الفصل الخامس

63 5 0
                                    


"انظروا من عاد باكرًا!"
قال بيتر وهو يرى ألبيرت يدخل إلى الغرفة.
"أجل لقد عدت."
ضحك ألبيرت مُعلقًا وهو يقف أمام مكتب بيتر، فكلاهما يملكان غرفةً مشتركة لكن لكل منهما مكتبه الخاص.
"لماذا عدت باكرًا؟"
سأل بيتر.
هزّ ألبيرت كتفيه قائلًا:
"تعرفني، لا أحب البقاء دون عمل."
فغر بيتر فاهه وقال مستنكرًا قوله:
"لعلك لا تتذكر ولكنك بقيت حيًا بمعجزة، فهل تمانع لو تجلس مرتاحًا لبعض الوقت؟"
ابتسم ألبيرت وربت على كتف صديقه ثم قال:
"لا تقلق."
نظر بيتر إليه قائلًا:
"ولكن حقًا... عليك أن تنصت لي من بعد الآن، لا أستطيع التعامل مع إصابةٍ أخرى لك."
ابتسم ألبيرت بهدوء يُدرك قلق صديقه عليه، فتابع بيتر بضيق:
"لماذا تبتسم؟ أنا أتكلم بجدية!"
ضحك ألبيرت ثم قال:
"حسنًا... سأفعل، لا تنزعج!"
نهض بيتر من مكانه وهو ينظر إلى ألبيرت، ثم خرج من الغرفة.
بينما اختفت ابتسامة ألبيرت تدريجيًا، وعلت وجهه نظرة غامضةٌ، ثم تمتم هامسًا:
"أعتذر... أنا أعتذر."
أسند رأسه للخلف، وتنهد بضيقٍ...
كأنه يحاول باستماتةٍ،
إزاحة همٍ ثقيل قد أطبق على صدره.

وفي مكان آخر،
كانت كارلا تقف بسيارتها أمام أحد المنازل، وهي تطرق بأناملها فوق عجلة القيادة وتنظر إلى تلك الحديقة المسيجة بترقبٍ وتفكير، لقد امتلأ رأسها بالأفكار والذكريات تشوش عقلها... وها قد حلَّ الليل ولم تتناول شيئًا منذ الصباح.
زفرت بضيقٍ وهي تحاول ترتيب أفكارها حتى تستطيع التقاط طرف الخيط الذي يقودها إلى القاتل دون تلكؤ أو تِيه، فهي لا تريد أن تشعر أنها تدور في حلقةٍ مفرغةٍ لا تعلمُ نهايةً لها من بداية!
علا صوت هاتفها برنينٍ مزعجٍ، فالتقطته تتفقد المتصل لكنها لم تجد له اسمًا، عقدت ما بين حاجبييها ثم أجابته دون أن تتفوه بشيء، مما دفع الطرف الآخر للتحدث بعد عدة ثوانٍ قائلًا باقتضاب:
"لا تعبثي بالماضي... كارلا."
سرت قشعريرةٌ بجسدها، رفضت أن تُرجعها لخشونة الصوت وغلاظته، ولكن ألصقتها عنوةً ببرودة الجو ونسمات الهواء في هذا الوقت من الليل!
"من أنت؟"
سألت كارلا وعيناها لا ترمشان من أثر الترقب.
لكنها لم تسمع إجابةً... عوضًا عن ذلك، سمعت صوت صفيرٍ متقطعٍ ينبئ عن انتهاء الاتصال دون أن يفصح المتصل عن هويته أو يروي ظمأ كارلا بالحصول على أي معلومةٍ أخرى.
ألقت الهاتف بغيظٍ على المقعد المجاور، تقسم أنها على وشك فقدان عقلها من كثرة تداخل كل شيءٍ حولها، ضربت عجلة القيادة بغضب وصاحت:
"اللعنة على ذلك!"
ثم أدارت محرك السيارة وتحركت من أمام البناية بسرعةٍ وقد أثارت عجلات سيارتها كومةً من الغبار المتصاعد.
كان يقف من خلف زجاج شرفته يراقبها وهي ترحل، لقد كان يشاهدها منذ أتت وتوقفت أمام المنزل، لم تترجل من سيارتها، ولم ترحل إلا بعد مرور فترةٍ طويلةٍ من الوقت.
عقد ذراعيه خلف ظهره وقال بصوتٍ أجشٍ غامض:
"يبدو أنها عادت."
أتى صوت فتاةٍ لا مبالٍ من خلفه سائلًا:
"إن كانت تمثل خطرًا، فهل...؟"
غضب بشدةٍ وقاطعها مُهددًا:
"لا تهذي، لا أحد يمسُها بسوء... إذا أصيبت بخدشٍ واحدٍ لن أكتفي بقتل المتسبب، بل سأمحو وجود جميع عائلته... سأمحوه كأنه لم يكُن."
صمتت تنظر له ولصوته الغاضب تتساءل...
متى غضب من قبل كمثل غضبه للتو؟
ثم أخفضت رأسها بخضوعٍ مغمضة العينين تمنع نفسها من التدخل فيما لا يعنيها، وحدسها يخبرها أنهما ستقفان وجهًا لوجهٍ قريبًا.
بينما استمر الاخر في صمته،
يغرق في شروده دون حديث،
بل اكتفى بالهمس والتمتمة... محدثًا نفسه بين الحين والآخر!

توقفت كارلا أسفل منزلها ثم صعدت ببطءٍ وتثاقلٍ إلى شقتها،
فتحت الباب ودخلت تقصدُ غرفتها ثم ارتمت على فراشها بتعب.
استلقت على ظهرها تنظرُ للسقف تفكر وتفكر،
عقلها لم يهدأ منذ أن استيقظت في المشفى،
تذكرت كلمات هيوغو من وقت سابقٍ وتساءلت...
ماذا يعني من النهاية إلى البداية؟
وماذا يقصد بأن تبدأ من حيث انتهى كلُ شيء؟
ولمَ عليها أن تستعد للتضحية بأشخاصٍ آخرين!
أمسكت برأسها بشدة مع ازدياد الطنين وتشوش رؤيتها، انكمشت في فراشها تضغط بشدةٍ على رأسها كي توقف الألم ولكن لا فائدة،
تشعرُ كما لو أنها تختنق...
والأرضُ تدور بها دون توقف...
ارتعش ذراعاها وهي تلصقهم بالفراش وتحاول النهوض من مكانها لتبحث عن أي شيءٍ قد يساعدها، أنزلت ساقيها من فوق الفراش لكنها لم تتمالك أعصابها فزلَّت وسقطت أرضًا دون أي مقدارٍ ضئيلٍ من الطاقة، رمشت بعينيها تشعر أن أجفانها ثقيلةٌ للغاية لا تقوى على إبعادهما عن بعضهما، كادت تستسلمُ وتغمضهما لكن طرقًا على باب شقتها انتشلها من تلك الدوامة.
نهضت ببطءٍ تغمض عينيها بقوة ثم تفتحهما علَّ رؤيتها تتضح لكن دون جدوى، وصلت إلى باب الشقة فاتكأت عليه من الخلف وقالت بصوتٍ ضعيف:
"من؟"
لم يبدو أن من في الخارج قد سمعها فقالت بصوتٍ أعلى:
"من الطارق؟!"
"الآنسة كارلا؟"
أتى صوت غريبٌ على مسمعها من الخارج.
فتحت الباب ولازالت تحاول الوقوف بثباتٍ على الرغم من الدوار الذي تشعر به، تفقدت الواقف أمامها، كان يرتدي ملابس سعاة البريد فنظرت كارلا إلى وجهه لكنها لم تتبينه بسبب قبعته السوداء فسألت بحذر:
"من أنت؟"
"جئت لتوصيل هذا الطرد إليكِ."
مد ذراعيه بالصندوق فنظرت له كارلا بشك وقالت:
"ممن هذا الطرد؟"
"لم يتم إرفاق اسم المُرسل عليه."
أومأت كارلا وأمسكت بالصندوق بين ذراعيها فأخرج ورقةً وقلمًا ثم قال:
"هلَّا تقومين بالتوقيع لي هنا من فضلك؟"
وضع الورقة فوق الصندوق، وناول كارلا القلم... فأخذته الأخيرة ثم وقعت باسمها حيث أشار بالضبط.
انحنى باحترامٍ وقال مودعًا:
"ليلةً سعيدة."
"ولك أيضًا."
قالت كارلا وهي ترى يستدير مبتعدًا عن بابها، شعرت أنها رأت هذه الهيئة من قبل لكنها لا تستطيع تحديد هوية صاحبها.
تأملت الصندوق الورقي ثم أرجحته بين يدها بفضول لتسمع صوت شيءٍ يتخبطُ بداخله، تنهدت بضيق... فلم يكن ينقصها سوى طرد مجهول من شخصٍ مجهول!
أغلقت الباب وجلست خلفه أرضًا وقد ألقت الطرد إلى جانبها، مررت يدها فوق وجهها، فحالتها تزداد سوءًا وهي لا تعلم ما بها، تحاملت على نفسها ونهضت تستندُ على الحائط وتوجهت إلى مطبخها تحاول العثور على أي شيءٍ سريعٍ لتحضيره.
مر قليل من الوقت وهي تعدُ طعامًا سريعًا ومشروبًا منعشًا كي تستعيد طاقتها، أنهت طعامها بعد أن تناولته مرغمةً، فلولا ذلك الدوار وتشوش رؤيتها لكان الطعام هو آخر ما تفكرُ به الآن... وربما لم تكن لتأكل حتى تنتهي مما تفعله!
ظلت في مكانها لقليلٍ من الوقت تستعيد لو قدرًا ضئيلًا من طاقتها، وحين كادت تعودَ إلى غرفتها عرجت عائدةً إلى حيث ألقت الطرد، أخذتهُ بيديها وعادت إلى الغرفة بهدوء ثم وضعته على الطاولة التي تجاور فراشها، ثم أخرجت مشرطًا حادًا من أحد الأدراج ثم غرسته بالصندوق الورقي تنزعُ عنه الشريط اللاصق.
توقفت يداها وسحبتهما فجأةً عندما لمحت ما بداخله، انتبهت حواسها واستعادت تركيزها من فورها ثم مدت يدها ببطءٍ تتأكدُ مما رأته.
أزاحت ما تبقى من الشريط اللاصق...
وفتحت الصندوق بالكامل...
لتقع عيناها على ما جعلها تشعر كأنها تلقت صفعةً على وجهها!
همست بصوتٍ مرتعش:
"ماذا؟"
كانت كارلا تنظرُ إلى السلاح الموضوع بين بعض الأغطية وعيناها تصرخان بذعرٍ أنها تعلم بالفعل ما هو هذا السلاح ولمن ينتمي...
أمسكت به بين يديها وتحسسته بهدوء ثم قالت:
"ما الذي أتى بهذا إلى هنا؟"
وضعته جانبًا، وأخذت الصندوق ثم قلبته سريعًا رأسًا على عقبٍ تفرغ محتوياته فوق الطاولة، فتشت بين الأغطية كي تجد أي أثرٍ للمرسل لكن لا شيء، نظرت مرةً أخرى إلى الأغطية لتدرك أن الذي أرسل لها هذا السلاح كان حريصًا جدًا على أن يصلها بحالته ولا يمسه أي سوء.
توجهت إلى باب شقتها تبحثُ عن الساعي لكنه كان قد غادر بالفعل،
ركضت على الدرج نزولًا وهي تحدث نفسها بذعر:
"من فضلك... من فضلك."
وقفت كارلا أمام البناية تحاول التقاط أنفاسها، تلفتت يمنة ويسرة تبحث عنه، لكن لا فائدة، فلقد مر الكثير من الوقت بالفعل على تسليمها الطرد ومن الطبيعي أن يكون قد غادر... كانت تعلم ذلك لكنها كانت ترجو أن يخيب ظنها!
زفرت بضيقٍ وعادت إلى الأعلى مجددًا، أغلقت باب شقتها وتوجهت مباشرةً إلى غرفتها تقف أمام الصندوق والسلاح وصدرها يعلو ويهبط بسرعةٍ من أثر النزول والصعود والركض، وضعت كفيها بخاصرتها وقالت بهمس:
"لماذا؟ ما المغزى من إرسالك إلى الآن؟ ومن أرسلك؟ من يراقبني؟"
التقطت هاتفها وأخذت تبحث عن أحد الأرقام ثم ضغطت زر الاتصال وسرعان ما أجابت الطرف الآخر فتحدثت كارلا:
"مرحبًا آنا، سأطلب منكِ خدمة، هلَا أرسلتِ لي ذلك الفيديو الذي سجله هيوغو؟ كما أنى أريد قائمةً بآخر الأماكن التي زارها والأشخاص الذين التقى بهم من فضلك."
صمتت قليلًا ثم قالت:
"أجل، من فضلك فلتقومي بذلك."
ثم نظرت إلى السلاح الموضوع فوق الطاولة وقالت:
"لا... لا خدمات أخرى، فقط افعلي ما قلته وسأتولى أنا البقية."
ثم تابعت:
"حسنًا، سأخبركِ إن احتجتِ إلى أي شيءٍ آخر."
ثم أنهت الاتصال واقتربت من السلاح واضعةً أناملها عليه وقالت بوعيد:
"فلتختبئ جيدًا... لأنني حين أعثر عليك لن أترك ياقتك أبدًا."
حل الصباح!
وحين كانت كارلا تقف أمام مرآتها تصففُ شعرها بعد أن تجهزت للخروج رن هاتفها ظنتها آنا فأجابت على الفور، لكن صوتًا آخر حدَّثها قائلًا:
"آنسة كارلا؟"
"أجل؟"
أجابت كارلا وقد تعرفت على صوته، إنه نفس الشرطي الذي اتصل بها سابقًا.
"أرجو منك أن تحضري إلى مركز الشرطة لإنهاء الأمر المتعلق بالبلاغ!"
قال الشرطي.
تنهدت كارلا بسأم، لا تصدق حقًا أن ألبيرت لم يسحب ذلك البلاغ السخيف بعد، فقالت:
"حسنًا، كنت قادمةً على أي حال."
"حسنًا يا آنسة، أرجو ألا تتأخري."
قال الشرطي بهدوء.
"حسنًا... فهمت."
قالت كارلا منهية الاتصال.
تفقدت هاتفها إن كانت آنا قد أرسلت ما طلبته لكنها لم تجد شيئًا، فقررت الذهاب إلى مركز الشرطة حتى تبعث لها بما تريد.
خرجت كارلا من شقتها ثم قادت سيارتها إلى مركز الشرطة تأمل أن تجد من عزمت على إيجاده... ربما تقف الحياة في صفها هذه المرة ولا تجعلها تعيش ألمًا آخرًا!
وصلت إلى مركز الشرطة، ووقفت أمامه تملأ رئتيها بالهواء ثم دخلت إليه، لم تفتها نظرات البعض المتعجبة والأخرى المصدومة، فها هي تواجه مرةً أخرى ما تركته يومًا خلف ظهرها وغادرت...
دخلت إلى قسم البلاغات لترى الشرطي الذي اتصل بها، ابتسم لها وقال:
"من هنا يا آنسة."
سارت خلفه بينما يرشدها رغم أنها ودت لو تخبره أنها لا تحتاج للإرشاد، فهي تعلم كيف تجد طريقها في هذا المكان جيدًا. دلفت الغرفة لتجد ألبيرت يجلس أمام أحد المحققين الذي ما إن رأى كارلا حتى كاد أن يتحدث لكن كارلا قاطعته ومدت يدها قائلةً:
"مرحبًا سيدي، أنا كارلا!"
أغلق الآخر فمه وصافحها بهدوء فجلست مقابله وقالت قبل أن يبدأ في الحديث:
"أود لو أوضح موقفي قبل أن تبدأوا بتلاوة ذلك البلاغ السخيف على مسامعي، فأنا لا نية لي بالاستماع!"
"لا حاجة لذلك."
قاطعها ألبيرت الذي كان يراقب الموقف.
"لم أفهم!"
"أقول لا داعٍ لتوضيح موقفك."
كرر ألبيرت بلا مبالاة.
شعرت كارلا بالضيق وقالت باندفاع:
"من تظن نفسك حتى تملي عليَّ ما أفعله؟ ... ماذا؟ أتظن أنني سأنصاع لك مجددًا؟"
علت وجه ألبيرت ابتسامة ساخرةً وقال:
"يا إلهي، أظن أنني سأندم على سحب ذلك البلاغ الآن حقًا!"
"ماذا؟"
قالت كارلا وهي تنظر إلى المحقق الذي قال:
"أجل يا... آنسة كارلا، قام السيد ألبيرت بسحب البلاغ، وتم استدعاؤك إلى هنا حتى تقومي بالتوقيع فقط أن الأمر انتهى!"
شعرت كارلا بالحرج فاحمرت أذناها لكن لحسن حظها فهما مختبئتان تحت شعرها الأسود القصير، أمسكت بالقلم ووقعت حيث أخبرها المحقق أن توقع.
غادر المحقق مغلقًا باب الغرفة خلفه لكنه فتح فجأة ودلف أحدهم وهو يقول:
"حين أخبروني أنك هنا لم أصدق، ولم أحتمل الجلوس بمكاني فأتيت لتفقدك!"
رمشت كارلا بصدمة وهي تتفقد ذلك الرجل الذي ملأ الشيب رأسه فاتسعت ابتسامته وقال:
"مرّ وقتٌ طويلٌ حقًا... كارلا!"

****

قلبٌ دامٍ (رواية مكتملة)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن