الجزء الرابع

55 7 1
                                    

أوصلني إلى حد باب منزلي ولأن والدي لم يكن بالمنزل ودعني عمر وغادر، ركضت لغرفتي وإرتميت على سريري أحتضن وسادتي وأنا أصدر أصوات غريبة من فرط الحماس والخجل، تذكرت كل شبر مما حصل اليوم وكيف تغيرت مشاعري فجأة من اللامبالاة إلى شعور بالمودة والإطمئنان ولربما الحب، أوقفت تصرفاتي ونهظت لتغيير ملابسي ولأصلي وبعدما إنتهيت عدت لسريري أحتضن الوسادة مجددا، تلخبطت مشاعري فلم أعد أعرف مالذي أشعر به الآن؟
كان والدي قد عاد للمنزل، طرق باب غرفتي لأفتح له وأدخله، إنتبه أبي لمزاجي ورأى أنني في مزاج مناسب وأنه الوقت الأنسب لكي يتحدث معي حول أمور عديدة، طلب مني الجلوس وقال:
"عائشة اليوم قررت أن أجيبك عن كل الأسئلة التي تركتها بلا إجابة خلال السنوات الماضية، وأتمنى أن تسمعيني ولا تقاطعيني حتى أنتهي من الحديث"
إبتلعت ريقي وقلت:"أستغفر الله يا أبي، أيعقل أن أقاطعك! أنا سأسمعك ولن أنطق بحرف حتى تنتهي"
إبتسم أبي وقال:"بسم الله أبدأ على بركة الله، قبل كل شيء أنا أعتذر لما سببته لك من الأذى مسبقا، قبل أن تنجبك فاطمة رحمها الله كنت أعتقد أن هذه المرة سيكون طفلا وكنت متحمسا للغاية، إنتظرت أنا وأمك 8 سنين كاملة ثم رزقنا الله بطفل في أحشاء والدتك، في الشهور الأولى كنت أتوهم أنه فتى وسيكون إبني المدلل الذي سيرث كل ممتلكاتي ويعتني بي عند الكبر لكن في يوم واحد تحطمت آمالي وخاب ظني وكنت محبطا للغاية، يوم علمت فيه أن المولود القادم فتاة وليس فتى أحسست أن كل ما كنت أتمناه تلاشى، لم أتقبلك مطلقا وقررت أن أجعلك تذوقين مرارة الحياة وأن تشعرين وكأنك يتيمة الأب، كنت مخطئا بحقك كثيرا، حاولت فاطمة رحمها الله أن تجعلني أفطن لأفعالي البشعة العديد من المرات لكنني كنت أفرغ جل غضبي عليها، بعدها بفترة أدركت أنها لن تستطيع الحمل مرة أخرى، وبعدها بسنين علمنا بأن هناك ثقب بقلبها ولأنني كنت أخشى خسارتها ورؤيتها وهي تتلاشى أمامي كنت أنفعل دائما معك، ويوم طلبت منك التبرع بقلبك لها كنت في حالة مزرية وأنا أرى الإمرأة الوحيدة التي أحببتها تموت وأنا لا أستطيع فعل أي شيء، بعد موتها عانيت كثيرا لكنني لم أظهر ذلك وكنت أغضب من أتفه تصرفاتك، لكنني إستوعبت الأمر ونفذت وصية والدتك ووددت أن أصلح علاقتي معك وأن أكون أبا صالحا لك ولأختك فوالله قد تعبت وضاق صدري، إنني لأحبكما لكن الشيطان عليه لعنة الله قد جعلني أفعل ما فعلته وسرت وراء خطواته، أتمنى أن أكون قد أوصلت ما وددت قوله بطريقة مناسبة ومفهومة"
كنت أبكي من شدة تأثري بكلام والدي، نهظت من مكاني وعانقته بحرارة وقلت:
"والله لإنك نعم الأب وأنا لم أغضب منك ولم أكرهك ولو لثانية في حياتي أما عن مسامحتك فأنا أسامحك في الدنيا وفي الآخرة يا أبي"
كلامي زادهُ تأثرا حتى بادلني والدي البكاء والعناق الحار، بعد فترة تركني وقبل رأسي قائلا:
"وإنك لنعم البنت وأنا محظوظ لإمتلاك إبنة مثلك، والله لو إستطعت إعادة الماضي لجعلتك تعيشين حياة أجمل من التي أجبرتك على عيشها"
مسحت دموعي وقلت:"لا تهون علي دموعك يا والدي، وأما عن الماضي فإعتبره كأنه لم يحصل بتاتا ودعنا نكمل ما بقي ناقصا"
نظر إلي والدي بتمعن وقال:"أقسم إنك تشبهين والدتك كثيرا بشكلك وأفعالك"
إبتسامة عريضة تزين وجهي الجميل، قال والدي:"لا بد من أنك جائعة لنذهب لنتناول العشاء"
أومأت برأسي ثم ذهبت معه، مر يوما جميلا للغاية، حدثت فيه كل الأمور السعيدة التي تبهج القلب، وأخيرا غفيت لأستيقظ صباحا لصلاة الفجر وبعدها أجهز نفسي وأذهب للمدرسة.
في الثانوية، وقفت بجانب البوابة أنتظر موعد دق الجرس لتفتح، أتيت باكرا لذلك إضطررت للوقوف وحدي هنا، سمعت أحد من ورائي ينادي "بسست"، إستدرت لأراه عمر، إبتسمت بسعادة وسرت نحوه، قبل رأسي وقال:
"صباح العسل يا عسل"
كدت أنفجر من شدة الخجل فأنزلت رأسي وقلت بصوت خافت:
"صباح النور"
ضحك عمر ضحكة خفيفة جعلت قلبي يكاد يتوقف من شدة خفقانه، نظرت لعينيه وكنت أود قول شيئا ما حتى قاطعتني زعيمة مجموعة BKL وقالت بإحتقار:
"صباح الخير يا عشاق، وصباح الخير لك خصيصا يا منافقة يا أنت"
صرخ عمر بوجهها بكل غضب ما جعلها تصمت وتقف متصنبة كالجبل، لمحت دموع في عينيها ما جعلتني أشعر بالشفقة لحالها، أمسكت يد عمر وقلت له:
"عمر يكفي لا تفعل هذا"
وتوجهت بنظري إليها وقلت:
"لا أدري ما سبب كرهك الشديد لي ولكن تأكدي أنني لا أكرهك بتاتا بل بالعكس أتمنى لو نتعرف أكثر لعل وعسى تتغير نظرتك حولي"
قطبت حاجباها بغضب وقالت:"لست مجنونة لأتحدث مع منافقة مثلك"
وغادرت كأنها لم تكن، إستدار عمر لي وقال:"لما قلت لها ذلك؟ أ حقا تودين التعرف عليها بعد كل ما فعلته معك؟"
تنهدت وقلت:"لا تعرف الصواب من الخطأ، قيدها الشيطان وعلي أن أساعدها لأحررها من قيده فأنا أخاف عليها قدر خوفي على نفسي فالنار لا ترحم يا عمر وأنا لا أود أن تكون من القوم الكافرين الذين مثواهم جهنم"
إبتسم عمر وقال:"عائشة صدقا أنا كلما تعرفت عليك أكثر أحببتك أكثر"
نظرت له وقلت:"كفاك تغزلا يا عمر أنت دائما تغتنم الفرص لتتغزل بي"
ضحك عمر وقال:"سيكون هذا جزاءك كلما تصرفتي بلطف يا حلوة"
إبتسمت وقلت له:"لن أكف إذن عن التصرف باللطافة"
ضحك عمر وقال:"وأنا لن أكف عن التغزل بك"
أنزلت رأسي من شدة الخجل وطلبت منه أن يصمت وندخل لنجلس قليلا في مكان ما في الساحة قبل أن يرن الجرس ونذهب للقسم، فإستجاب لطلبي ودخلنا الثانوية وحدد مكانا بعيدا عن الأنظار وسار بي إلى هناك، كنا ننظر إلى الأشخاص الذين يدخلون الواحد تلو الآخر وهو يخبرني عن كل شخص يعرفه من أولئك الأشخاص ويذكر لي بعض المواقف المضحكة التي حدثت لهم وحقا كنت أضحك من كل أعماق قلبي حتى أنني بكيت من شدة الضحك، وسرعان ما تلاشت اللحظة عندما رن الجرس ودخلنا القسم، أول حصتين كانا لمادة الفرنسية وأنا أحب هذه المادة كثيرا، ركزت على كل حرف تنطقه الأستاذة ودونت بعض الملاحظات وكتبت الدرس ثم ما لبث حتى إنتهى الدرس بسرعة وكأنه كان في دقيقتين لا ساعتين، ويا للمتعة فقد دخل نائب المدير وطلب منا أن نغادر مبكرا لأن أستاذ الرياضيات غائب والمساء إجتماع لذا لن يكون هناك دراسة في المساء ولحسن حظنا أننا غادرنا مبكرا على باقي التلاميذ، إستدرت بشكل عفوي لعمر فوجدته ساند رأسه بيده وينظر إلي وكان يبدو شاردا، ناديته مرارا وتكرارا حتى إستجاب لي وفطن من شروده، حك مؤخرة رأسه وإبتسم ثم قال:
"شردت قليلا لذا لم أسمعك، خيرا؟"
قلت له:"ألم تسمع ما قاله نائب المدير؟ طلب منا المغادرة فليس هناك دراسة اليوم"
تفاجأ ثم تحولت ملامحه إلى الفرح وقال:"لنذهب إذا"
نهض وحمل أغراضه وعانق كف يدي وغادرنا المدرسة، عند خروجنا قال لي:
"عائشة ما رأيك أن نتنزه اليوم؟ أن نذهب للشاطىء أو إلى أي مكان تريدين الذهاب إليه"
طلبت منه أن أتصل بوالدي وأخبره أولا ثم سأقرر فوافق وقال:
"طبعا إتصلي بعمي وأنا متأكد أنه لن يرفض لأنك الآن على ذمتي، وكذلك أنا سأتصل بالبيت لأخبرهم وهكذا نطمئنهم ونطمئن نحن أيضا"
أومأت برأسي مع إبتسامة ثم إتصلت بوالدي وأخبرته ووافق على ذلك.

زواج بدون قيودحيث تعيش القصص. اكتشف الآن