أعتقد أنك لو طالبتني بدخول بيتٍ تحيط به الشائعات أنه مسكون بالجن وحيداً في منتصف الليل سيكون ذلك هيناً مقارنة بما إذا طالبتني بالذهاب للبحث عن "فكة ".. لا أفهم حقاً ما السر وراء رفض أصحاب المَحال أن يعطوك فكة .. هل هناك مشكلة ما متعلقة بهذا الطلب أم أنه فقط رغبة في عدم تقديم يد المساعدة للآخرين ..
يوماً اضطررت للبحث عن فكة مائتي جنيه ، لا أتذكر السبب لكن أعتقد أنني كنت مضطراً لذلك .. حظي الحسن أن الشارع كان يعج بالمحال ، لن أضطر لدخول أكثر من شارع إذاً ..
أول مكان قابلته كان مطعماً صغيرا ، هنالك " كاشير " تجلس وراءه سيدة في الأربعين من عمرها ( بالمناسبة أعرف أن ال"كاشير" هي وظيفة و ليست جهاز ولكن هذا خطأ شائع عندما يصبح أقوي من الحقيقة ) .. تقدمت إلي السيدة و قلت :
-" ممكن فكة ٢٠٠ ؟"
نظرت لي نظرة حانية حزينة .. لم أفهم السبب ، هل أنا أُشبه ابنها الذي لم تره منذ خمسة و عشرين عاماً ؟ هذا يحدث كثيراً في الأفلام ..شرعت تحكي لي - محافظةً علي نفس النظرة - كيف أن ذلك الدرج الذي أمامها كان يعج بالفكة هذا الصباح ، و لكن أشخاصاً كُثُر قد أتوا قبلي يطلبون الفكة ، و لم تستطع - المغلوبة علي أمرها - أن تقول لا .. و بذلك قد نفذت الفكة ..
قاومت رغبتي في البكاء و احتضانها ثم تذكرت أنه لا يوجد مبرر لكل هذه التراچيديا .. كان بوسعها فقط أن تقول " لا ولله مفيش فكة " .. لا أعرف سر هذا الصدق المبالغ فيه ..
خرجت من المطعم لأتجه للمحل التالي .. كان مكاناً لتقديم العصائر الطازجة ( محل عصير ) .. خلف الكاشير يجلس رجلا في الخمسين من عمره يرتدي جلباباً رمادي اللون و "عِمة" بيضاء علي رأسه .. أسفل أنفه يوجد شارِب لو لم أذهب ل"الحلاق" بقية عمري لن أمتلك مثله .. تقدمت منه و قلت بأدب مبالغ فيه :
-" لو سمحت ممكن فكة ٢٠٠ ؟"
نظر لي نظرة جمدت الدم في عروقي .. اتسعت عيناه و ارتفع حاجباه و أكاد أقسم أني رأيت الشرر في عينيه ، حتي أني توقعت أنه سوف يأتي ب " الرجالة " من البلد لكي يعلمونني الأدب .. أقول نظر لي هذه النظرة و قال :
-" لأ !!! "
هكذا فقط .. كانت هذه كافية جداً لي كي أغادر مسرعاً قبل أن يفعل شيئاً .. حقاً لا أعلم ما سر هذه العصبية .. أنا طلبت فكة و لم أطلب يد ابنته علي ما أظن .. و لكني أعتقد أنني قرأت في عينيه معني هذه النظرة .. هذه نظرة من طراز :
"أنت_تريدني_أن_أعطيك_فكة_بدون_أن_تشتري_شيئاً_أيها_الوغد_!_!_! "المحل التالي كان "كشك" صغير .. توجهت إلي الكشك ثم قلت للبائع :
-" ممكن فكة ٢٠٠ ؟ "
-" معيش"
قالها بدون أن ينظر لي أصلاً .. هذا رجل عملي جداً .. لم يُضِع وقته في إشعاري بإنني إنسان قذر لأنني لم أشترِ شيئاً .. أحب هؤلاء العمليين ..المحل التالي كان مخبزاً .. كان هناك أكثر من عامل .. توقفت في الخارج قليلاً لأختار في عناية الشخص الذي سأسأله .. لدي فرصة واحدة في هذا المكان و لا أريد أن أُضيعها ..
أخيراً استقر رأيي علي أحد العاملين .. كان بشوش الوجه و أشعر أنه نقي السريرة .. كما أنه كان يبدو في مثل عمري و هذا يعني أنه سيشعر بي .. أنا شاب مثلك يا صديقي فلا تخذلني .. تقدمت من العامل المُختار و قلت :
- " ممكن فكة ٢٠٠ ؟"هل تعرف تلك النظرة التي توجهها لقريبك الطفل الذي لم يبلغ الخمس سنوات بعد، عندما يخبرك أنه في المستقبل سيصبح رائداً للفضاء .. عندها تنظر له تلك النظرة و تضع يدك علي رأسه و تلعب في شعره و أنت تقول جملة علي غرار " بسم الله ما شاء الله أنت عرفت رائد الفضاء دي منين "..
حسناً كانت هذه هي النظرة التي وجهها لي و هو يقول :
-" لا ولله مفيش" ..
خرجتُ شاعراً بالظُلم .. نعم هذا العالم شديد القسوة علي أمثالي .. أريد العودة إلي المنزل الآن ..أمامي كان ذلك المحل الذي لا أعرف ماذا يبيع .. هنالك مزيج بين أشياء كثيرة لا أعرف الرابط بينها .. و لكن هذا لا يهم ، سوف أري ذلك المحل و إن لم أجد فكة سأعود للمنزل .. أدخل إلي المحل لأجد بائع واحد يقوم بتنسيق أحد الرفوف .. قلت له بنبرة يائسة :
-" معاك فكة ٢٠٠ ؟"
-" لا ولله "
حسناً كنت أعلم ذلك ..بينما أنا أتجه للخروج إذ بفتاة في العشرين من عمرها تقف علي الباب و تقول:
-" ممكن فكة ٢٠٠ ؟"
ينظر لها البائع مبتسماً و يقول :
-" و فكة ٣٠٠ كمان لو عايزة " ...