الفصل الحادي عشر

36 6 0
                                    


كانت كارلا تنظر للصورة دون أن تتفوه بكلمةٍ أو تقلب الصفحات حتى ترى ما الذي انتهى!
تحدق بصورة والديها وهما يقفان إلى جوار بعضهما..
يبتسمان بحبٍ... كما لو أنهما يبتسمان لها هي مباشرة!
تمتمت بتيه:
"يبدو أنها صورة قد التقطت بواسطة شخصٍ مقرب... ربما كان هيوغو هو من التقطها!"
عادت تتأمل السيارة التي يقفان أمامها،
اقشعر بدنها، نعم... هي سيارتهما نفسها التي لقيا حتفهما بها!
أجفلت حين تذكرت مشهد انفجار السيارة أمام عينيها وجدها يمسك بيدها ويجلس أمامها يحتضنها كي لا يصلها شيءٌ من شظايا السيارة المشتعلة،
لكنه للأسف، قد خبأ كل شيءٍ بها... عدا عيناها!
فظلت تنظر للسيارة التي كانت والدتها تشير لها من خلال نافذتها منذ لحظاتٍ بأعين متسعة وهلعة، وصورة والدها الذي ابتسم لها للتو مشجعًا كي تسرع وتأتي إلى جوارهم كي يعودوا للمنزل سويًا... تحترقُ مع السيارة أمام ناظريها!
وضعت كارلا أناملها فوق صورة والديها بحزنٍ واشتياقٍ قد تركته لأول مرةٍ يخرج من صدرها، فخرج ثائرًا ممزوجًا بالحنين طاغيًا على وجهها.
تلمست وجه والدتها وشعرها الطويل كأنه أمامها بصمتٍ،
وصورة السيارة المشتعلة تفسد أي ذكرى تحاول تذكرها...
نظرت لوجه والدها الحنون وهي تحاول ألا تبكي،
بينما عيناها تصطدم مرارًا وتكرارًا بالكلمة الحمراء التي طبعت عليهما!
همست بتيه تقرؤها والألم يقطر من صوتها:
"انتهى؟
ما الذي انتهى؟
أهي حياتي؟
أم حياتهما؟
أكانوا قصةً وانتهت؟
ما الذي انتهى؟
ولماذا انتهى؟"

في ذات الوقت،
كان بيتر يسمعها كل تلك المدة، وهو يوقف سيارته أمام مركز الشرطة بعد أن حدد موقع كارلا، ركض إلى الداخل فتعجب الشرطي الذي بالخارج لكن بيتر لم يعره اهتمامًا وركض إلى الداخل، يبحث هنا وهناك عن كارلا ولازال لم يجرؤ على إنهاء الاتصال بها، فهذا هو الخيط الوحيد الذي يصلهما ببعضهما الآن وهو... لا يريد قطع ذلك الاتصال!
توقف أمام غرفة الرئيس وهو يدعو أن تكون بداخلها وأن تكون الغرفة غير موصدة... وقد كانت، دلف إلى الغرفة ومرر بصرها داخلها فلم يجد أحدًا، كاد يخرج لكن صوت نهنهةٍ خافتٍ وصل إليه.
سار في الغرفة ببطءٍ يدور حول مكتب الرئيس...
ليجد كارلا تبكي بصمتٍ لا يشي ببكائها سوى... تلك الدموع الساخنة التي تغرق وجهها وأنينها الخافت الذي يكاد يسمع!
"كارلا..."
ناداها بيتر بقلق وأبعد الكرسي يفسح لنفسه المجال كي يقترب منها أكثر.
جلس إلى جوارها وعيناه تبصران الصورة والملف الذي تمسكهما كارلا بإحكام رافضةً التخلي عنهما، شعر بالحيرة فهو لا يعلم هويتهم ولكنه خمن أنه لابد وأنهما مقربان منهما، زادت حيرته الكلمة المكتوبة على الصورة، لكنه نفض كل ذلك عن رأسه وأولى اهتمامه كله إلى كارلا.
نظر لها بقلقٍ لا يمكنه مداراته ثم ناداها مجددًا:
"كارلا؟"
نظرت له ووجهها لا ينم عن شيءٍ سوى الألم والحزن، تأمل عينيها اللتان لا ترمشان بل تفيضان بالدموع فحسب فشعر بخفقةٍ عنيفةٍ داخل صدره...
خفقةٌ... جعلته يرفع يده يمسح دموعها وقد رق قلبه لها،
ثم سألها بحنوٍ ودموعها تؤجج نارًا لا يعلم من أين ولا كيف اشتعلت بداخله:
"كارلا؟ ماذا حدث؟ لماذا تبكين؟"
نظرت له كارلا بفراغٍ وعادت ببصرها إلى صورة والديها واستمرت بالبكاء وهي تخفض رأسها، شعر بيتر بالضيق لرؤيتها تبكي فقال برجاءٍ وهو يعيد وجهها إليه كي تتوقف عن النظر للصورة والبكاء:
"لا تبكي."
ثم أخذ يعيد خصلات شعرها إلى الوراء ويمسح وجهها بكفيه ويقول وقلبه يؤلمه مع كل دمعةٍ تسقط من مقلتيها:
"لا تبكي، سيكون كل شيءٍ بخير."
رمشت كارلا فجأة، كأنها عادت إلى الواقع من حلمٍ طويل...
انتبهت إلى كفيه اللذان يستقران على وجنيتها ويحيطان وجهها بحماية، ثم قالت بصدمة:
"بيتر؟"
ابتسم لها بيتر وأجابها يُدرك عودتها إلى وعيها:
"مرحبًا؟"
ابتعدت عنه على الفور وهي تسأل:
"ماذا تفعل؟ لماذا أنت هنا؟"
استمر بيتر في الابتسام وقال:
"أمسح دموعكِ."
أجفلت كارلا واضطربت تحسس وجنتيها لتجدهما مبتلتين، لكنها أبت أن تُقر بأنه مسح دموعها حقًا بيديه وقالت:
"لا تهذي... أنا لم أبكِ!"
لم يجبها بيتر فعادت ببصرها إليه، تتفقدُ قلقه الذي لم يعد يبذل بوضوح أي جهدٍ لإخفائه، تأملت وجهه وجلسته على الأرض إلى جوارها ثم نظرت إلى يديه مطولًا، وتساءلت... أكانتا على وجنتيها حقًا تمسحان دموعها؟
هزت رأسها ترفض الاسترسال في التفكير، ثم أخذت تلملم شتات نفسها وقالت آمرةً:
"فلتغادر."
"لا أريد."
أتاها رده سريعًا... دون تردد أو تفكير!
فنظرت له مجددًا بحيرة ثم سألت بتردد:
"حقًا؟"
ابتسم بيتر وأومأ برأسه فقالت ببساطة:
"إذا فسأغادر أنا."
هزّ بيتر رأسه كأنه كان يتوقع هروبها، بينما أخذت هي الملف ثم وقفت لوهلة ونظرت إليه ثم أخرجت هاتفها وقامت بالتقاط صورةٍ لكل ورقةٍ به، ثم أعادت كل شيءٍ إلى مكانه كما كان.
نهض بيتر من مجلسه ووقف يتأملها وهي تعيد كل شيءٍ بدقةٍ باستعمال ذاكرتها البصرية، وهو يشعر بالانبهارٍ يتسلل إليه كلما رآها تقومٍ بشيءٍ ما... ويجعله يقسم بداخله أن لا أحد يستطيع القيام به كما تفعل هي.
انتهت كارلا وخرجت من الغرفة يتبعها بيتر، أغلقتها خلفها مجددًا ثم توجهت إلى الخارج وقد قررت تجاهل بيتر تمامًا، فعقلها يذكرها كلما نظرت إليه أنه رآها تبكي بل ومسح دموعها بيديه!!
شكرت الشرطي وأعادت له البطاقة، ثم قالت بابتسامة:
"أرجو أن تحتفظ بعودتي للمركز سرًا، فأنا لا أريد أن يتم توبيخي من قبل الرئيس!"
ابتسم الشرطي وأومأ برأسه موافقّا، فخرجت من المركز وهمَّت بركوب السيارة لكن بيتر منعها وأمسك بالباب ثم قال:
"لا لن تهربي."
نظرت له كارلا بعدم فهم فقال:
"تهربين كلما كنا سويًا في مكان واحد."
علَت وجه كارلا ابتسامة ساخرة وقالت:
"ولم أهرب منك؟ هل أخافك؟"
ابتسم بيتر وقال:
"أحيانًا لا نهرب من الخوف."
بدا على وجه كارلا أنها لم تفهم ما قاله فقال يشير إلى سيارته:
"أي أننا سنعود إلى الحفل حتى لا يشك الرئيس بأمرك... فكما بدا لي، هو لا يعلم شيئًا البتة عن مجيئك إلى هنا."
تتبعت كارلا موضع إشارته وهي تفكر فيما قاله، لا تريد أن تخبره أنه على حق، ولكنه بالفعل مُحق... فإن لم تعد إلى الحفل الآن قد تتسبب في أن يأخذ الرئيس حذره فيما بعد فيصعب عليها اكتشاف أي شيءٍ آخر!
اومأت برأسها وقالت على مضض:
"حسنًا، فلتبتعد حتى أتمكن من العودة."
ضحك بيتر عاليًا، ثم قال يذكرها بلقائهما الثاني أمام المشفى:
"عزيزتي... قد أخدع مرة، لكنني حتمًا لا أخدع مرتين!"
تذكرت كارلا هروبها منه فكادت تبتسم لكنها رسمت الجدية على وجهها، وبالرغم من ذلك... ارتفعت زاوية فمها بابتسامةٍ صغيرةٍ تكشفها رغمًا عنها أمام عيني بيتر المترقبة.
قال بيتر وهو يلقي نظرةً متفحصةً داخل سيارتها وقال:
"كيف لشرطية أن تخرج بسيارةٍ على وشك أن تفرغ من الوقود!"
التفتت كارلا تتفقد عدادات سيارتها وهي تشعر بالضيق من نفسها ثم قالت:
"سيوصلونني إلى الحفل!"
رفع بيتر حاجبيه وقال بتحدٍ:
"حقًا؟ ألن تحتاجي لسيارتي؟"
قلبت بصرها بينه وبين سيارته السوداء المطابقة لسيارتها بإصرار، وقالت تؤكد ما قاله:
"أجل."
ابتسم بيتر وابتعد عن الباب وقال:
"حسنًا، سأبقي أنا في الخلف."
نظرت له كارلا بشكٍ ثم ركبت سيارتها وقادتها مبتعدةً وهي تتوسلها ألا تفرَغ من الوقود وتضعها في موقف سيء... بينما عاد بيتر إلى سيارته يتبعها خطوة بخطوةٍ لتأكده أنها لن تصل.
وقد كان، تعطلت سيارة كارلا بعد فترةٍ قصيرةٍ فضربت المقود وهي تتمنى لو تنشق الأرض وتبتلعها حتى لا يأتي بيتر ويراها في هذا الوضع، بينما اتسعت ابتسامة بيتر الذي كان خلفها مباشرةً وترجل من سيارته يحاول أن يكتم ضحكاته كي لا يزيد ضيقها.
وقف أمام باب سيارتها دون أن ينظر لها وقال ساخرًا:
"هل تغير مكان الحفل؟"
لمست كارلا سخريته فنظرت له بغضب، لكنه تابع يتجاهل ضيقها وهو يلتفت حوله متفقدًا المكان المظلم الذي توقفت به:
"لكنني لا أرى أحدًا، أنحن أول الحاضرين؟"
زفرت كارلا بضيقٍ فانحنى ينظر لها من النافذة ثم قال بابتسامةٍ يغيظها:
"أستقيمين الحفل في السيارة؟"
وصلت كارلا إلى حدود صبرها، فأخذت هاتفها ومفاتيح سيارتها وفتحت الباب فجأة فارتطم بجبين بيتر مما جعله يعود للخلف بضع خطوات متألما من فعلتها، بينما وقفت هي تنظر لها بتشفي وهي تعقد يديها أمام صدرها وتقول:
"بل سأقيمه على وجهك."
ضحك بيتر بصخبٍ، فغادرت إلى سيارته تحاول فتح الباب لكنه أغلق السيارة فنظرت له بضيق... سار تجاهها بهدوء يجبرها على انتظاره، فتراجعت كارلا إلى الخلف عند اقترابه منها فابتسم ومد يده يفتح الباب خلفها وهو يقول:
"تفضلي!"
نظرت له كارلا وتصرفاته تدفعها لحدود صبرها حقًا ثم قالت:
"هل أخبرك أحدهم أنني لا أستطيع فتحه بنفسي؟"
ثم ركبت السيارة وأغلقت الباب بقوةٍ، فضحك بيتر مرةً أخرى وقال:
"يبدو أن إثارة غيظك أمتع بكثير من إثارة غضبك والاصطدام معك."
ثم دار حول السيارة وهو يقول محدِّثًا نفسه:
"ويبدو أنني لن أندم على العبث معك!"
ركب إلى جوارها وتحرك بالسيارة مبتعدًا عن سيارتها وعائدًا أدراجه إلى الحفل، بينما أمسكت هي هاتفها وتحدثت إلى آنا تخبرها بموقع سيارتها كي ترسل أحدهم ليأخذها.
انتهت وجلست تتفقدُ السيارة ليزداد تعجبها، فكيف يعقل أن يملك سيارةً مطابقةً لسيارتها، قرأ بيتر ما تريد قوله فابتسم وهو يقول:
"لا أفضل سوى هذا النوع من السيارات منذ أن كنت في الحادية عشرة."
أثار ذكره لعمره تساؤلها عن عمره فسألته:
"وكم عمرك؟"
بينما شعر بيتر بالسعادة لاهتمامها بالحديث وقال:
"أنا في السابعة والعشرين، ويسعدني أنني وجدت شخصًا يفضل هذا النوع من السيارات مثلي!"
نظرت له كارلا دون تعابير محددةٍ، فابتسم لها وأشاح ببصره مرغمًا ليعود للانتباه للطريق...
عادا إلى الحفل فجذب دخولهما سويًا أنظار الجميع،
تظاهرت كارلا بعد الفهم، بينما ابتسم بيتر لألبيرت الذي اقترب منه وعلى وجهه أمارات الغضب، سحبه من ذراعه بعيدًا عن كارلا وقال هامسًا:
"أين كنت بحق الجحيم؟ ولماذا أتيت برفقة كارلا؟"
نظر له بيتر لثوانٍ دون إجابةٍ ثم نظر مجددًا إلى كارلا التي اقترب منها الرئيس والمحقق ستيفن يطمئنان عليها ويسألان عن سبب مغادرتها الحفل فجأة، عقد بين حاجبيه من رد فعل بيتر ولمعت برأسه فكرة شعر بالضيق على إثرها لكنه سأل:
"ألبيرت... أتملك مشاعرًا تجاه كارلا؟"

****

قلبٌ دامٍ (رواية مكتملة)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن