها عليه الإنسان لمجرد إنه حيوان الطريق الوحيد اللي كان متاح قدامه هو إنه يمشي على خطى الإنسان بالظبط ويتعلم لغته ويتصرف زيه. القرد بيقول إنه فعلاً أتعاون مع العلماء والمدرسين وأتفوق عليهم كمان وبقى عنده مستوى العلم والتمدن اللي عند أي مواطن أوروبي. القرد مابيظهرش استياءه من الموضوع ده بشكل واضح خالص، بالعكس.. ده بيطلب من الأكاديمية اللي هو بيكتب لها التقرير إنهم يسمحوا له إنه يكمل دراسته لأن ده السبيل الوحيد المتاح قدامه دلوقتي. اللي لفت انتباهي في القصة بقى إن قرب نهاية التقرير كده، القرد بيتكلم عن إنه إزاي عايش زي الإنسان وإن عنده ناس بيدرس معاهم ومدير أعمال بينظم له جدوله ومواعيده وبيقول إن عنده قردة، مش متعلمة ومتدربة زيه طبعًا، بتستناه كل يوم بليل علشان يلبي رغباته الجنسية معاها. المهم بقى إنه كل يوم لما بيصحى من النوم مابيبقاش طايق يبص في خلقتها لأنها بتفكره بطبيعته "الحيوانية".

كافكا، كعادته، مابيقولش أي حاجة صراحة وبيرمي لنا رسائل من تحت لتحت كده. على الرغم إن القصة دي ليها تفسيرات سياسية كتير، بس اللي أنا شايفاه هو إن القرد المحترم ابن الناس المتعلم ده مش طايق الوضع اللي لقى نفسه فيه بس زي ما قال هو ده طريقه الوحيد للحرية.

ومن هنا ممكن نشوف التشابه بين القصة وبين ديوجين والكلبية.. القرد لقى نفسه في وضع اتفرض عليه إنه يا يعيش ك"حيوان" في قفص طول عمره واللي حواليه يشوفوه ككائن أقل منهم، يا يمشي مع التيار ويبعد عن طبيعته ويعمل زي كل اللي حواليه بيعملوا ويفرض على نفسه العلم والأخلاق والقواعد إلخ علشان يوصل للحرية المزعومة اللي هيكتشف بعد كده إنها قفص أكبر مائة مرة من القفص اللي كان فيه. ديوجين بقى، على عكس القرد، اختار القفص الصغير.. اختار يعيش في برميل متر في متر وخاطر إن الناس تشوفه كمجنون وغير سوي بس في المقابل أدى لنفسه الحرية إنه يكون على طبيعته من غير ما يتقيد بالحرية المجتمعية الزائفة بتاعت أقرانه.

موقف ديوجين والقرد يخلينا نفكر في وضعنا احنا كإنسان معاصر وهل سعينا الدائم نحو التحضر والحداثة بيحقق لنا الحرية والسعادة فعلاً ولا بيعقد حياتنا أكتر وبيزيد بؤس على بؤسنا كل يوم؟ هل التطور السياسي والمجتمعي والتكنولوجي طوّر وسهّل حياتنا فعلاً ولأ خلق جوانا رغبات ومخاوف لا قِبل لنا بها بعدتنا عن طبيعتنا وسعادتنا أكتر؟ هل كل اللي بنعمله في حياتنا بنعمله علشان فعلاً عايزين نعمله وهيسعدنا ولا علشان مضطرين نعمله وبيضيف وهم آخر لأوهامنا المؤجلة غير المحققة؟

ممكن نسخر من ديوجين إنه قضى حياته عايش في برميل في الشارع، بس على الأقل كان مدرك إنه عايش في برميل وبيتصرف على أساسه وبيعمل اللي هو عايزه، الدور والباقي علينا اللي محشورين في خزان وقافلين على نفسنا من جوا وواهمين نفسنا إننا أحرار في أنفسنا ومصائرنا.

دمتم في سعادة (داخل أو خارج البرميل).


الأزمة الوجودية في الفترة المسائيةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن