جيتير وتجربة البقرة في الحقل

37 4 1
                                    

موضوع النهاردة مستوحى من نقاش محتدم دار بيني وبين زميلة هرجع له تاني كمان شوية..

هنتكلم عن تجربة فكرية فلسفية شهيرة معروفة باسم "البقرة في الحقل" The Cow in the Field ألفها الفيلسوف الأمريكي إدموند جيتير Edmund Gettier علشان يبين العلاقة المتداخلة بين المعرفة واليقين.

جيتير بيقول لنا تخيلوا إن فيه فلاح والفلاح ده عنده بقرة وحيدة هي كل رأس ماله فبيخاف عليها جدًا وكل شوية بيبقى عايز يتطمن هي لسه موجودة في الحقل ولا لأ. المهم في يوم ماشفش البقرة في الحقل بتاعه فبقى هيتجنن وقعد يلف حوالين نفسه لحد ما قابل البوسطجي في طريقه فسأله إذا كان شاف البقرة بتاعته، البوسطجي طمنه وقاله إيوه يا عم اهدأ أنا شوفت البقرة بتاعتك في الحقل اللي جنبك. الفلاح هدي شوية بس برضه كان عايز يتأكد من وجود البقرة في الحقل اللي جنبه، راح فعلاً وشافها نايمة في حتة مزنوقة جنب شجرة كده فاطمن ورجع الكوخ بتاعه وهو متأكد من المعلومة اللي قالها له البوسطجي.

البوسطجي وهو راجع بقى من نفس الطريق اللي جيه منه لاحظ إن البقرة موجودة في مكان استحالة يكون الفلاح شافه لأنه بعيد عن الكوخ بتاعه واكتشف إن الشجرة اللي الفلاح افتكر إن بقرته نايمة جنبها وراها حيطة والحيطة دي مدهونة أبيض في أسود، فالبوسطجي فهم على طول إن الفلاح ماشافش البقرة ولا حاجة ولكن اتهيأله إن البقرة ورا الشجرة بسبب شكل ولون الحيطة.

في الأول الفلاح كان عنده "المعرفة" إن البقرة بتاعته موجودة في الحقل اللي جنبه، لكنها معرفة غير مؤكدة لأنها مش مبنية على أي دليل غير على كلام البوسطجي وبالتالي فهي أقرب للشك منها لليقين، وعلشان كده الفلاح قرر يروح يشوفها بنفسه. الفلاح لما شاف بقرته – أو أفتكر إنه شافها – تحولت المعرفة عنده من معرفة غير مؤكدة لمعرفة مؤكدة ومدعمة بالدليل (رؤية البقرة) وبالتالي بقى عنده يقين إن البقرة بتاعته كويسة وموجودة في الحقل اللي جنبه. تمام؟ لأ مش تمام..

جيتير بيقول لنا على الرغم من اعتمادنا كبني آدم على المعرفة المؤكدة باعتبار إن دي أعلى درجات اليقين فالعملية كلها بتاعت الوصول للحقيقة أو اليقين مش بالموضوعية والتأكد زي ما إحنا متخيلين حتى لو قايمة على التجربة المدعومة بالأدلة. الفكرة في التجربة اللي طرحها جيتير إن الفلاح وصل لليقين – وجود البقرة – من خلال التجربة وإنه راح يتأكد بنفسه وده كلام حلو جدًا وزي الفل، لكن المشكلة إن الدليل اللي استخدمه أو التجربة اللي عملها كانت متأثرة بشكل كبير بالمعرفة المسبقة غير المؤكدة اللي قايمة على الشك (كلام البوسطجي إن البقرة موجودة)، فطبيعي إنه أول ما راح وشاف بعينه أي حاجة لونها أبيض وأسود عقله بتلقائية ترجمها لوجود البقرة بالرغم إنها ممكن تكون أي حاجة تانية.

طيب نسيبنا من جيتير والبقر والكلام ده ونشوف مثال تاني.

نفترض إني سمعت من أمي أن الشوكولاتة لو وقعت على الهدوم بتسيب بقعة.. أهي دي نوع من المعرفة بس غير مؤكدة لإنها غير مدعمة بدليل. فهعمل إيه بقى علشان أوصل للمعرفة اليقينية؟ هجيب قميص قديم عندي وأدلق عليه شوكولاتة وأغسله وأشوف هتسيب بقعة ولا لأ. طيب حصل إن بعد ما غسلته فضلت بقعة الشوكولاتة فعلاً، ساعتها هوصل لليقين إن الشوكولاتة بتسيب بقعة لإن خلاص المعرفة بقت مدعمة بالتجربة واليقين وهمشي أقول للناس يا جدعان الشوكولاتة بتسيب بقع على الهدوم خدوا بالكم.

النتيجة اللي وصلتلها قد تكون صحيحة لكن بما إن عقلي متأثر بشكل كبير بالمعرفة غير المؤكدة (كلام أمي) فشاف النتيجة بشكل ظرفي محدود جدًا وتجاهل معطيات تانية كتير قد تشكك في يقينية النتيجة. يعني مش ممكن يكون نوع الشوكولاتة ده بالذات هو اللي بيسيب بقع علشان فيه مواد معينة في حين إن فيه أنواع تانية مش بتسيب؟ مش ممكن يكون الموضوع معتمد على خامة القميص وتفاعلها مع الشوكولاتة؟ مش ممكن يكون نوع المسحوق اللي استخدمته مش مناسب؟ مليون معطى وفرضية مخي تجاهلهم – غالبًا بدون قصد – واللي كان من شأنهم التشكيك في اليقين اللي وصلتله.. اليقين اللي كان مخي أصلاً متأثر بيه من البداية زي تأثر الفلاح بكلام البوسطجي وعماه عن التشكيك في البقرة\الحيطة الملونة اللي شافها بأم عينه.

طبعًا ده مثال عبيط بس استخدمته لتبسيط الفكرة. جيتير بيقول لنا إننا ممكن نطبق الموضوع ده على نظام المعرفة الإنساني ككل وفكرة الحقيقة واليقين وإزاي إنها وهم قائم على الأهواء الذاتية مهما اعتمدنا على الأدلة والتجارب الموضوعية.

طيب نرجع للنقاش اللي قولتلكم كان سبب في كتابة الموضوع أصلاً. كنت بتكلم مع زميلة ليا في الشغل عن فكرة العلامات الكونية (زي دي علامة يا مارد كده) وهي كانت شايفة إن الكون فعلاً بيبعت لنا علامات إرشادية في حياتنا بالسلب والإيجاب، وأنا مختلفة معها وشايفة إن ده مجرد انعكاس لرغبات دفينة في عقلنا الباطن بتوجه مخنا إنه يشوف حاجات بعينها.. الفكرة إن عقلنا الباطن بيبقى عنده معرفة ما بس بتبقى محل شك لإنها غير مؤكدة زي بالظبط كلام البوسطجي، فاللي بيحصل إنه بيتجه للعالم الخارجي بحثًا عن الدليل أو المعرفة المؤكدة اللي هتحول الشك ده ليقين، وساعتها ممكن يترجم أي معطى على إنه الدليل اللي بيدور عليه زي ما الفلاح شاف إن الحيطة الملونة هي البقرة بتاعته.

اللي أنا شايفاه من تجربة البقرة في الحقل إنها مش بتنفي فكرة المعرفة اليقينية ولكنها بتحد من موضوعيتها وبتفكرنا إننا مهما بلغنا من اليقين والإيمان بشيء ما فلازم نبقى فاهمين إن اليقين ده مش متأصل في الكون ولا يطبق على جميع الموجودات والبشر وإن مش معنى إني توصلت لحقيقة ما – مهما كانت تجاربي وأدلتي عظيمة وغير قابلة للدحض – يبقى لازم أفرضها على بقية البشر أو أتوقع إنهم هيتوصلوا لنفس الحقيقة.

حتى كل الكلام اللي قاعدة أهري فيه من الصبح ده مهما بلغ من المنطقية برضه متأثر بوجهة نظري الذاتية ومجموعة معارفي المسبقة.

الكلام ده قد يبدو محبط ومخيف بعض الشيء بس لو فكرنا فيه هنلاقيه مريح لحد ما لإنه بيوضح لنا إن مفيش قواعد للكون أو لحقيقة الكون بالمعنى المطلق.. احنا اللي بنعمل القواعد واحنا اللي بنختار نمشي عليها ولا لأ. في قصة "The Curious Case of Benjamin Button" للأديب الأمريكي F. Scott Fitzgerald البطل بيقول لابنه إن الحياة بلا قواعد مُقيدة وفي أي وقت ممكن يكمل في الطريق اللي ماشي فيه أو يغيره.. كل شيء ممكن. اللي عايز يقوله إن كل الحقائق اللي في دماغنا عن الحياة والنفس والعلاقات والشغل والنجاح.. إلخ هي بناء متغير وإحنا حابسين نفسنا جواه.

لا أحد يملك الحقيقة الكاملة.. لا عالم ولا فيلسوف ولا رجل دين ولا فنان، واليقين اللي بنوصله هو زورق صغير في بحر واسع عملناه بإيدينا وعلى مقاسنا علشان نفضل طافيين على وش المياه، إنما المصيبة إننا نحاول نحشر ناس معانا في الزورق بتاعنا بالعافية لإن في مرحلة ما الزورق هياخدنا كلنا ويغرق.

الأزمة الوجودية في الفترة المسائيةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن