استلمت ال(شيفت) في التاسعة مساءاً .. حقاً أحب فترة المساء تلك لأنها تكون قليلة الزبائن .. ناهيك عن حرارة الجو نهاراً ..
غادرت زميلتي (لمياء) بعد أن أعطتني تقريراً بمبيعات اليوم .. ما إن غادرت حتي أعددت كوباً من الشاي وجلست .. قبل أن أرشف الرشفة الأولي كانت تلك السيدة تدخل إلي الصيدلية ركضاً ..
"ونبي يا دكتور الحقني الواد سخن نار"..
كانت في الثلاثين من عمرها ترتدي جلبابا مزركش فضفاضا .. وكان وَلَدها في التاسعة من عمره تقريبا تحمله هي كما يحمل الموظفون في الأفلام العربية القديمة البطيخة أثناء عودتهم من العمل ..
وضعت يدي علي جبهته .. بالفعل حرارته مرتفعة للغاية ..
"حاسس بإيه تاني يا حبيبي؟"..
قبل أن يرد الطفل هتفت أمه:
"بيكح يا دكتور .. وعنده صُداع .. و حرارته عالية .. و صوته مش طالع .. و مش عارف يمشي علي رجليه"..منزعجاً قلت:
"خديه واطلعي بيه ع المستشفي بسرعة ! الأعراض دي أعراض واحد ميت بقاله يومين!!"..ممتعضةً مستنكرةً متأففةً قالت:
"مستشفي ايه ياخويا !! مش انت دكتور ! ما توصفله دواء !!".."انا صيدلي مش دكتور .. وبعدين ابنك كدة مش محتاج دواء ! دا محتاج دعاء !"..
نظرت لي من أعلي إلي أسفل ثم غادرت وهي توجه الحديث لولدها:
"تعالي يا ميدو انا هوديك لصيدلية تانية بدل الدكتور الحمار دا".. كان الدم يغلي في عروقي مشجعاً إياي علي جرها من شعرها لكنني تمالكت نفسي ..غادرت تلك المرأة بينما جلست أنا أسب وألعن مجانية التعليم.. مددت يدي إلي كوب الشاي لأجده قد برَدَ ، فلعنت مجانية التعليم مرة أخري ثم نهضت لأعد كوباً آخر ..
وضعت الكوب أمامي ثم جلست .. كان هناك ذلك الرجل يقدِّم قَدَم ويؤخر الأخري .. يدخل علي استحياء يحاول ألا ينظر لي في عيني .. نظرت إلي التقويم المعلق علي الحائط وابتسمت.. إنه الخميس .. أعرف هؤلاء الزبائن جيداً..
كان في الخمسين من عمره يرتدي "بول أوڤر" لا يتناسب مع كوننا في فصل الصيف إطلاقاً .. وقف أمامي وهو ينظر يميناً ويساراً وأماماً وخلفاً وشمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً ثم هتف بصوت متردد:
"أريد أاااااااا .. أاااااااا .. أاااا".. مقاطعاً إياه قبل أن يقتلني الملل هتفت:
"أفهمك يا حاج .. لحظة واحدة"..اتجهت إلي أحد الأرفف لأنتقي له أحد العقارات ، رغم أنه لا يحتاج لعقار بل لمعجزة .. كان هناك أكثر من عقار مختلفة المفعول.. نظرت له من وراء كتفي وقلت:
"عايزه كام ساعة يا حاج؟"..بنبرة واثقة هتف :
"٣ ساعات"..تركت ما كنت أفعله ونظرت له قائلاً:
"٣ ساعات !! ونا هعملهالك ازاي دي يا حاج !! دا نهائي كاس العالم مقعدش ٣ ساعات!!"..نظر خلفه بخوف ثم نظر لي وهتف:
"ايه يا دكتور ما انت دكتور بقي اتصرف ! وبعدين بسرعة مراتي في العربية لو اتأخرت عليها هتجيلنا هنا"..قبل أن أرد كانت تلك المرأة تدخل من الباب .. لا أدري لماذا شعرت بحرارة زائدة فجأة .. يبدو إننا في الصيف فعلاً ..
"ايه يا (محمود) اتأخرت ليه؟".. قالتها بصوت مناسب تماماً لهذا الذي أراه .. لو كانت هذه زوجته فأنا سأتزوج "إيمي آدامز" إذاً..
نظر لي زوجها بخوف ثم نظر لها وقال:
"أنا فقط أااااا .. لكن الدكتور قال أن أاااااااا .." تدخلت سريعاً لإنقاذه قائلاً:
"لحظة واحدة هجيبلك الدواء يا أستاذ".. اتجهت إلي الرف وأخترت أشد العقارات مفعولاً .."سأنتظرك في الخارج.. لا تتأخر".. قالتها الزوجة ثم خرجت ..
أعطيته العقار في يده وأخذت النقود.. وضع الرجل العقار في جيبه سريعاً وقال وهو يغمز بعينه اليسري:
"كام ساعة؟ ٣ زي ما قولتلك؟".."أه يا حاج ٣ ساعات متقلقش.. مع إني بعد اللي شوفته دا أشك إنك هتكمل ربع ساعة "..
لم يُضِع وقته في الرد عليّ بل هرع كي يلحق بزوجته..
جلست أسب وألعن والدة الطفل التي كانت هنا منذ قليل ثم مددت يدي لكوب الشاي الذي كان قد بَرَد، فلعنت والدة الطفل مرة أخري ثم نهضت لأعد كوب آخر..
لم يكن الماء قد غلي بعد .. كانت في الأربعين من عمرها هي .. ترتدي عباءة سوداء .. وقفت أمامي ومدت يدها لي بشئ ما وهي تقول:
"عايزة الدواء دا يا دكتور"..أخذت هذا الشئ من يدها .. كانت قطعة كرتون بيضاء ممزقة .. لا شئ سوي اللون الأبيض .. نظرت لها وهتفت:
"دا إيه دا ؟!".."دي حتة من علبة الدواء يا دكتور!"..
محاولاً منع دمي من التجلط داخل الأوعية قلت:
"دي فاضية يا ستي .. مفيش حاجة مكتوبة ولا مرسومة حتي !! هعرف اسم الدواء منين !!"ممتعضةً مستنكرةً متأففةً قالت:
"هو انت مش دكتور !!".."انتي كدة مش عايزة دكتور يا مدام ! انتي كدة عايزة ساحر القبيلة .. هو الوحيد اللي ممكن يعرف الدواء كان اسمه ايه !!"..
"ولله ياخويا هي الورقة دي اللي معايا"..
شعرت إني علي حافة نوبة قلبية.. فقط هتفت بهدوء:
"طب هو كان بيعالج ايه يا ستي؟".."كان بيعالج جوزي يا دكتور.. بعيد عنك اسبوعين راقد في السرير "..
"يا ستي ابوس ايدك ركزي معايا !! انا قصدي بيعالج مرض ايه !!!"..
نظرت للسقف وأخذت تفكر قليلاً ثم هتفت:
"قرحة المعدة يا دكتور"..أحضرت لها جميع العقارات التي تعالج قرحة المعدة ووضعتها أمامها:
"أنهي واحد في دول يا ستي؟"..نظرت لهم قليلاً ثم هتفت بانتصار وهي تختار أحدهم :
"أيوة هو دا".. ثم نظرَت لغطاء العبوة الأبيض ونظرت لي بعتاب قائلة:
"ماهو نفس الورقة الي انا جايباهالك اهي .. مش عارفة بيعلموكوا ايه في الكليات!"..قالتها وهي تعطيني النقود ثم غادرت .. اتجهت إلي الداخل وأنا أسب وألعن والدة الطفل لأجد الماء قد تبخر .. والإناء قد احترق ..
اطفأت النار ثم اتجهت إلي المقعد وجلست .. ظللت أكرر تلك الجملة كثيراً:
"الرجال لا يبكون"..
"الرجال لا يبكون"..
"الرجال لا يبكون"..
"الرجال لا يبكون"..
"الرجال لا يبكون"..
ثم انفجرت في البكاء..