الفصل السادس

49 5 0
                                    

دخل الرجل إلى الغرفة مبتسمًا لكارلا بودٍ شديد، بينما وقفت كارلا تنظر تجاهه، لا تصدق أنها تواجه نفس الأشخاص مرة أخرى وتساءلت إن كان القدر يسخر منها!
اقترب منها ومدَّ يده يصافحها فعادت كارلا إلى رشدها وصافحته مرحبةً:
"مرحبًا سيدي."
ربَّت الرجل على يدها بكفه الآخر وقال:
"مرحبًا يا عزيزتي، كيف كان حالك؟"
"بخير سيدي، شكرًا لك."
أجابت كارلا وهي تومئ برأسها.
ألقت نظرةً على ألبيرت الذي كان يقف باحترامٍ، فهذا الرجل هو رئيس مركز الشرطة الذي يعمل ويقفون به، نظر الرئيسُ إلى حيث تنظر وقال:
"فلتسترخي ألبيرت."
رفع ألبيرت نظرهُ إليه وقال شاكرًا:
"شكرًا لك سيدي."
أعاد الرئيس بصره لكارلا قائلًا:
"ما رأيك أن ترافقيني لبعض الوقت في مكتبي؟"
شعرت كارلا أنها لو رفضت الآن فلربما تفوت فرصةً عظيمةً للإيجاد ما تبحث عنه، فابتسمت مبديةً موافقتها.
التفت الرئيس إلى الخلف وقال:
"بيتر، سنكمل حديثنا فيما بعد."
ثم نظر إلى كارلا مرةً أخرى وقال بابتسامةٍ عريضة:
"أما الآن فلا أستطيع القيام بشيءٍ سوى رؤية كارلا... فالمرءُ لا يصادفها كل يوم!"
نظرت كارلا خلفه لترى بيتر يناظرها بشك، لو كانت رأته قبل أن يعرض عليها الرئيس الذهاب إلى مكتبه لكانت هربت من المكان بأسره، لا تعلم لمَ تشعر أن بيتر على وجه الخصوص يمثل تهديدًا لها، على الرغم من أنها لم تتصادم معه سوى مرةٍ واحدة، على عكس صديقه ألبيرت تمامًا.
شعر بيتر أن الصمت قد طال وربما إن لم يقطعه الآن سيستمر طويلًا فقال:
"حسنًا سيدي، سأنتظر برفقة ألبيرت."
"جيد."
قال الرئيس وهو يأخذ كارلا بعيدًا ويسحبها معه يدًا بيد إلى خارج الغرفة، وهو يربت على كفها بين الحين والآخر، شعرت الأخرى بالحرج، فمن يرى كفها بين كفيه يظن أنها ربما تكون ابنته أو حفيدته، ولكنهما في الحقيقة ليسا سوى رئيسٍ ومرؤوس.
هذا كانت تحاول إقناع نفسها، بينما كان الرئيس يقيمها مقام ابنته...
أو هكذا يقول!
وقف ألبيرت إلى جوار بيتر ينظران إلى الرئيس وكارلا وهما يغادران بتعجب، فكيف لان رئيسهم الصارم الحازم في ثانيةٍ حين رأى وجه كارلا.
"من أين يعرف الرئيس كارلا؟"
سأل بيتر بتعجب.
"لا أعلم."
أجابه ألبيرت بهدوء.
صمت بيتر لوهلةٍ ثم عاد يسأل:
"أتعتقد أنها مشبوهةٌ أم أنني الوحيد من يظن ذلك؟"
تنهد ألبيرت بقلق ثم نظر إلى صديقه وقال:
"بيتر! لقد سبق وخضنا هذا الحديث من قبل واتفقنا ألا نعبث بأمر تلك الفتاة!"
أومأ بيتر برأسه فربت ألبيرت على كتفه وقال:
"سأعود إلى مكتبي، لا تأخر."
ثم استدار راحلًا فتمتم بيتر:
"أجل اتفقنا ألا نعبث ولكنني سأعبث!!"
كانت كارلا تجلسُ على الأريكة الجلدية وقد وضع الرئيس على الطاولة أمامها بعض قطع الشوكولا وخرج يأمرهم بتحضير بعض القهوة لهما ثم عاد يجلس إلى جوارها.
نظر إليها بسعادةٍ وقال:
"إذًا كارلا، كيف كنتِ؟"
"بخير، كنت بخير، أشكرك على السؤال."
أجابت كارلا بسرعة.
ابتسم لها الرئيس وقال:
"سعيدٌ لسماع ذلك، أردت كثيرًا الاطمئنان عليك لكن بعد أن..."
"أنا حقًا بخير."
قاطعته كارلا بسرعةٍ قبل أن يسترسل في الحديث.
شعر الآخر أنها لا تريد الحديث عن الماضي أو حتى ذكره في الحديث فتنهد بقلة حيلة، لا يعلمُ هل تجاوزته أم قامت بتجاهله وحسب ظنًا منها أنها ستتخلص منه، لكنه يعلم جيدًا أنها تهرب من المواجهة.
"تعلمين أن الهرب لن ينجيكِ كارلا... يجب أن تنسي ما حدث وتتجاوزيه."
قال الرئيس بحزن.
"أعلم!"
قالت كارلا وهي تنظر إليه مباشرةَ.
دهش الرئيس لكن ابتسامةً واسعة سرعان ما ارتسمت على وجهه فقال بحماس:
"أتعنين أنك قد قررت..."
"لا!"
ومرةً أخرى قاطعته كارلا وقد بدأت تهزُ قدمها بتوترٍ، ثم تابعت:
"تعلم أن هذا لا مجال لحدوثه."
اختفت ابتسامة الرئيس وانطفأ حماسه دفعةً واحدةً فساد الصمت على المكان، شعرت كارلا أن توترها يزداد فنهضت قائلةً:
"سيدي، أرجوك لا تقلق حيالي، وأرجو أن... تتركَ هذا الأمر للوقت كي يعالجه."
"يجب أن تعودي إلى حيث تنتمين كارلا، أخشى أن تجرك الحياة إلى بقعة لا تناسبك ولا تستطيعي الهرب منها."
قال الرئيس بعقلانية.
نظرت كارلا إلى وجهه الحزين فشعرت بالاختناق وقالت:
"كما قلت... فلتترك الأمر للوقت سيدي، والآن اعذرني يتوجب عليّ الرحيل."
ثم انحنت له باحترام وخرجت من الغرفة.
ما إن سحبت باب الغرفة للداخل حتى تراجع بيتر للخلف مبتعدًا عن الباب ومتظاهرًا بأنه لم يكن يسترق السمع لهما.
نظرت له كارلا بشك وسألت:
"أكنت تسترق السمع؟"
"لا!"
أجاب بيتر على الفور.
ارتسمت ابتسامةٌ ساخرةٌ على وجهها ثم قالت:
"أتعلم ماذا تقول لغة جسدك؟"
"ماذا؟"
سأل بيتر بفضول.
"أنك تكذب!"
أجابته كارلا ثم التفت له مغادرةً من أمام غرفة الرئيس وتاركةً بيتر خلفها لكنها توقفت بعد بضع خطوات ثم التفتت له قائلة:
"أتعلم أين تقع الخزانات الخاصة بضباط الشرطة؟"
نظر لها بيتر بتعجب ثم قال:
"لم تبحثين عنها؟"
"أرشدني إليها!"
قالت كارلا بنفاذ صبر.
لم يتحرك بيتر فصاحت به:
"هيا!"
تحرك بيتر وسار أمامها يحاول العثور على إجابةٍ للسؤال الي طرحه هو عليها لكنها لم تجبه، شيءٌ ما ينبهه أن يراقبها جيدًا ويتابع عن كثبٍ ما تفعله.
وصلا إلى القسم الخاص بخزانات الضباط والذي كان يحتوي على غرفتين متقابلتين، إحداهما للضباط العامين والأخرى لأولئك الأعلى رتبةً، هؤلاء من يهتمون بقضايا القتل والاشتباكات المباشرةً.
أشار بيتر لغرفة الضباط العامين وقال:
"هذه هي الغرفة."
نظرت كارلا حولها لتجد أن كل شيءٍ لا زال كما هو ولم يتم تغييره، لو علمت ذلك ما كانت لتطلب مساعدة بيتر أبدًا، تجاوزت بيتر وتوجهت إلى باب غرفة الضباط الأعلى فعقد بيتر بين حاجبيه وسألها:
"لماذا تقفين هناك؟"
نظرت له كارلا بلا مبالاةٍ ثم حاولت فتح الباب لكنه كان مغلقًا فقال بيتر ساخرًا:
"تحتاجين لبطاقةٍ خاصةٍ كي تلجي تلك الغرفة."
أخرجت كارلا من جيب بنطالها الخلفي بطاقةً سمراء ولوحت بها له ثم وضعتها أمام مقبض الباب ففتح القفل.
فغر بيتر فاهه بدهشة وقال:
"كيف تملكين..."
لكنه لم يكمل كلماته فكارلا دخلت وصفعت الباب خلفها دون أن تحاول الاستماع أو التفسير له.
وقفت كارلا في الغرفة تتنفسُ هوائها الرتيب وتنظرُ إلى زواياها وعيناها ممتلئتان بنظرةٍ غريبةٍ للرائي، سارت بخطوات هادئة تتعمقُ بقلب الغرفة، تتأمل الخزانات المغلقة بهدوء...
رفعت أناملها ووضعتها فوق إحدى الخزائن ثم سحبتها خلفها وهي تسير إلى الداخل إلى أن وصلت إلى خزانةٍ بدا أنها لم تفتح منذ مدةٍ لا بأس بها، مسحت فوق بطاقة الاسم لتلمع عيناها وتشرد لثوانٍ كأنها تستعيد بعض الذكريات القديمة.
أطلقت تنهيدةً حارةً وتحسست حروف اسمها المنقوشة فوق البطاقة على سطح الخزانة ثم تمتمت ببطء:
"من النهاية إلى البداية... إن لم تكن هذه هي النهاية فأنا لا أعلم أي نهاية كان يقصد هيوغو."
رفعت البطاقة التي استقرت بيدها اليمنى مرةً أخرى تضعها فوق مقبض الخزانة، ثوانٍ وانطلق ضوء أحمر على البطاقة يعود للماسح الضوئي، ثم أضاء بالأخضر وفتحت الخزانة!
ملأت كارلا رئتيها بالهواء وفتحت الخزانة تتفقد الأشياء التي بالداخل،
زيٌ رسمي...
وبطاقةٌ تعريفيةٌ قد جفت الدماءُ عليها...
مقتنياتٌ تركتها خلفها...
حتى أنها لم تتكبد عناء استردادهم!
قلبت الخزانة لكن دون جدوى، أغلقتها مجددًا وهي تهمس:
"حسنًا... ليس هنا، كنت أعلم أنني لم أخطئه."
ثم أسندت رأسها إلى الخزانة وقالت بتساؤل تحدث نفسها:
"ولكن من له السلطة لفتح خزانتي؟ كيف أُخرج منها؟"
أيقظتها طرقات بيتر الشديدة على الغرفة فخرجت بسرعة تغلق الغرفة ورائها، ثم قالت:
"ماذا حدث؟"
"لا شيء، بقيتِ في الداخل فقط لفترةٍ طويلة."
أجاب بيتر بحنق.
تجاوزته كارلا عائدةً من حيث أتت لكن بيتر لحقها وهو يسأل:
"كيف تملكين بطاقةً للدخول إلى تلك الغرفة؟"
لم تجبه كارلا بل أسرعت بخطواتها حتى قاربت الركض وهو لازال على حاله يسأل:
"من أين يعرفك الرئيس؟"
خرجت كارلا من مركز الشرطة فصاح بيتر:
"من أنتِ بحق السماء؟"
توقفت كارلا مكانها كأن قدميها قد تصلبتا، ثم نظرت له بغموض واستدارت مرة أخرى تجاه سيارتها ثم ركبتها وأغلقت الباب خلفها بقوة.
نظر بيتر لها وهي تستقل سيارتها ثم وضع يديه في خاصرته وقال بضيق:
"وها هي تهربُ مجددًا!"
عاد إلى الداخل بعد أن اقتلع نظراته عنها يمتنع عن متابعتها وهي تغادر، لكن آخرًا لم يفعل... وقف يتابع الغبار الذي تثيره إطارات سيارتها إلى أن اختفت عن الأنظار فرفع هاتفه وقال:
"لقد غادرت."
سارت كارلا بسرعةٍ شديدةٍ إلى أن وصلت إلى البناية التي يقع بها مكتبُ هيوغو فأوقفت السيارة على حين غرةٍ حتى صدر صوت صفيرٍ عالٍ إثر احتكاك الإطارات بالطريق.
ترجلت من سيارتها ودخلت إلى المصعد بسرعة، من يراها يظن بأنها تهرب من شيءٍ ما، لكن لا شيء خلفها، كُل ما في الأمر أن أشباح الماضي تتراقص أمام عينيها بجنون.
دخلت إلى الغرفة فقالت آنا:
"مرحبًا آنستي."
"مرحبًا آنا."
ردت كارلا بجمود وهي تجلس فوق الكرسي خلف المكتب الواسع.
ثم أردفت:
"آنا، هل أنهيت ما طلبته منك؟"
"أجل آنستي، كنت على وشك إرسالهم لك."
أجابت آنا بعملية وهي تشفق على كارلا، فهيئتها وعيناها تثير القلق.
سألت بهدوء:
"هل أنت بخيرٍ؟"
أومأت كارلا برأسها ثم نهضت وقالت:
"فلترسليهم لي الآن آنا، أريدهم أن يكونوا بحوزتي قبل أن أصل إلى المنزل."
"فهمت."
أجابت آنا بخضوع.
خرجت كارلا من الغرفة،
بل من المبنى بأكمله،
تشعر أنها محاصرةٌ بين الكثير من الألغاز،
وأكثر ما يثير حنقها وضيقها... أنها تشعر أن ثمة شخصٌ ما يراقبها،
بل شخصٌ يسبقها بخطوةٍ ويتلاعب بها كدمية ماريونيت!
عادت بسيارتها إلى المنزل لتجد هاتفها يرن، شعرت بتحفزٍ وأجابت الاتصال وقالت:
"من أنت؟"
"سأعيدها، لا تعبثي بالماضي كارلا، لستِ قادرة على تحمل العواقب."
قال الصوت المجهول.
"بئسًا لك، فقط أخبرني من أنت!"
صاحت كارلا بغضب.
"أنا؟ أريد حمايتك كارلا"
اتسعت عينا كارلا دهشةً وقالت:
"تحميني من ماذا؟؟؟!"
ساد الصمت لثوان قبل أن يقطعه المجهول قائلًا:
"منكِ... كارلا!"

****

قلبٌ دامٍ (رواية مكتملة)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن