الفصل الرابع عشر

41 6 0
                                    


جلست كارلا خلف مكتب هيوغو تنظر للمقطع المرئي بهدوء...
تتوالى الصدمات منذ أن فتح جدها فاهه أمام هيوغو،
شعرت بغليان الدم في عروقها،
بينما كانت آنا تقف على مسافةٍ منها تنظر إلى وجهها بهدوء غريب...
كأنها تريد أن ترى كيف ستتقبل كارلا كل ذلك!
انتهى العرض وبقيت كارلا مشدوهةً لا يرف لها جفن، اقتربت منها آنا ووضعت كفها على كتف كارلا وقالت بترقب:
"ماذا ستفعلين؟"
نظرت لها كارلا دون أن يبدو أنها حتى تراها فلقد كان جل ما تراه هو وجه هيوغو الملطخ بالدماء!
نهضت فجأة وخرجت من الغرفة دون حديث، تبعتها آنا وأخرجت هاتفها وقالت:
"اتبعوني إلى منزل السيد الأكبر... على الفور!"
ثم خرجت راكضةً من الغرفة تلحق بكارلا، لكنها وجدتها قد تحركت بسيارتها بسرعةٍ جنونيةٍ أثارت الكثير من الغبار خلفها.
قادت كارلا سيارتها إلى شقتها ودلفت إلى الداخل على الفور، أخرجت سلاحها من حيث وضعته ونظرت له بغضبٍ وعيناها جمرتان تكادان تحرقان ما تنظران إليه، ثم قبضت عليه بقوةٍ بيدها وخرجت من شقتها وهي تقول:
"سأقتله!"
ركبت سيارتها وتوجهت بأقصى سرعةٍ إلى المبنى الخاص بجدها.
كان الليل ساكنًا ولا أحد يجوب الأرجاء...
فلقد اقترب الليل من منتصفه ويسود الصمت على المكان،
لكنه لم يدم طويلًا... فصوت احتكاك عجلات سيارة كارلا أصدر صوتًا مرتفعًا مزعجًا قام بتنبيه الحراس الذين أتوا يتفقدون مصدر الصوت.
ترجلت كارلا من السيارة وأغلقت بابها بعنفٍ، ثم سحبت سلاحها وسارت تجاه الحراس الذين كادوا يبتسمون لها، لكنهم حين رأوا سلاحها أشهروا هم الآخرون أسلحتهم بتردد وعلى وجههم علامات القلق وعدم الفهم.
صاحت كارلا تحذرهم وهي تسير غير عابئة بهم:
"لا تتدخلوا!"
دخلت إلى المبنى فبدأ الجميع في التحرك والتأهب لأي فعلٍ يصدرُ منها.
في غرفة الجد،
كان يقف أمام النافذة المطلة على البوابة الحديدية لحديقته المسيجة أسفل المبنى، من حيث دخلت كارلا مهتاجةً لا ترى أمامها، كان يقف خلفه الشقيقان مستعدان لأي شيءٍ طارئ وقد رأوا أيضًا كارلا في كاميرات المراقبة التي وضعت أعلى سياج الحديقة.
نظر كاي إلى إيلينا بقلق بينما ظلت هي تحدق في كارلا وهي تنتقل من شاشةٍ إلى أخرى، من يراها يظن أن هناك ثأرًا قديمًا بينها وبين كارلا، في حين عاد الجد إلى مقعده بهدوءٍ وهو يتمتم متسائلًا:
"هل علمت الحقيقة كاملةً أم أنها مندفعةٌ جراء جزءٍ جديدٍ قد علمته يا ترى؟!"
اقتحمت كارلا الغرفة مشهرةً سلاحها في وجه جدها، فأخذت إيلينا تصوب تجاهها سلاحها هي الأخرى وتبعها شقيقها، رأتهم كارلا فابتسمت بسخرية ولم تلق لهم بالًا واقتربت من الجد بقوةٍ وغضب.
كانت إيلينا تنظر لكارلا التي تتقدم دون خوفٍ بطرف عينها ثم تنظر إلى سيدها تنتظر أمره بإيقافها لكنه لم يتحدث، بل ظل ينظر إلى كارلا بهدوءٍ، مما جعل الأخيرة تغلي من الغضب فاقتربت منه أكثر وقد علت وجهها نظرات القسوة والضيق.
سأمت إيلينا من انتظار أمر سيدها وهي ترى كارلا تكاد تكون على بعد خطوات منه، فأطلقت رصاصةً محذرةً أسفل قدمي كارلا.
توقفت كارلا مكانها تنظر لأثر الرصاصة على أرض الغرفة، بينما وقف الجد صارخًا ينهرها عن إيذاء حفيدته:
"إيلينا!!!"
لم تنظر له إيلينا بل قالت بصرامة:
"حمايتك هي مهمتي يا سيدي، وأنا سأقوم بمهمتي حتى لو رفضت مساعدتي!"
نظر إليها كاي بقلق واقترب منها قائلًا بصوتٍ خافت:
"لا تهذي واستجمعي نفسك، إن نهاك سيدك فوجبت عليك طاعته!"
لم تستجب إيلينا لكلمات أخيها، فضحكت كارلا وعلت ضحكاتها... ثم قالت وهي تنظر إلى إيلينا دون أن تخفض سلاحها:
"تذكرينني بنفسي... وأتعلمين ماذا؟"
اتسعت ابتسامتها ببطء وقالت:
"تروقين لي!"
ثم تابعت السير وقالت وقد أعماها الغضب:
"لكن يال الخسارة! تقفين في الجانب الخطأ... تحمين رجلًا يحمي من قتل ابنه وزوجته... تحمين وغدًا ذا وجهين... لا! بل من يدري كم وجهًا يملك!!!"
لم يبدو على إيلينا الاهتمام، بينما بدا على آخر... كان كاي يقف إلى جوار شقيقته مشهرًا سلاحه تجاه كارلا بتردد، لكنها حين تحدثت زادت من تردده وقلقه.
تابعت كارلا التقدم رغم رؤيتها لإيلينا على وشك إطلاق رصاصةٍ أخرى، فقررت استباقها وأطلقت رصاصةً مرت بجوار كتف إيلينا فخدشته.
تألمت إيلينا لكنها أبت أن تتوقف عند هذا الحد فأطلقت رصاصةً على كتف كارلا تفادتها الأخيرة بسرعة ومهارة، لكنها لم يكن لديها فرصة في تجنب الثانية فأصابت ذراعها... ما إن رأى الجد دماء كارلا حتى صاح بغضب:
"فلتتوقفوا بحق الجحيم!"
أجفلت إيلينا من صراخه، فهذه هي المرة الثانية التي تسمع فيها هذا الصوت الغاضب من سيدها الهادئ الصبور، ولقد بدا صوته لها كزمجرةٍ تحذرها من إخراج أي رصاصة أخرى من فوهة سلاحها!
بينما نظرت كارلا إلى دمائها وتجاهلتها،
استقرت الرصاصة بذراعها لكنها لا تشعر بالألم...
فهو هين وسهل مقارنةً بألم الخيانة التي تشعر به لازال يحرقها منذ أن رأت مقطع الفيديو ذاك!
حاول الجد الاقتراب منها بقلق لكنها صرخت به وعادت تشهر سلاحها في وجهه بتهديد:
"لا تقترب!"
ناداها الجد وقلبه يعتصر من القلق وهو ينظر إلى دمائها التي تقطر من ذراعها:
"كارلا.."
"لا تجرؤ على مناداتي... ألا تخجل من نفسك!"
صاحت به كارلا وحدقتاها تحولتا للون الأحمر ثم تابعت باشمئزاز:
"أيها القاتل اللعين!"
توقف الجد عن محاولة الاقتراب منها وتصلب جسده...
فتابعت كارلا والغضب يأكلها من الداخل:
"كيف جرؤت على ذلك؟ أتأتي لهيوغو وتهدده أن يبقى بعيدًا عني؟ أتخبره أنه إن لم يتوقف حيث هو سيفقد حياته؟"
تجمدت ملامح وجهه الجد بعد أن ملأت عيناه نظرةٌ باردةٌ وأطلت من أسفل حاجبيه الكثيفين، تابعت كارلا بصراخ وألم الرصاصة القابعة في ذراعها ينبض بشدة، والتصقت خصلات شعرها بجبينها من أثر حبات العرق الباردة التي نبتت عليه بغزارة:
"وقتلته! كما قتلت أبي وأمي... كيف؟ كيف قتلتهم بدمٍ بارد؟!"
وهنا تخلى الجد عن صمته وقاطعها الجد بقوة:
"أنا لم اقتلهم! كيف أقتل ولدي وزوجته!"
"هراء! أنت تتستر على القاتل، إذا أنت شريكه!"
صرخت كارلا وقد جن حنونها لجرأته على التحدث بل محاولة الدفاع عن نفسه!
كانت تصرخ بألم،
تشعر كأن هناك لهيبًا قد نشب بصدرها ولا تستطيع إخماده،
لا هي ولا أي شخصٍ آخر
تابعت باندفاع وقد أطلقت العنان مرغمةً للفتاة التي بداخلها تؤنب جدها وتستنكر عليه فعله، بينما تنهال دموعها دون توقف:
"تسترت عليه ولازالت تتستر عليه وتجرؤ على الوقوف أمامي... كيف!!
ألهذا كنت ودودًا معي؟؟
ألهذا اعتنيت بي كل هذا الوقت؟؟
أكنت تحاول تقييدي ومنعي من البحث عن القاتل؟؟
ألهذا لم ترفض طلبي بالعمل بنفس المكان الذي عمل فيه والداي؟
كنت تعلم أنني سأبحث عن أي شيءٍ يخصهما وقد مهدت لي طرق البحث حتى أصل لنتيجة أنت من قمت بصياغتها وهي أن كل شيء كان حادثًا!
اهتممت بدقة صياغتها وجعلها حقيقةً كفايةً حتى أتوقف عن البحث... صحيح؟!"
اقتربت منه على حين غرةٍ ووضعت فوهة سلاحها فوق قلبه، فانتبهت إيلينا لما تفعله وركضت تصوب سلاحها تجاه جانب رأس كارلا التي لم تهتم لها البتة بل تحدث جدها بغضب عارم يعمي بصيرتها:
"حاولت إقناعي أن انفجار سيارتهم وتحولهم إلى أشلاء أمام عيني كان حادثًا... أتراني لو فجرت قلبك الآن عمدًا وتناثر بأرض الغرفة سيكون حادثًا أيضًا؟!"
ابتسم لها الجد بحنو وأغمض عينيه بهدوء فنظرت لوجهه بصدمة،
هو لا يخافها؟!
كيف؟!
كادت أن تتحدث لكن صوت الاشتباكٍ والأعيرة النارية بالخارج استرعى انتباههم جميعًا، ثوانٍ ودخلت آنا إلى الغرفة بهيمنةٍ يتبعها الكثير من الرجال الذين فاقوا أتباع الجد عددًا وقوةً فاقتربت منه آنا وقالت آمرةً كارلا:
"دعيه!"
نظرت لها كارلا بطرف عينيها تتعجب أمرها لها، لكنها عادت تنظر إلى جدها الذي اتقدت عيناه بشرارةٍ حين رأى آنا، ثم قالت بألم:
"سأقتله، الدم بالدم."
أجابت آنا بحقدٍ دفين تشعر به كارلا للمرة الأولى في كلماتها، وقد تحول صوتها لفحيحٍ غريبٍ يتسلل إلى أذني كارلا:
"أنت على حق، سيُقتل... لكن ليس اليوم!"
ثم نظرت إلى ذراع كارلا الغارق بالدم وقالت بصوتٍ خالٍ من القلق:
"تأتي معالجة جرحك كأولويةٍ الآن!"
لا تعلم لمَ شعرت كارلا بأنها غير مرتاحةٍ لحديث آنا ولكنها كانت تشعر أنها وصلت لحدود قدرتها على التحمل وبقواها تتهاوى فأطاعتها ونزعت سلاحها من صدر الجد وترخي قبضتها ثم قالت:
"تأكد من أنني سأعود!"
خرجت كارلا من الغرفة برفقة آنا التي كانت تمنح لها كتفها كي تستند عليه رغم أنها لا تحتاجه، خرجتا من المكان بأسره وابتعدتا بقدر الإمكان عن الجد وأتباعه.
أخذتها آنا إلى شقتها لتجدا ماريا تجلس أمام الباب وقد أغرقت وجهها بالدموع، نظرت لها كارلا من علوٍ وابتسامةٌ مرهقةٌ ترتسم على وجهها فور رؤيتها، بينما نهضت ماريا بذعرٍ حين وقع بصرها على ذراع كارلا.
قالت ماريا بذعر وهي تمسح وجهها:
"ماذا حدث؟ لم أنتِ مصابة؟"
لم تجبها كارلا بل بدت كما لو أنها تريد قول الكثير لكنها لم تفعل وعوضًا عن ذلك فقدت وعيها وكادت ترتطم بالأرض لولا أن التقطتها ذراعي ماريا سريعًا، ثم صاحت بوجه آنا:
"فلتقومي بفتح هذا الباب."
فتحت آنا الباب فحملت ماريا كارلا بين ذراعيها بمساعدة آنا ودخلتا تضعانها على الأريكة القريبة وماريا تحاول إفاقتها، ثم قالت تحدث آنا:
"حرارتها مرتفعةٌ للغاية، أحضري بعض الماء البارد."
لم تشعر بحركةٍ حولها فالتفتت للخلف لتجد آنا تقف مكانها لم تخطو خطوةً واحدةً لتفعل ما أخبرتها به ماريا، سألتها ماريا بتعجبٍ مخلوطٍ بعدم الفهم:
"لماذا تقفين عندك؟ ألم تسمعيني!"
تحركت من مكانها وأحضرت بعض الماء ومنشفة قد وجدتها في طريقها، جلست إلى جوار كارلا وبللت المنشفة ثم وضعتها بهدوءٍ على جبين كارلا.
تململت ماريا في جلستها وقالت:
"حين تستيقظ كارلا لن تريد رؤيتي... أخبرتني بالفعل أن أعود من حيث أتيت."
عقدت آنا ما بين حاجبيها بعدم فهم وقالت:
"ماذا!"
صمتت ماريا لوهلةٍ تتأملُ كارلا ثم نهضت من مكانها وأخذت تبحث عن شيءٍ تسعفُ به جرح كارلا الغائبة عن الوعي.
حانت منها التفاتة إلى وجه كارلا المتعرق فنظرت لها ماريا بحزنٍ وتردد، لا تستطيع تحمل أن تشيح عنها كارلا بوجهها، ولم تكن تخطط للاصطدام بها الآن... على الأقل حتى تهدأ قليلًا، ولكن ما حدث لم يكن في الحسبان!
فهمست تحدث نفسها وهي تحسم أمرها:
"حتى وإن كنت لا ترغبين برؤيتي... لن أتركك في هذا الوضع."
ثم أخرجت صندوق الإسعافات الأولية وجلست تطهر جرح كارلا بحذر وتخيطُه ثم تضمده، تحت أنظار آنا التي تجاهلتها وهي تقوم بتثبيت ذراع كارلا بيدٍ والأخرى تضعها فوق المنشفة القطنية الصغيرة المستقرة فوق جبين كارلا، انتهت ماريا وأطلقت تنهيدةً حارةً ثم قالت:
"يفترض أن تتحسن من الآن وصاعدًا."
"متى ستفُيق؟"
سألت آنا بهدوءٍ غير مناسب أبدًا للموقف.
نظرت إليها ماريا ثم إلى كارلا التي بدأ وجهها في الارتياح وقالت:
"لا أعلم!"
أومأت آنا برأسها وقالت تتأمل وجه كارلا:
"لم تحظ بقسطٍ من الراحة منذ أن عادت من المشفى سوى بضع دقائق."
صُدمت ماريا مما سمعته، فهي تعلم التوتر المحيط بكارلا لكن مجددًا... يبدو أنها لا تعلم سوى القليل.
سألتها آنا بتفحص:
"هل أنت طبيبة؟"
نظرت لها ماريا تتفحصها، لا تعلم لمَ ليست مرتاحة لها، أجابت على أي حال:
"أجل..."
عادت ببصرها إلى كارلا النائمة وقد انتظم تنفسها وأعادت تبريد المنشفة ووضعتها مرةً على جبين كارلا، ثم جلست أرضًا وأسندت رأسها على طرف الأريكة وظلت تنظر إليها بشرود وهي تتساءل...
هل ستعيد كارلا إبعادها عنها؟
أم أن هناك فرصةٌ لإصلاح الأمور بينهما!

****

قلبٌ دامٍ (رواية مكتملة)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن