فيه تجربة افتراضية شهيرة جدًا في علم الإحصاء اسمها "القرد والآلة الكاتبة".. تعالوا نفترض إننا جيبنا قرد وحطيناه قدام آلة كاتبة وقولنا له اتفضل أكتب وهو قعد يخبط بإيده على الحروف بشكل عشوائي لمدة غير محددة ولا نهائية من الزمن، التجربة بتقول إن هيجي يوم ونلاقيه كتب عمل كامل من أعمال شكسبير بمحض الصدفة.
بعيدًا عن الجانب الإحصائي من التجربة والاحتمالات الرياضية المثيرة للجدل حواليها، عندنا في الأدب وعلم اللغة التجربة بتثير إشكالية تانية خالص مرتبطة بطبيعة العمل الأدبي بشكل خاص والعمل الفني بشكل عام، والوجود الإنساني ككل لو هنتكلم من منظور فلسفي.
دلوقتي هنفترض إن في مرحلة ما من الزمن – بعد 59873673 مليون سنة كده مثلاً – راجعنا على اللي القرد كتبه ولاقيناه فعلاً كتب النص الكامل لمسرحية "ماكبث"، ساعتها أنهي فيهم هيعتبر النص الأصلي للمسرحية؟ النص اللي كتبه شكسبير ولا اللي كتبه القرد؟ الإجابة البديهية هتبقى شكسبير طبعًا لإنه هو اللي كتب النص الأول. حلو، بس هل القرد كان مدرك إن بيعيد إنتاج نص اتكتب قبل كده ولا بالنسبة للقرد ده نص أصلي؟ وهل ده معناه إن أصالة النص بتعتمد بس على الوقت – إيه اتكتب قبل إيه – ولا على حاجة تانية؟
طيب نعقد الموضوع شوية.
إحنا بنقيس افتراضية قدرة القرد على كتابة نص أدبي عظيم بالمقارنة بإدراكنا بما تم إنتاجه من أعمال أدبية في الماضي، يعني مش ممكن يكون من ضمن الكلام اللي القرد قعد يكتبه ده نص أدبي عظيم تاني بس لسه هيتكتب في المستقبل على يد أديب لسه ما أتولدش لحد دلوقتي؟ ممكن جدًا طبعًا. طيب في الحالة دي ليه ما أخدناش بالنا إنه نص أدبي عظيم؟ علشان قرد اللي كتبه ولا علشان توقعاتنا اللي متحددة على استقبال شيء معين ولا علشان الظروف المحيطة بالتجربة؟ ولو مطينا الموضوع شوية ممكن نستنتج إن بنفس المنطق ده أي حاجة القرد هيكتبها من أول ما يقعد على الآلة لكاتبة تُعتبر عمل أدبي\لغوي سليم وله قيمة كمان بس بالنسبة لوقت معين وظروف معينة وجمهور معين.
الكلام ده معناه إن العمل الفني قيمته مش متأصلة فيه زي ما إحنا متخيلين وإنما بتعتمد بشكل كبير، إن مكانش كلي، على اللي عمله وامتى وفين والظروف المحيطة بإنتاجه والناس اللي بتستقبله.
إحنا كده بنتكلم عن قرد واحد بس، طيب يحصل إيه لو جيبنا عدد لا نهائي من القرود وخليناهم يعملوا نفس التجربة، هل فيه احتمالية إن قردين هيكتبوا جملة متطابقة في نفس الوقت على الرغم من إنهم مش مدركين لوجود بعض ولا مدركين للي بيكتبوه أصلاً؟ فيه طبعًا. الاحتمالية دي ترجعنا لمشكلة أصالة العمل الفني لإننا ساعتها هننسب الكلام المتكرر ده لمين؟ للقرد 1 ولا 2؟ ودي دايمًا المشكلة اللي بنقع فيها لما نيجي نناقش ونضع حدود الملكية الفكرية.
ممكن حد يقول إحنا قاعدين نطبق افتراضية الفاعل الأساسي فيها قرد\قرود وإحنا بني آدم وفيه تفاوت في الإدراك فماينفعش نقارن بين الموقفين لأننا مدركين إن الحروف اللي بنضغط عليها دي ليها معنى مبني على نظام لغوي مكتسب وعلى خبراتنا السابقة.. إلخ، كلام جميل طبعًا، على الرغم إن كل قرد قاعد على آلة كاتبة ممكن يكون فاكر نفسه مدرك للي بيعمله طبقًا للي بيحصل جوه دماغه (إحنا مانعرفش إيه اللي بيحصل جوه دماغه) بس الفكرة كلها ورا التجربة مش قياس مدى إدراك القرود على قد ما هي قياس قدرة العشوائية على خلق نظام سواء العشوائية دي مدفوعة بإدراك أو من غير.
عالم الإنترنت مثال مصغر على التجربة.. تخيلوا كام مليون واحد ماسك الموبايل ولا الكمبيوتر بتاعه دلوقتي – بما فيهم أنا – وقاعد بيكتب حاجة على منصة من منصات السوشال ميديا، ملايين من النصوص بيتم إنتاجها في نفس الثانية وهتفضل تُنتج لحد الله أعلم امتى. هل كلنا متفقين ومدركين وفاهمين كل النصوص اللي بينتجها غيرنا سواء ثقافيًا أو فكريًا أو لغويًا؟ أكيد لأ. مش ممكن اتنين يكتبوا نفس الكلام في نفس الوقت؟ ممكن طبعًا. مش ممكن من رحم العشوائية دي تُنتج نصوص فنية؟ ممكن طبعًا وبتحصل. مش ممكن نكون كلنا كده جزء من تجربة بيشرف عليها كائنات أكثر تطورًا وقاعدين يحللوا الإنتاج العشوائي بتاعنا ده؟
مش بس حياتنا الافتراضية، كمان ده ينطبق على حياتنا العادية، مش يمكن كل القرارات والاختيارات اللي بنعملها دي مجرد تخبيط على الآلة الكاتبة وإحنا بنحاول جاهدين إننا نثبت لنفسنا إن أي حاجة ليها معنى هي جزء من نظام متكامل مش نتيجة إحصائية طبيعية جدًا لنظام عشوائي؟ مش ده ممكن ينطبق على وجودنا ككل؟ مش يمكن وجودنا في الزمان والمكان ده تحديدًا ومع الأشخاص دول هو مجرد كلمة في وسط نص لا نهائي من العشوائية؟ هل لو دي الحقيقة فعلاً، الإدراك ده هيفرق معانا في حاجة ولا الكون وإحنا هنستمر في الكتابة على هذه الآلة الضخمة من العشوائية؟
أنت تقرأ
الأزمة الوجودية في الفترة المسائية
Historical Fictionتأملات بالعامية المصرية في الأساطير والفن والفلسفة وعلم النفس... من الحلة إليك