الفصل العاشر

39 6 0
                                    


جلست كارلا على المقعد بجوار ماريا الممددة على الفراش، أسندت رأسها إلى ذراعيها فوق الفراش بصمت، تشعر كما لو أنها في كابوس سيء تخشى ألا تستيقظ منه أبدًا.
تنهدت كارلا بخوفٍ وهمست:
"فلتستيقظي أرجوك... لا تتركيني!"
ساد الهدوء في الغرفة قبل أن تقطعه ماريا وهو تقول:
"أردت لعب دور المريضة لمدةٍ أطول... لكن قلبي آلمني."
رفعت كارلا رأسها بسرعة تحدق في ماريا المبتسمة ثم قالت:
"هل أنت بخير؟"
اتسعت ابتسامة ماريا ثم مدت ذراعيها لصديقتها فعانقتها الأخيرة بشدة استشعرت من فرطها ماريا قلق كارلا الكبير وخوفها عليها.
ظلتا هكذا لبعض الوقت حتى ابتعدت كارلا بمشيئتها عن ماريا،
ولكنها ظلت ممسكة بيديها ثم قالت:
"ماذا حدث؟"
ابتسمت ماريا بهدوءٍ تحاول صياغة ما حدث دون أن تتسبب في ذعر كارلا، فقالت:
"شعرت فقط ببعض الدوار وأتيت للمشفى للفحص لكنهم استبقوني هنا قائلين إنني أحتاج لبعض الراحة."
تنهدت كارلا وقالت:
"دعيني أطمئن منهم."
أمسكت ماريا بيدها وقالت تمنعها:
"كارلا، لا تضخمي الأمور... أنا بخير كما ترين."
نظرت كارلا لها بقلق غير قابل للمواراة، فابتسمت لها ماريا وضغطت على يدها ثم قالت:
"أنا بخير حقًا."
عانقتها كارلا مرةً أخرى تغمض عينيها بقوةٍ وتحمد الله أنها لم تفقد صديقتها أو تخسر شخصًا عزيزًا عليها مجددًا.
بينما ربتت ماريا عليها وأخذت تمسح فوق رأسها بهدوء وقد علت وجهها نظرةُ ندمٍ على كذبتها التي تفوهت بها،
لكنها لا تريد من كارلا التراجع عن اكتشاف الحقائق...
ولهذا... ستخاطر بنفسها لأجل ذلك.
"سأذهب لأرى إن كان أصبح بإمكانك الخروج."
قالت كارلا وهي تنهض من جوار ماريا.
ابتسمت لها ماريا فخرجت الأخيرة من الغرفة على عجلٍ، بينما التقطت ماريا هاتفها وضغطت بعض الأزرار ثم تركته إلى جوارها.
كانت كارلا تبحث عن الطبيب المعالج لصديقتها كي تطمئن عليها منه، دقائق ووصلت إلى غرفته واطمئنت على حال ماريا لكن الطبيب لم يسمح لها بالخروج، وأخبرها أنها من الأفضل أن تبقى في المشفى لعدة أيام حتى تجتمع بصحتها.
لم تدري كارلا بماذا تجيب... بينما أدرك الطبيب حيرتها فصارحها بحقيقة أن صديقتها لم تكن تأكل جيدًا، كما أن جسدها من المؤكد أنه مرّ بشيءٍ غير مألوف لكنها لم تترك له الفرصة للراحة مما أدى إلى ضعفها وفقدانها توازنها.
تنهدت كارلا بقلق ثم سألته إن كان هناك أي خطرٍ على حياتها، لكنه نفى ذلك وأكّد أنها ما إن تحصل على الراحة والعلاج المناسبين ستكون بأفضل حال وستتمكن من مغادرة المشفى دون أي مشكلة.
عادت كارلا إلى غرفة ماريا ونقلت لها ما أخبرها به الطبيب وسألتها:
"أكان سفرك بحرًا هو الشيء الغير مألوف الذي مررت به؟ أكانت كذبةً أنك لم تعودي تتأثري بالبحر؟"
نظرت لها ماريا دون أن تجيب، لكنها أومأت بهدوء...
زفرت كارلا بضيقٍ وقالت تلومها:
"لماذا؟؟؟ ما الذي من الممكن أن يدفعك للتغاضي عن أكبر مخاوفك والمجازفة بالسفر بحرًا؟؟!"
استمرت ماريا في الصمت وهي تحدقُ في كارلا دون أن تستطيع إجابتها، لأن أيًا كان ما ستقوله الآن، ستتمسك به كارلا لتعلم منها حقيقة كل شيء...ففضلت الصمت، بينما استمرت كارلا في تأنيبها على المخاطرة بنفسها وكتمها للأمر عنها وعدم الإفصاح عما قامت به.
أمسكت ماريا بكفّي كارلا بين كفيها وقالت تهدئ من روعها:
"توقفي... لم يحدث شيء، أنا بخير!"
انزعجت كارلا بشدة وسحبت كفيها بغضبٍ ثم قالت:
"أنت بخير؟ إذا لمَ نحن في هذا المشفى الآن بحق الجحيم؟"
صمتت ماريا في محاولة لامتصاص غضب صديقتها لكنها لم تفلح، حيث أكملت كارلا دون توقف:
"أكاد أجنّ حقًا... لماذا قمتي بفعل شيءٍ كهذا؟!"
"وهل كنت سأظل أعاني من رهاب الماء للأبد؟"
قاطعتها ماريا بهدوء ظاهري.
نظرت لها كارلا بسخريةٍ تخبرها أن خدعتها بالرغبة في المواجهة لن تنطلي عليها وقالت:
"بجدية؟ أنحن صديقات الأمس؟ أنا أحفظك عن ظهر قلبٍ يا ماريا... أحفظك! وأعلم أنك من المستحيل أن تفضلي المواجهة على التملص منها!"
ابتسمت ماريا وقالت:
"لم يحفظ سجيتي أحد مثلكِ من قبل!"
بعثرت كارلا خصلات شعرها السوداء القصيرة بغيظ وقالت:
"هل تمزحين معي؟"
ثم نظرت لها بعمقٍ وقالت:
"لا تظني أنني لم ألحظ أنك تخفين شيئًا ما عنّي... أنا شرطيةٌ يا ماريا، تعلمتُ ملاحظة التغيرات الطفيفة في وجوه الجميع... أعلم جيدًا متى يحتفظ الشخص الذي أمامي بشيءٍ لنفسه."
ازدرت ماريا ريقها بتوترٍ، فهي تعلم صحة ما تقوله كارلا... وتعلم جيدًا أنها لو لم تكن كذلك لم تكن لتبرزَ في الأكاديمية متفوقةً على أقرانها جميعًا.
تابعت كارلا بهدوء يسبق العاصفة:
"ماريا... أنا أترك لك الفرصة كي تخبريني بما حدث، لا أريد أن أكتشف بنفسي أي شيء... كما أنني أحبذ أن تبوحي بأسرع وقت... إن كنت تعلمين أن ما تخفينه سيغضبني، فأنت تعلمين جيدًا ما يحدث عندما أغضب."
ثم خرجت من الغرفة.
بينما تنهدت ماريا بضيق وهي تقول:
"يا إلهي... أقسم أنني كنت على وشك التفوه بكل شيءٍ!"
ثم التقطت هاتفها وقالت: "أسمعت ما قالته؟"
"أجل، سمعت كل شيء!"
قال الطرف الآخر على الهاتف.
تنهدت ماريا مرة أخرى وقالت بحيرة واضحة:
"إذا؟ ماذا تنوي أن تفعل؟ أقترح أن نصارحها بكل شيء."
"هل جننت؟ لا نستطيع!"
قال الآخر.
زفرت ماريا بضيق وقالت بأسى:
"لمَ ينبغي أن تمر تلك الفتاة المسكينة بكل هذا؟ ماذا فعلت حتى؟!"
ساد الصمت لوهلةٍ ثم قال الآخر:
"إنها قوية... يتوجب عليها أن تنهي كل ما يحدث حتى تتمكن من العيش براحة، يجب أن تتحرر من الماضي لا أن تتجاهله، وبالتأكيد... ستتحرر."
خرجت كارلا من المشفى دون أن تعلم إلى أين تتوجه، كان الليل حالكًا وباردًا، والأفكار تعصف برأسها... أوقفت السيارة فجأة على جانب الطريق وعادت برأسها إلى الخلف وهي تغمض عينيها بإرهاق، تنهيدة متعبة خرجت منها دون إرادتها.
كادت تغرق في النوم وتنسى أين هي لكن صوت رنين هاتفها علا فجأة جعلتها تجفل وتفتح عينيها، التقطته كارلا بهدوء وهي تكاد تجزم بعلمها بالمتصل وأصاب حدسها فلم يكن سوى المجهول.
"ماذا؟"
أجابت كارلا.
"هل صديقتك بخير؟"
صمتت كارلا على غير عادتها ولم تتعجب مراقبته لها ثم تابعت بعد وهلة: "بخير."
التقط الآخر نبرة صوتها المتعب فسأل:
"وهل أنت بخير؟"
صمتت كارلا وقد قررت ألا تجيبه، لكنها وجدت نفسها تشكو إليه كما لو أنها لم تعد قادرة على مجاراة أي شيء.
تمتمت بإرهاق وصوت مرتجف:
"لا... لست بخير."
كاد أن يتحدث لكنها قاطعته:
"ماذا تريد؟ أجدّ جديد؟"
"قررت ألا أزيد الأمر عليك، ربما ينبغي أن أساعدك بطريقةٍ أفضل."
قال المجهول بعطف.
انتبهت كارلا له وقالت:
"وكيف ستفعل؟"
"سمعت أنك شرطيةٌ متميزة، لذا سأعطيك طرف الخيط وسيقودك إلى اكتشاف جزءٍ جديدٍ مما حدث... وأتمنى ألا تحتاجي إلى مساعدتي بعد الآن، وأتمنى... أن تقدري على تحمل القادم!"
قال المجهول موضحًا وهو يتوقع سعادة كارلا بما قال، لكنها سألته بغتةً:
"أنت تعمل بنفس المكان الذي أعمل أنه به أيضًا، صحيح؟"
"أجل!"
أعطاها إجابة مباشرةً على عكس ما توقعته، لكنها منذ أن فاجأته فقد كان قرر أن يفاجئها هو الآخر.
ابتسمت كارلا بسخرية وقالت:
"لم لا تفصح عن هويتك وحسب؟"
ساد الصمت فقالت كارلا:
"حسنًا... ما هو طرف الخيط الذي حدثتني عنه؟"
"الرئيس."
عقدت كارلا بين حاجبيها بدهشة وقالت:
"الرئيس؟ ماذا به؟"
"فلتبحثي في ملفات الرئيس الخاصة التي يحتفظ بها في مكتبه كارلا... ستجدين هناك شيئًا مرتبطًا بما أخبرتك به المرة السابقة، أتذكرين؟"
قال المجهول.
فأجابت كارلا بإدراك:
"من حيث انتهى كل شيء!"
"بالضبط."
أكد لها ما فهمته، ثم أنهى الاتصال على الفور،
فما يفعله الآن إن تم اكتشافه سيلقى حتفه لا محاله...
لكنها... تستحق أن تحظى بالسلام بعد كل تلك المعارك!
هكذا حدث نفسه،
وهكذا بقي يأملُ أن تظل قويةً إلى النهاية!

تحركت كارلا بسيارتها وهي تتذكر وجود الرئيس في الحفل الذي أقامه المحقق ستيفن وأنه لن يكون متواجدًا في مركز الشرطة بهذه الأثناء.
وصلت إلى المركز الذي تعجب بعض الأفراد المتبقيين فيه من وجودها، فالجميع قد ذهب إلى الحفل المقام لها. توجهت إلى حيث تقع غرفة الرئيس وحاولت الدخول لكنها كانت موصدةً بإحكام، زفرت بضيقٍ وعادت إلى الشرطي الذي يحمل بطاقات الغرف مبتسمةً وقالت:
"مرحبًا."
ابتسم لها الشرطي فقالت:
"تركت شيئًا بمكتب الرئيس وأخبرته أنني قادمة لاستعادته لكنني نسيت أخذ بطاقة غرفته منه، أيمكنك مساعدتي؟"
كان ذلك الشرطي موجودًا هنا من قبل، ويعلم كيف أن الرئيس وكارلا مقربين من بعضهما وعلاقتهما وثيقة، فأومأ لها على الفور وقال:
"بالطبع... تفضلي!"
ناولها بطاقة الغرفة فأخذته مبتسمةً وشكرته ثم عادت إلى الغرفة على الفور، وضعت البطاقة أمام مقبض الباب ففتح القفل بعد أن تحول للون الأخضر، نظرت كارلا حولها فلم تجد أحدًا فدلفت إلى الداخل بسرعة وأغلقت الباب من خلفها مجددًا.
وقفت في منتصف الغرفة تتذكر حديث المجهول، وتكرر برأسها:
"ملفات الرئيس الخاصة."
ثم توجهت على الفور إلى خزانته لتفتش فيها لكن لا شيء محض أوراق عمل لا تفيدها بشيء البتة، لم تيأس وتوجهت إلى مكتبه تفتحه وتقرأ كل ورقةٍ به إلى أن وصلت إلى أحد الأدراج المغلقة... نظرت له كارلا وحدسها يخبرها أنه المنشود، جثت على ركبتيها وحاولت فتحه فلم تستطع.

نهضت كارلا وأخذت تبحث هنا وهناك عن المفتاح، وحين لم تجده جلست خلف المكتب وأغمضت عينيها وقالت:
"فكري كارلا... إن كنت الرئيس أين كنت لتخفي شيئًا بمثل هذه الأهمية؟"
جالت ببصرها في زوايا الغرفة بتركيز تحاول توقع مكان المفتاح المخبأ، حتى استقر بصرها على إحدى الصور الموضوعة أمام الجالس خلف المكتب.
ابتسمت بظفرٍ والتقطتها بين يديها، ثم شرعت في إزالة الصورة وفصلها عن الزجاج، لتجد ما تبتغيه هناك... مفتاح صغير، كافٍ لحماية شيءٍ مهم، ومخبئٌ بعناية بعيدًا عن الأنظار.
فتحت كارلا الدرج لترى ملفًا غير معنونٍ قد وضع فيه، نظرت للعلامة الحمراء التي تعلو حافة الملف وضيقت عيناها بشك... فتحت الملف وحُبست أنفاسها جراء ذلك... فصورة والديها معلقةً في الصفحة الأولى... وقد كتب عليهما بخطٍ عريضٍ أحمر قد بهت بمرور الوقت (انتهى)!
في الحفلة، اقترب بيتر من ألبيرت يسأله:
"أين اختفيت فجأة؟"
ابتسم ألبيرت وقال:
"كان أمرًا طارئًا."
نظر له بيتر بشك لكن ألبيرت لم يفصح عن شيءٍ، فقال وهو يشيح بوجهه ويتفقد كارلا في جميع الأرجاء:
"أيًا يكن... أين هربت صاحبة الحفلة؟"
بحث معه ألبيرت وقال مستنتجًا:
"يبدو أنها غادرت بالفعل."
شعر بيتر بالقلق يراوده فربت على ذراع ألبيرت واتجه إلى حيث يقف المحقق ستيفن وقال برسمية:
"مرحبًا سيدي... كنت أتساءل لو بإمكانك إعطائي رقم هاتف كارلا."
ابتسم له ستيفن وقال بعد أن تفرس في وجهه، ولمح القلق يتراقص بعينيه رغم الجدية التي أتقن رسمها على وجهه:
"بالطبع... هاك!"
ثم أملاه رقم هاتفها، أخذه بيتر وشكره ثم وقف بعيدًا عن الجميع وأخذ يطرق بأصابعه فوق ظهر أحد المقاعد وهو يقول:
"فلتجيبي يا فتاة."
لم تجبه فأعاد الاتصال بقلق أكبر، وحين كاد ينهيه أجابت بصوتٍ مرهق:
"أجل؟"
أجفل من صوتها المنخفض والمصدوم، فتراجع عن زجرها وناداها بهدوء يتفقدها:
"كارلا؟"
بينما أجابت كارلا مجددًا كالمنومة:
"أجل؟"
الآن تأكد بيتر أن بها خطبًا ما، فسألها:
"كارلا؟ ماذا بك؟ وأين أنتِ؟"
ساد الصمت فشعر بيتر بأن الخطب جلل، فما الذي قد يمنع كارلا من الرد عليه بعجرفتها المعتادة وجنونها المعتاد، كاد ينبهها حين شعر أنها غير قادرة على الحديث وعلى الرغم من ذلك، أتاه صوتها خافتَا متألمًا وهي تقول:
"أين أنا؟ ... أنا أقف أمام النهاية!"
لم يفهم بيتر حديثها لكن شيئًا ما جعله يخرج من الحفل راكضًا...
ممتنعًا عن إنهاء الاتصال بها...
رافضًا تركها بمفردها...
على الرغم من أنها لم تبدِ حاجتها إلى وجوده في المقام الأول!

**** 

قلبٌ دامٍ (رواية مكتملة)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن