بيناتار واللاإنجابية

72 5 2
                                    

بقالي فترة بشوف وبسمع مناقشات من نوع هنجيب أطفال ليه في البقعة البائسة دي من العالم، طيب حتى لو سافرنا وعيشنا في منطقة نضيفة إيه اللي يضمن لنا أن المنطقة دي هتفضل نضيفة للأبد وأن الطفل ده حياته هتبقى سعيدة لما يكبر، فقولت نتكلم عن ال Antinatalism أو فلسفة اللاإنجابية

فلسفة اللاإنجابية بتقوم على فكرة إن تكاثر الإنسان قرار غير أخلاقي وإن البني آدمين لازم يتوقفوا عن إنجاب الأطفال. أول حاجة هتيجي في دماغنا طبعًا لما نقرأ الكلام ده: طيب ما إحنا كده هننقرض؟

بالظبط! هو ده اللي فلسفة اللاإنجابية عايزاه.. إنهاء وجود الإنسان اللي مصايبه ومشاكله بتهدد كل صور الحياة على الأرض بما فيها الجنس البشري شخصيًا. بس قبل ما نتوغل في اللاإنجابية لازم نعرف إن على الرغم من إنها بتعتبر فلسفة حديثة نسبيًا فهي ليها جذور في الديانة البوذية والمانوية وابتدت تاخد شكلها الحالي على يد الكاتب البلجيكي ثيوفيل دي جيروTheophile de Giraud . من رواد وكبارت الفلسفة دي دلوقتي المفكر الجنوب أفريقي ديفيد بيناتار David Benatar واللي هحاول أستعرض أفكاره في الثريد ده.

طيب نبتدي بأول نقطة بيطرحها بيناتار علشان يقنعنا بصحة فلسفته. بيناتار بيقول إن من الناحية الأخلاقية عدم إنجاب أطفال أولاً هيريح الأطفال المفترضين دول من حياة مليانة بالألم والمعانة واللي بتتفرض عليهم فرضًا دون أي فرصة للاختيار من جانبهم. يعني الطفل اللي أنا بجيبه للدنيا غصب عنه ده بيبقى معرض لاحتمالات لانهائية من الألم بما إن الحياة أصلاً في باطنها معاناة: ممكن يطلع مشوه، ممكن أهله يسيئوا إليه ويعقدوه، ممكن يتعرض لصدمات نفسية بعد كده في حياته، ممكن يتعرض للفشل والاكتئاب... إلخ. ثانيًا، الطفل المفترض اللي هجيبه للعالم ده ممكن يكون سبب في أذى اللي حواليه أو البشرية كلها (أم نيرون ولا أم هتلر أكيد كانوا يتمنوا يقعدوا عليهم يبططهوم).

ثاني حجة بيناتار بيكلمنا فيها هي عدم وجود سيمترية أو تناسق بين السعادة والمعاناة في حياتنا. هو شايف إن افتراضية وجود المعاناة في الحياة شيء وحش وافتراضية غيابها شيء حلو، في حين إن افتراضية وجود السعادة شيء حلو وافتراضية غيابها مش وحش.. وبعملية منطقية استنتاجية بسيطة هنلاقي إن الغياب في الحالة دي أفضل من الوجود (1 حلو و1 مش وحش مقابل 1 حلو و1 وحش).

لو دماغك لفت ممكن تبص على الجدول اللي في الصورة للتوضيح..

دلوقتي أنا لو قررت أتسبب في وجود إنسان هيبقى عندي احتمالين: 1) هيبقى تعيس 2) هيبقى سعيد

اوووه! هذه الصورة لا تتبع إرشادات المحتوى الخاصة بنا. لمتابعة النشر، يرجى إزالتها أو تحميل صورة أخرى.

دلوقتي أنا لو قررت أتسبب في وجود إنسان هيبقى عندي احتمالين: 1) هيبقى تعيس 2) هيبقى سعيد.. طبعًا رقم واحد حاجة سلبية ورقم اتنين إيجابية. إنما لو قررت إني ماجبش إنسان للعالم ده هيبقى عندي احتمالين: 1) ريحته من المعاناة 2) حرمته من السعادة.. رقم واحد حاجة إيجابية ورقم اتنين مش سلبية (لإن غياب السعادة لا يعني بالضرورة المعاناة).. يبقى في الحالة دي كفة الغياب أو اللاإنجاب اترجحت عن كفة الوجود أو الإنجاب.

ثالثًا، بيناتار بيقول إن الناس بتاخد قرار الإنجاب بناء على أسباب أنانية بتخدم فكرتهم عن الحياة من الناحية الشخصية والفكرية والعقائدية، ففي ناس بتخلف علشان تحس بالعزوة أو علشان دينها بيقولها كده أو علشان يخدم سيناريو متخيل في دماغه عن الحياة السعيدة... بيناتار بيقولنا إن كل الأسباب دي أنانية من الناحية الأخلاقية لأنك في نهاية الأمر بتفرض إرادتك على إرادة كائن حي آخر ومهما حاولت تنفي عن نفسك مسئولية قدر أو شكل حياة الكائن ده ففي نهاية الأمر أنت المسئول الأول عن وجوده في الحياة.

أما عن الحجة المتعلقة بتأثير الإنسان المهبب على الطبيعة ومواردها فدي طبعًا حدث ولا حرج ومش محتاجة أي تفسير أو إثبات. يكفي إن احنا نبص على نسب التلوث والكائنات اللي بتتعرض للأذى وتموت بسببنا.

أخيرًا، بيناتار في كل كتاباته وكلامه بيحب يوضح إن اللاإنجابية فلسفة مش عدمية لأن العدمية مبنية على عدم الإيمان بأي شيء أو معنى في حين أن اللاإنجابية فلسفة أخلاقية في المقام الأول بتبني كل نتايجها على ال morals والethics

كمان بيناتار بيقول إن اللإنجابية لا تدعو للانتحار على عكس الاعتقاد الشائع أو المتوقع.. لإن الرغبة في الحياة شيء مختلف تمامًا عن الرغبة في الوجود. كمان الموت بالنسبة له مش حل للمشكلة (فاكرين كامو؟) وإنما جزء منها، وإن من الأفضل تجنب المشكلة الوجودية دي من أساسها بعدم الإنجاب. فكأنه بيسأل نفسه "هل الحياة تستاهل نكمل فيها؟" الإجابة غالبًا آه علشان الموت حاجة وحشة أو حاجة منعرفهاش، طيب "هل الحياة تستاهل نتوجد فيها أصلاً؟" الإجابة هتكون لا صريحة. يعني مشكلة الإنسان الوجودية خلاص ملهاش حل بما إنه أتوجد واللي حصل حصل، بس على الأقل إحنا ملزمين – أخلاقيًا – إننا ماندخلش حد جديد في المزنق الوجودي ده معانا ونقفل الباب ورانا على كده وخلاص.

بيناتار تم اتهامه برؤيته المحدودة للحياة وإن مش كل الناس شايفة إن المعاناة أساس الحياة زيه وإنه إنسان معقد وعنده مشاكل في حياته وبيطلعها علينا. أولاً بيناتار شخص خجول جدًا ومخلي حياته الشخصية بعيدة عن الأضواء تمامًا لدرجة إن محدش يعرف تأكيدًا إذا كان عنده أولاد ولا لأ، ثانيًا حتى لو الكلام ده صح وهو فعلا عنده مشاكل نفسية وبيعاني منها طيب إيه اللي يضمنلي إن الطفل اللي هجيبه مش هيبقى زيه وهيعاني برضه؟

ناس تانية ردت عليه وقالتله إن المعاناة جزء من إحساسنا بالسعادة وإن السعادة بدون معاناة هتبقى بلا معنى. بيناتار بيرد عليهم ويقول إن نسبة السعادة للمعاناة في حياتنا ضئيلة جدًا وإن المعاناة ملهاش أي معنى وإنما إحنا بنحاول نفرض عليها التفسيرات دي علشان نصبّر نفسنا وإلا هنتجنن.

من الأخر بيناتار بيقولنا بما إننا موجودين فعلاً ومفيش مفر يبقى كل واحد يفسر وجوده زي ما هو عايز: اللي عايز يبقى سعيد براحته، اللي عايز يبقى تعيس براحته، اللي عايز يمسك السلك عريان براحته، المهم إن أول ما الموضوع يدخل في فرض الوجود على كائن آخر يبقى (لحد هنا وستوب!) ده تعسف وأنانية

اللي عايز يعرف أكتر عن الAntinatalism لازم يقرأ كتابين لبيناتار: Better Never to Have Been (2006) and The Human Predicament (2017)

الأزمة الوجودية في الفترة المسائيةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن