الفصل الخامس ( رسائل دموية)

1K 50 19
                                    


الفصل الخامس

ليلة الرسائل الدموية …….

✰✰✰✰✰.
كم مرة يمكن للإنسان أن يفقد عقله بينما تهتز الأرض  من أسفل قدميه، وتتهاوى كل الحصون الشامخة من


حوله، ويتساقط البشر من السماء كرذاذ ملون يدفعه ليفتح كفيه ليستقبل
الغيث ظنًا منه أنه مجرد مطر غزير أتى  دون موعد …..
✰✰✰✰✰.

مقبض جدًا ذلك السقوط الذي تجد ذاتك في مواجهته دون سابق إنذار تتهاوى من عليائك نحو الدرك الأسفل من الإنسانية وما بين قمة يقينك الذي تفتت

وقاع ريبتك الذي تعمق تمر برحلة من الخيبات تجعلك متهيأ للحظة الارتطام
التي ربما ينتج عنها موتك وميلاد شخص آخر …شيء آخر …ميلاد الوحشية الممنهج، تنفس شهاب بانفعال بات لا يفارقه بالآونة الأخيرة والخطوط  التعبيرية حول عينيه تزداد حدة وتوغلًا في ملامحه التي كأنها تكهل بمعدل أسرع من معدل البشر وهو راضخ لا يقاوم ذلك أبدًا بل يزيد الأمر سوءًا

بعبوسه الدائم وتجهمه الذي بدأ الجميع ملاحظته والتعليق عليه، ومن حوله هناك غيمة عنيفة من دخان السجائر التي لا يتوقف عن تدخينها بشراهة كأنما يخرج احتراق خلاياه في احتراق النيكوتين الذي يعبر منها إليه، عيناه تجري ما بين الأوراق التي أمامه وعقله تعم جوانبه فوضى أججها العجز، الجرائم مبهمة بشكل يثير جنونه، لا دليل واضح، ولا إشارة واحدة ترشده للنقطة التي عليه أن

يأخذ خطوته الأولى منها، رفع شهاب رأسه وزفر دخان السيجارة الأخيرة والتي كادت أن تنتهي بين أصابعه ليفتح باب مكتبه فجأة ويدخل منه الضابط دياب الذي عقد حاجبيه وهو يغلق الباب بحدة ثم تحرك نحو النافذة ليفتحها بغضب وهو يقول بخشونة " منظر الغرفة يلائم وكر ممنوعات أكثر منها غرفة لضابط محترم " لم يرد شهاب عليه بل زغره بنظرة باردة وهو يطفيء السيجارة التي بين إصبعيه

ويغلق الملف الذي أمامه بعنف ثم يعود ليتابع شروده فتحرك دياب ليجلس على المقعد المقابل له وظل يتأمله بصمت ليلتفت له شهاب فجأة ويسأله " هل هناك أمل أن أطّلع على تقرير الطب الشرعي الليلة " قال له دياب وهو يسحب الملف المغلق نحوه ويبدأ بتفقده بمنتهى الهدوء " التقرير وصلني منذ بعض الوقت بالفعل " ظهرت الصدمة على وجه شهاب الذي رفع عينيه نحو ساعة

الحائط المعلقة بمكتبه وقد شعر لوهلة أن الغرق في التفكير أفقده الشعور بالوقت ليقول له دياب " لقد انتهى التقرير بوقت قياسي لأني طلبت ذلك، هذه فائدة العلاقات " نظر له شهاب بعيون تعلن عداء غير معروف الأسباب ليبتسم دياب الذي يتآكله الفضول ليفهم سبب تلك النظرة التي باتت لا تفارق أعين شهاب كلما صوبت نحوه وقال " هل والدك لواء بالداخلية " ضيق

شهاب عينيه وقال باستغراب منفعل " ماذا !! " قال له دياب ببرود " أنا والدي لواء بالداخلية لذلك أملك امتيازات بالوراثة أيها الدخيل على عالم الشرطة " انفرجت شفتي شهاب لوهلة ثم قال بقوة " اخرج من هنا، هيا " لم يبال دياب بحدته وقال " لقد قرأت التقرير أكثر من مرة وبتمعن " مال شهاب للأمام في حركة تعكس مدى تحفزه وتوتره وظل ينظر له بترقب ليعم الصمت للحظات قبل أن

يقول " سأحدثك حديث معقد قليلًا وعليك أن تكون متقبلًا له " قال له شهاب بتعب واضح ونفاذ صبر " تكلم يا دياب " رمقه دياب بنظرة تعكس تَروّي بالغ سيصيبه بأزمة قلبية لا محالة وقال " من خبرتي التي اكتسبتها في حل قضايا القتل والتي لم أكن لأتولاها لولاك، فأنت دون أن تدري بت صاحب فضل في مسيرتي، أليس هذا غريب جدًا، فأنت قد تتقبل عمى عينيك ولا تتقبلني ووحده الله

من يعلم السبب، لقد شككت دومًا أن ذلك عائد لتعاوني الذي امتد مع الكاتب محمود الحوفي والطبيب كريم مندور في حل القضايا لكني كنت أذكّر نفسي أنك من اعتذرت بكامل إرادتك عن العمل معهما بعدما حللت القضية الوحيدة التي جمعتكم ومنحت الترقية ورفضت العمل معهما بعدها مجددًا رفضًا تامًا " قال له شهاب " أخبرني بما لديك أو ارحل، فكل ما تقوله الآن من وجهة نظري

هذر ناتج عن الفراغ وأنا لست متفرغ له " ابتسم دياب بتهكم وقال " يومًا ما سأجد تفسيرًا منطقيًا يا شهاب أنا لست متعجل مطلقًا وبمنتهى الصراحة، القضية التي بين يديك استفزتني جدًا وأريد العمل عليها، ما رأيك أن تتركها لي " قال له شهاب وهو يفز واقفًا ويتحرك حول مكتبه ليواجهه " أتركها لك!، أهي لعبة؟، هذه قضية معقدة يا سيادة الضابط وأرواح أشخاص على المحك "

قال له دياب " أعلم وهذا ما جعلني أنكب على التقرير لما يقارب الساعتين " وقف دياب ورفع عدة أوراق من الملف وهو يقول " جميع الجرائم عشوائية جدًا بشكل قد يثير فيك الشك أن تلك الجرائم لا علاقة لها ببعضها، فنمط القاتل متغير، والضحايا لا يملكون رابط واحد " قال له شهاب بعصبية " لا جديد، فهذا الواضح لي حتى الآن بالفعل " قال له دياب " هل لي أن أسألك عن سبب

ربطك لهذه الجرائم، ما الذي دفعك لتظن أن الفاعل شخص واحد " قال له شهاب وهو يجلس على المقعد المقابل له ويغمض عينيه كأنه يرتب أفكاره " لا يوجد متهم يملك دافع لارتكاب الجريمة، لا يوجد سرقة أو عداء مع أي شخص لأي من الضحايا، لا توجد أثار عنف كأن الضحايا لم يحاولوا الدفاع عن أنفسهم حتى، الطبقة الاجتماعية التي تحدث فيها الجرائم متقاربة جدًا، وبالتأكيد لا يوجد

آثار اقتحام أو تسلل ومعنى ذلك أن القاتل شخص ثقة ومعروف لذلك فكرت ربما القاتل مجرد مهووس حاقد يحاول لفت انتباه المجتمع له عن طريق القتل " حرك دياب رأسه وقال " تفكير سليم لكن ماذا لو أخبرتك أن هناك رابط بين الضحايا " قال شهاب باندفاع " مستحيل لقد درست تفاصيل الضحايا ولا أظن أن هناك رابط مباشر وواضح " رفع دياب الأوراق وقال بثقة " الضحية

الأولى رسام، الثانية مصور، الثالثة مصممة أزياء، الرابعة راقصة باليه، جميع الضحايا يمتهنون أعمال فنية بحتة " رفع شهاب يده يمررها من بين خصلات شعره الكثيف وقد اضطربت نظراته وهو يقول " ابنة محمود الحوفي التي اختفت " هز دياب رأسه مؤكدًا وقال " بالضبط، كاتبة ".



✰✰✰✰✰
أيها الفكر الثائر إني في خضم أفلاكك متناثر، وتدور حروبي في صمت ويحاوطني الحظ العاثر، أيها الجامح في عقلي هل لمخاوفنا من آخِر، أم أنها مثل البشر تزيد وتتعمق وتتكاثر، وتغور وتستوطن وتستفحل وتتآمر، أيها المفرط في ذاتي إن حصون الجنون بداخلي باتت أمان خائر.
✰✰✰✰✰.


الانسداح مسترخيًا فوق ساحة الحياة التي لا تتوقف بها جرائم العنف لا يعني شيئًا سوى أن روحك المعذبة قد فاضت إلى بارئها ولم يتبق منك سوى جسدًا خاويًا بات هو الدليل الوحيد على أنه كان لك وجود يومًا ما في هذا العالم، ابتسم كريم ابتسامته المهيمنة المعتادة والتي حاول تحجيمها قدر المستطاع وهو ينظر لشاشة الهاتف المثبت أمامه يراقب عدد المشاهدين الذي يتزايد بشكل كبير

يجعل شعور بالقوة والسطوة يتفاقم بداخله مالئًا كيانه بالرضا التام قبل أن يقول " أعلم أنه قد مرت فترة طويلة منذ آخر بث مباشر لي وكم يحزنني ذلك فالتواصل معكم يعد بالنسبة لي أمر مهم جدًا، لكن أظن أن الجميع لديه خلفية عن الأحداث التي منعتني من ذلك، وكم أتمنى أن تنتهي على خير وتعود ابنة كاتبنا الكبير والعظيم محمود الحوفي إلينا سالمة بإذن الله" انهالت التعليقات من

المشاهدين ما بين داعمة ومتلهفة لإيجاد إجابة  صريحة عن اختفائها الغامض ليمد كريم يده نحو الشاشة ويفعل خاصية إخفاء التعليقات وهو يقول " اعذروني جميعًا فأنا حتى الآن لا أملك إجابة عن أي من أسئلتكم، الأمر الآن بين أيدي رجال الشرطة والذين نثق أنهم سيقومون بدورهم على أكمل وجه، لذلك لا أطلب منكم أنا وكل من يهمه أمرها سوى الدعاء بعودتها القريبة "

أراح كريم ظهره للخلف ثم شبك أصابعه في جلسة تنم عن ثقة وقال " هذا البث سيكون مميز جدًا، وملهم أيضًا لأني سأتحدث فيه عن أمر يشغل فكر الباحثين في الطب النفسي منذ سنوات طويلة، شيء غريب جدًا في منطقه رغم أن واقعية الحالات التي مرت به تجعلنا نظن أنه كسر كافة قواعد المنطق " صمت كريم لوهلة ثم قال " موضوعنا اليوم سيكون عن علاقة المرض النفسي

بالإبداع ….الفكرة للوهلة الأولى ستبدو غريبة، ستشعر من داخلك بالرفض التام لها، فالمرض النفسي كأي مرض يوهن الإنسان ويعدم فرصته في التقدم والإنجاز ولن نبالغ إن قلنا أنه يقتل روح الإبداع والابتكار، لكن …..صمت كريم لوهلة قبل أن يقول " هناك دراسات وأبحاث  أكدت أن المرض النفسي يعزز من القدرة على الإبداع " منح كريم متابعينه نظرة يدعي فيها الصدمة كأنه

يواكب ردود أفعالهم قبل أن يميل للأمام ويقول " لقد اتضح بما لا يقبل الشك أن هناك رابط قوي ما بين المرض النفسي والقدرة على الإبداع، فينسينت فان جوخ، فيرجينيا وولف، توني هانكوك، روبين ويليامز جميعهم مبدعين تركوا بصمات لا تمحى وكان السر في إبداعهم المرض النفسي، قد يبدو حديثي صادمًا خاصة أني طبيب نفسي وأدرك خطورة المرض النفسي على الإنسان ولكن أنا

أريد أن أعرض أمامكم فكر مغاير يسعى وراءه العلماء منذ أكثر من مئة عام، وكان آخر سعيهم  دراسة قام بها الباحثون عام ألفين وأحد عشر أكدت أن  كل من يشغل منصب محوره الفن هو مبدع وأن مرضى ثنائي القطب يشغلون مناصب إبداعية بمعدل يزيد عن غيرهم وأظن أن لذلك دلالة واضحة، بل وأثبتت الدراسة أن إبداع هؤلاء المرضى يكون  قائم على طريقة التفكير الغير مألوفة وزيادة

النشاط والتصميم اللذين يلازما الهوس أحيانًا " أضاءت أعين كريم بلمعة تجعله في أعين المتابعين شخصية مثيرة للجدل بما تعرضه من أفكار خارج الصندوق وقال " وأنا من واقع تجربتي الخاصة أؤكد لكم أني عاصرت حالة تؤكد هذا المنطق " صمت كريم مثيرًا زوبعة فضول بين المشاهدين قبل أن يلقي قنبلته في وجوههم وهو يقول " الكاتب محمود الحوفي الذي لم يكن يشوب إبداعه ذرة

غبار …كان مريض نفسي يميل للعزلة والانطوائية وهذا عرف عنه وكان هذا السبب في إثرائنا بإبداعه لسنوات، ولذلك حين دخلت ابنته في نوبة اكتئاب عنيفة بعد ما حدث له ولأنها تعلم أن المرض النفسي أحد أسباب إبداع والدها رفضت العلاج رغم خطورة الموقف وكلها يقين أن مرضها سيكون بابها المفتوح نحو الإبداع لتستطيع أن تكمل مسيرة والدها " صمت كريم وهو يمد يده نحو الشاشة

التي يتزايد بها عدد المتابعين بسرعة جنونية وألغى خاصية إخفاء التعليقات وبدأ يشاهد ما خلّفه الانفجار الذي بدأه ولكنه لم ينهه بعد.

✰✰✰✰✰.
لم تكن يومًا أحلامنا شيئًا عظيمًا ولكننا قدسناها حين بات واقعنا مرير لا يحتمل، وحين أصبحنا نذهب إليها


بمحض إرادتنا ونعود للواقع قسرًا لنواجه سحابة حقيقته السوداء.
✰✰✰✰✰.

أن يظل الألم عالقًا بقلبك حتى بعدما شفيت كل الجروح، وأن تظل الندوب تنزف قهرًا لا يستشعره غيرك، وأن تظل وحدك تعيش تفاصيل ما مضى حتى وإن كنت في حضرة الكثيرين لهو كفيل بإقناعك أنك مازلت قابعًا في مكان

بعيد  تنظر في عيون من جرحك بصدمة لم يتكفل بها الوقت، بجسد مشدود عامر بالثقة التي لا تخطئها عين حتى مع ظهور حملها الذي أجج في تقلباتها النفسية الكثير كانت راوية تجلس على مائدة تحاوطها الكثير من العيون الرافضة لكونها دونًا عن نساء العالم من شغلت ذلك المقعد الذي يجاور عمرو السويدي والذي يعلنها رغمًا عن الجميع زوجة له …زوجة ابنهم البكر والوحيد

….ارتسمت ابتسامة متهكمة على شفتي راوية التي تقطع شريحة اللحم الخاصة بها بهدوء لتلمحها عين والدة زوجها إنعام هانم والتي قالت بلكنتها الصعيدية الواضحة " مازالت طريقة أكلك تحمل الكثير من الحرص الذي لم يعد هناك داعي له، فجسدك الذي تقاتلين باستماتة ليظل ملفت بات بداخله طفل يحتاج للتغذية، أم أن مظهرك أهم لديكِ من طفلكِ، لا ألومكِ فوالدتكِ رحلت

مبكرًا ولم تخبركِ عن تضحيات الأمومة " رفع عمرو عينيه نحو وجه والدته ونظر لها محذرًا ثم حاد بهما تجاه راوية التي لم تنظر لإنعام حتى وأكملت تقطيع شريحة اللحم وهي تقول " أنا آكل بالقدر الكافي يا إنعام هانم وجنيني بألف خير لكن بحكم العادة أسلوبي في تناول الطعام يختلف عنكم قليلًا، وهذا ما يجعل بشرتي صحية وجسدي مشدود بعكسكم، أتحتاجين مني أن أمنحكِ أو أمنح البقية

بعض النصائح كالتي منحتها لي والدتي رحمها الله علّها تنفعكم رغم أني أشك " رفعت راوية عينيها نحو أخوات عمر اللاتي تجلسن مقابلات لها لتقول إنعام " وفري نصائحك لنفسك واعلمي أن كل ما يهمني هو صحة حفيدي، فهو الشيء الوحيد الذي سيجعل لكِ قيمة، فما قيمة المرأة إن كانت جميلة دون أن تأتي بذكر يحمل اسم أبيه " قال عمرو بأسلوب قاطع " أمي " قالت إنعام له "

ماذا، ألا يجب أن أهتم لأمر حفيدي " همّ عمرو بالرد لتسبقه راوية وتقول " قيمتي محفوظة منذ كنت في منزل والدي وجئتم جميعًا لتطلبوا رضاي عن الارتباط بابنكم الذي لا يحمل اسم أبيه فقط ولكن اسم عائلة السويدي بأكملها، وعندما يصل طفلي إلى أحضاني سيستمد قيمته من كونه ابن امرأة عالية القدر مثلي، فأنا لم أكن بقليلة يومًا لأنتظر من طفلي أن يصنع لي قيمة " هدر

عمرو قائلا " راوية كفى " لم تنظر له راوية وهي ترفع قطعة من اللحم نحو فيها وتبدأ بمضغها بتأني ليعم الصمت للحظات قبل أن تقول أخت عمرو الصغيرة والتي خلعت سماعات أذنها التي كانت تسمع بها تفاصيل البث المباشر الخاص بكريم مندور عبر هاتفها " راوية هل الحديث الذي يقوله كريم مندور عن ابنة محمود الحوفي المختفية صحيح " رفعت راوية رأسها بحدة وقالت " أي حديث؟ "

ابتسمت لها بخبث وقالت " لقد خرج ببث مباشر للتو وصرح فيه أن محمود الحوفي كان مريض نفسي، وابنته مثله بل إنها رفضت العلاج معرضة نفسها للخطر اقتناعًا منها أن المرض النفسي هو ما جعل من والدها مبدع، أليست هذه هي صديقتك المقربة والوحيدة على حد علمي " كان لسان راوية معقود بفعل الصدمة ليقول عمرو بسخرية " شيء متوقع جدًا، وتأثير صداقتهما واضح "

وضعت راوية الشوكة والسكين اللذين تحملهما بانفعال ثم وقفت فعقد عمرو حاجبيه وهو يقف ويسألها بحدة " إلى أين، اجلسي وأنهي طعامك " قالت له راوية بغضب " لم تعد لدي شهية، وفي الحقيقة منذ دخلت من هذا الباب وقد فقدت شهيتي ولكني تحاملت على ذاتي من باب اللباقة لكن عشرتي للمجانين جعلتني أكتفي " اندفعت راوية نحو الباب لتقول إنعام بانفعال " قلت لك أنها

ليست تشبهنا، وطلبت منك تطليقها مرارًا حين تأخر الحمل لكنك ظللت متمسك بها كأنك إن طلقتها لن تجد غيرها " نظر عمرو لوالدته بغضب شديد ثم قال " ألن ننتهي من هذا الموضوع أبدًا " قبل أن يسحب هاتفه الذي كان يضعه على الطاولة وأسرع يركض خلف راوية لتنظر والدته في إثره بحسرة وهي تقول " حسرة عليك يا ولدي، ورطت نفسك بزيجة لا


أمل منها فهذه الفتاة ليست من ثوبك، ولا تليق بك ".

✰✰✰✰✰
ما الذي أتى بك لتومض في ثقبي الأسود، وأنا الذي عاش كغراب شارد على ديجور الليل تعود، وأنا الذي بطشت به العواصف فما كلّ أو ترَود، لماذا جئت تقاطع ظلمتي كأنما العالم من حولي


يستكين لي ويتودد، ما الذي ترجوه مني وأنا من بات قلبي لذاته بالويلات يتوعد.
✰✰✰✰✰

حين تعربد الأوهام بشكل جنوني يجعلها قادرة على اقتحام واقعنا تصبح كافة العقلانيات التي نستند إليها محض أمور دخيلة على قناعاتنا التي لا تعترف بها، الليل كان شديد الحلكة رغم أنه مازال بأوله بينما تسير ما بين الخمسة رجال

الذين أصبحوا متورطين بها أكثر من تورطها بهم خاصة ذلك الذي تكاد تكون قبضته القوية كظلها الخفي الذي ينتشلها من السقوط كلما تعثرت أو شعرت بالدوار أو ارتخت أقدامها من شدة التعب، نظرت لجانب وجهه وبقيت تتأمل ملامحه الذكورية الخشنة بتفكير جعلها لا تشعر بقدمها التي التوت فتوسعت عيناها وهي تشعر أنها على وشك السقوط لتمتد قبضته بسرعة

أذهلتها ليكمش ملابسها بعنف ويجذبها لتتوازن وهو يقول من بين أسنانه بحدة خافتة " انظري أمامك وسيري كما البشر وإلا المرة القادمة سأتركك لتسقطي وسنعبر جميعنا من فوقك " تجهمت ملامحها وقالت وهي تشعر بدوار" المكان مخيف والطريق ليس ممهد، ألن تخبرني إلى أين نحن ذاهبون " اقترب منها فوزي وقال " اخفضي صوتك، هذا الطريق مهجور وربما هناك ما يواريه الليل… لم

يعد أمامنا الكثير وسنصل للعمار " قالت له بلهفة " إذا أنت تعلم وجهتنا " نظر لها نظرة متسلية وقال " أعلم يا غزال "  همّت بأن تستفسر منه أكثر لتتفاجأ بأن هناك من يجذبها للخلف وصوت بربري الشرس يهمس لها " أتعرفين كيف تخرسي؟ " زمت شفتيها بحزن ليقترب بدوي ويقول بخفوت " أنا سأخبرك لو منحتيني قُبلة مثل التي نراها في الأفلام " انكمشت تضم نفسها لبربري الذي دفعه

بعيدًا عنها وهو يقول" اهدأ يا شبح والجم نفسك واخفض صوتك أفضل من أن يظهر لنا من قد يُقبلك حتى يمتص روحك ونترحم عليك الليلة " ابتسم بدوي بعبث وقال " عازب يا رئيس وحالي يصعب على الكافر " لم تفهم مقصده ونظرت إلى بربري الذي قال له " ليس أصعب من كفي إذا زار وجهك، الحق بمخلف هيا " ركض بدوي ينادي مخلف لتتأمل المكان من حولها وتقول لبربري "

لماذا يتقدمنا مخلف بكثير " قال لها بربري " لسانك هذا يلزمه القطع، ألا تفهمين معنى الخرس، هذا ليس وقت جنونك " قال لها فوزي " اخفضي صوتك، فلو سمع أحد المتواريين في الظلام أن معنا امرأة لن يدعونا نمر إلا حين يأخذوها " توسعت عيناها وقالت " يأخذوها لأين؟ " زغرها بربري بحدة فوضعت كفها على فيها ليقول ناجح بلكنته الغريبة على مسامعها ومصطلحاته المعقدة بالنسبة

إليها " مخلف مكبود (مقبوض) من هذه التالعة (الطلعة) يابسكويتة من بعد موت ابنته وزوجته التى كتت (هربت) منه يرفض المجئ هنا" ظلت تنظر لناجح عاقدة حاجبيها وفوها منفرج على أخره وبدت وكأنها تحل أحجية معقدة وأخذت تهمس وهي تحرك يديها " (تالعة) يقصد طالعة (مكبود) أظن يقصد قلبه مقبوض ما معنى (كتت؟) هل يقصد! شهقت بألم ونظرت نحو مخلف بحزن

عميق عندما أدركت من حديث ناجح أخيرًا معنى ما قال وهي تلمح العمار الذي بدأ بالظهور ليقول بربري " هذا أأمن مكان لنا حاليًا " أشار لهم مخلف ليسرعوا فجذبها بربري لتسرع هي الأخرى ثم توجهوا نحو شارع غير واضح الملامح، ومنه إلى حواري ضيقة لكنها كانت مضيئة قليلًا بشكل أتاح لها أن تتأمل تفاصيلها الواقعية بشكل يعكس ضيق الحال وانعدام الآدمية وأبسط الحقوق

والخدمات في هذا المكان، أكملوا المسير تباعًا لضيق الأزقة حتى توقف مخلف أمام منزل شعرته على وشك السقوط ودخل إليه وتبعه البقية لتقترب منه وتتجمد برفض وخوف وكل ما يدور في ذهنها كيف لمخيلتها ان ترسم كل هذا ببراعة وبصورة حية هكذا، فيجذبها بربري ويقول " ماذا هل أخيرًا شعرتِ بأن الوضع يستلزم بعض الخوف! " هزت رأسها وقالت " لا شيء قد أخافه، هذا

مجرد حلم " قالتها بملامح مهتزة ودخلت خلفه إلى ذلك المدخل الضيق الذي بات الشارع الخارجي أعلى منه وتهالكت جوانبه من عوامل الزمن وتمسكت ببربري الذي كأنما اعتاد تعلقها به فلم يعد ينظر لكفوفها المستميتة على ذراعه بريبة بينما مخلف يحاول فتح الباب الذي كان عالق بفعل الزمن، مرت لحظات قبل أن يفتح الباب ويلجو لشقة صغيرة عتيقة دار بها مخلف بحثًا عن

قبس الضوء الذي نسي مكانه حتى وجده فأضاء المكان لتبهت بصدمة لهذا المشهد الأسود الذي لا يأتي سوى بالأفلام، التراب كان يغطي كل شيء والعناكب تغلق مداخل الأبواب بخيوطها، والحزن والوحشة يخيمان في الزوايا  ليقول مخلف بصوت مكتوم " المكان يحتاج للتنظيف " قال فوزي بعبوس " هذا المكان لا يصلح سوى كمقبرة، ماذا سننظف يا رجل " زمجر مخلف وقال "

هذا الموجود لدي، إن لم يرق لك أرِنا ما لديك " صمت فوزي والضيق يملأ ملامحه ليقول بدوي " رجال السني أرحم يا مخلف، انظر للفئران " قفزت خلف بربري الذي لم ينظر لها مطلقًا وهو يقول " هل ستبدئون بالتأفؤف مثل الحريم، تحركوا " مرر ناجح يده بعنف على ظهر الأريكة التي أمامه ثم بدأ يضربها كمحاولة منه لتنظيفها ليتطاير الغبار في هيئة زوبعة حين هاجمت أنفاسها بدأت

تسعل بعنف شديد أشعرها بالاختناق فالتفت لها بربري بحدة وقال لها " ستموتين، تنفسي " هزت رأسها برفض دليل على عدم استطاعتها فهمس لها بخفوت " تقتلين وتسرقين وتفرين وتقضي عليك ذرات التراب " ثم جذبها نحو الباب الذي أغلقه مخلف وقال " نظفو أنتم المكان وأنا سأذهب لأشتري شيء لنأكله قبل أن تموت هذه المصيبة وتأتي لنا بمصيبة أكبر " لم يرد عليه أحد

منهم وهم يتأملون روحها التي تنازع باستغراب أثار ضحكاتهم ماعدا مخلف الذي كان يتأمل المكان بصمت، همّ بربري بفتح الباب ليسبقه طرق يتعالى على الباب من الخارج نظر بربري لمخلف بتساؤل وحذر ليندفع مخلف نحو الباب ويقول بخشونة " منْ؟" جاءه صوت ناعس قليلًا يقول " أنا صاحبة المنزل، من أنت؟ " نظر لهم مخلف نظرة مطمئنة ثم فتح الباب لتظهر أمامهم فتاة عشرينية

عابسة تحاول إحكام حجابها بينما ترتدي عباءة سوداء باهتة وهو يقول " هذا أنا يا كريمة " قالت كريمة بصدمة " عم مخلف " ابتسم بدوي بعبث وهو يقول " العباءات دومًا ما ألهبت مشاعري " التفت له مخلف يزغره بشكل أخرسه لتقول كريمة بريبة " من معك؟ " قال لها مخلف " هؤلاء أصحابي سنبقى هنا عدة أيام " نظرت لهم كريمة نظرة شك تخلو من الراحة لتتوقف عيناها على وجه

بربري الذي كان يقف بجوار الباب ثم قالت " المنزل منزلك، وضيوفك على رأسنا، هل تحتاجون إلى شيء " تعالى سعال تلك التي تختنق والتي أخفاها بربري خلف الباب المفتوح لتتوسع عينا كريمة وهي تقول " ما هذا الصوت، حريم، ألديكم حريم، لا يا عم مخلف كل شيء إلا القذارة، هل غبت غيبتك وعدت ومعك حريم منحلة لتنجسوا المكان " لم يمنح بربري مخلف الفرصة ليجيبها وهو

يسحبه للخلف ويجذب تلك التي تكاد تفقد وعيها خارج الشقة فشهقت كريمة بصدمة وتراجعت للخلف تنظر لبربري الذي يسرع في جر الفتاة التي معه خارج المكان بأكمله لتقول بغضب " لا …كل شيء إلا هذا، أقسم بالله أني لن أصمت".

بعد ما يقارب الساعة …….
كان بربري يسير بملامح مشدودة يرمق بضيق شديد تلك التي تسير بجواره

محاولة أن تنظم أنفاسها وقد امتد الصمت بينهما منذ خروجه من إحدى الصيدليات البسيطة المتواجدة على أطراف ذلك المكان الشعبي بعدما أحضر لها إحدى البخاخات التي ساعدتها على التنفس، لتتوقف فجأة وتنظر له وتقول " شكرًا، أنا أعاني من حساسية للأتربة والروائح النفاذة لكن من الغريب أن تلازمني النوبات حتى هنا، لقد آمنت دومًا بالمقولة التي تقول ولنا بالخيال حياة

ولكن يبدو أن خيالي يعجل بأجلي " نظر لها بربري بعدم فهم ثم قال بجمود " هل نستطيع أن نتحدث بجدية الآن، وقد عدتِ للحياة " أخذت نفس عميق ثم قالت له " بالطبع، أنا مستعدة لذلك " رفع بربري حاجبه وسألها مباشرة و بلهجة خطرة " الحديث الذي قلته أمام رجالي ولم أستطع فهمه، ماذا كنت تقصدين به؟" أجابته بهدوء " لقد أخبرتك من قبل أني أبحث عن قاتل، في الواقع هذا

نصف الحقيقة " أخرج بربري صوت فج من أنفه ثم قال هادرًا " ماذا؟ " أسرعت تقول " الحقيقة كاملة أني متورطة في جريمة قتل لا أعرف هل أنا من قام بها أم أن هناك قاتل، ولذلك قررت البحث عن الحقيقة، فلو أن هناك قاتل سيكون هذا معناه أني بريئة " شتم بربري بلفظ نابي ثم سألها بحدة " انطقي، هل أنتِ هاربة من الشرطة " هزت رأسها برفض وقالت " لا صدقني … فأنا أظن أنهم لم يكتشفوا

الجريمة بعد " قال لها بصدمة " ماذا تعني بأنهم لم يكتشفوها، تحدثي بحديث أفهمه علّ هذه الليلة تمر على خير " قالت له بتوتر وهي تحاول أن تتذكر التفاصيل بصعوبة " حين استعدت وعيي وجدت نفسي في مكان لا أعرفه أنام على أرض رخامية باردة وعلى بُعد أمتار مني جسد تحاوطه بركة من الدماء وما بيني وبينه كانت توجد إحدى مفكراتي التي كانت مفتوحة وقد كتب بها شيء لم أتبينه فقد

كنت مشوشة وهلعه، لذلك جاهدت لأقف على قدمي وحين استطعت الحركة ركضت دون أن ألتفت للخلف " نظر بربري حوله بحذر خوفًا من أن يكون هناك من سمع ما قالته ثم نظر إليها وقال بأسلوب حاد " ركضتي دون أن تخفي الجثة أو تمسحي بصماتك من المكان " طفرت الدموع من عينيها وهي تقول " المشهد كان مرعب …مرعب، كان هناك دماء بكل مكان، وذلك الجسد كان

شاحب …كان ميت ثم أنا …." أمسكها بربري من ذراعها بقوة يقطع حديثها وهو يقول " اسمعيني جيدًا أيتها الغبية، هكذا لا يوجد حل أمامنا سوى العودة لهذا المكان وإخفاء الجثة ثم تنظيف الفوضى ومن بعدها الفرار وبهذا سيكون انتهى الأمر، وانسي تمامًا أمر البحث عن القاتل " قالت برفض وانفعال " إذا فعلت ذلك لن أعرف أبدًا من القاتل، هكذا سأكون فعلًا من قتلت حتى وإن لم

أفعل، هكذا سأكون طمست ملامح الجريمة دون أن ينال الشرير عقابه " قرب وجهه منها وقال بحدة " الأشرار في هذا الزمن لا تُعاقب " بدت رافضة أن تخضع لحديثه فهزها بقوة وهو يقول " أنا واثق أنكِ لستِ القاتلة، فليس هناك قاتل يخشى منظر الدماء ويفر تاركًا خلفه ألف دليل، ليس هناك قاتل يخشى الفئران ولا يخشى القضبان، ويهلع حين تخنقه ذرات الغبار وهو يسعى لحبل

المشنقة، ليس هناك قاتل يولي محيط خصره اهتمام بالغ أكثر مما يوليه لنجاته …ليس هناك قاتل لا يتوقف عن الهذر كأنه فر من الخانكة للتو" قالت بحرقة " كل ما تقوله ليس كافيًا لإقناعي، فقد أكون رغم كل ذلك القاتلة " قال لها بعنف " هل القتيل امرأة أم رجل " نظرت له بعجز وقالت " لا أعرف لم أتبين ذلك ثم هل يوجد فرق " قال لها " بالطبع يوجد، فإن كانت امرأة وهاجمتيها مؤكد

ستدافع عن نفسها بأي طريقة هل يوجد بجسدك كدمات أو أثار أظافر أو غيره " هزت رأسها وقالت " لا " قال لها" وإن كان رجلًا محال أن تستطيعي التغلب عليه وطعنه فبنيتك الجسدية لا توازي بنية رجل، أنت لست القاتلة " قالت له بهلع " إن صدقت وصح حديثك سيكون الوضع أخطر، لأن معنى حديثك أن هناك شخص خطير يريد توريطي بجرائمه،   oh my god.. I can't believe this,٫

This is terrible
" قال لها بربري بجدية " هذا ليس وقت رطن بطلاسم، تحدثي بكلام أفهمه واسمعيني جيدًا، انفذي بجلدك من ذلك القاتل، أنا ابن شوارع نعم لكن الحياة علمتني أن من يستسهل القتل يعد شبح لا يجب أن نقف له على طريق " قالت له بضياع " هكذا سأكون داريت على جريمته وأنا مستحيل أن أفعل ذلك، تخيل أن يكون الهدف من ذلك الوهم

المقبض الذي أعيشه ليس إيجاد القاتل وإنما إيجاد طريقة لإخفاء الجريمة " قال لها بربري " بل ستفعلي وستتوقفي أيضًا عن هذرك الغير مفهوم " قالت له بانهيار " ما الذي سأكسبه من خلف شيء مروع كهذا، هكذا سأكون فشلت حتى بأحلامي يا بربري " أجابها بأسلوب قاطع رغم أن نطقها لاسمه وهي تبثه مخاوفها وشكواها منحه شعور غريب " الفشل أفضل من الموت غدر، حياة النجوم التي

كنتِ تعيشينها جعلتكِ غير متقبلة لفكرة النزول للأرض، جعلتكِ غير متقبلة أن تري وجه الحياة الحقيقي " أحنت رأسها بقهر وبدأت تبكي بقوة ليمسك ذقنها ليرفع عينيها لتواجه عينيه ويقول " هل تستطيعين العودة معي لذلك المكان " زمت شفتيها بعجز وعيناها لا تفارق عينيه قبل أن تهز رأسها مؤكدة.



✰✰✰✰✰
العلاقات القابلة للانتهاء مع رحيل أصحابها لم تكن يومًا حقيقية فلو أنها كانت لظلت قائمة وإن رحل البشر جميعًا، كان ممدوح صدقي منذ ساعات يوقف سيارته داخل مكان جانبي بالمقابر التي باتت في الآونة الأخيرة مزاره الدائم ووجهته الوحيدة كأنه على عجل لأن يلحق بمن رحلوا ورغم أن الليل قد أسدل ستاره مالئًا المكان بالرعب

والوحشة لم يتحرك أو يغادر، فمنذ أن تفاقمت الأمور بشكل بات يسبب له الاختناق ويشعره بالهلع وهو لا يجد الأمان أو الراحة سوى حين يأتي إلى هنا ويظل يتحدث مخرجًا من داخله كل الحديث الذي لا يستطيع أن يبوح به لبشر، يقف أمام قبور أقرب الناس إليه ليتعرى كاشفًا حقيقته دون أن يخشى رد جارح أو مواجهة حامية، يأتي ليتأمل أين ستكون النهاية التي لا مفر منها، لينظر

للقبور ويحاول أن يفكر في تلك اللحظة التي يشعرها تقترب ويريد حين يأتي موعدها ألا يخشاها، ولكن كافة أسبابه هذه لم تكن هي ما دفعته للقدوم والبقاء حتى هذا الوقت، بل شيئ آخر … باب المدفن الذي وجده مفتوحًا بالصباح، والذي أغلقه بنفسه بالأمس وتأكد من الحارس أن لا أحد دخل إلى المكان من بعده، فهوية من فتح ذلك الباب تهمه جدًا لأن عقله يحدثه أنها ربما هي من

جاءت لتزور القبر كما دأبت أن تفعل منذ ما حدث دون انقطاع حتى ولو ليوم واحد، نظر ممدوح للسماء يتأملها وكله يلهج بالدعاء أن يصدق حدسه ويجدها بأسرع وقت علَّ وحوش الذنب الشرسة التي تتآكله تتلجم وتهدأ لينتفض فجأة برعب على صوت أحد الأبواب الحديدية للمقابر يفتح، مال ممدوح للأمام يدقق النظر لما يحدث وجسده بأكمله يرتجف بوجل يزيد من نغزة صدره لتنقطع

أنفاسه حين وجد الباب الحديدي لقبر محمود الحوفي يفتح ويخرج منه جسد يتشح بالسواد، جسد لا يمكن أن يكون لفتاة ناعمة لا تترك وزنها ليتخطى الستين كيلو جرام، جسد رجولي يمتاز ببنية ملفتة، حاول ممدوح أن يتبين ملامحه وكفاه ينقبضان برعب على عجلة القيادة ولكن الظلام الدامس وضعف نظره كانا له بالمرصاد، ضيق ممدوح عينيه وهو يميل بقوة للأمام

عسى أن يصبح مجال رؤيته أفضل فضغط ثقل صدره على زامور السيارة الذي يتوسط عجلة القيادة ليلتفت ذلك الجسد بكله باتجاه السيارة فيشهق ممدوح برعب حين التقت عيناه بعيون أحالت فزعه السابق  لشيء واهٍ مقابل الفزع الذي ألقاه بقلبه.
✰✰✰✰✰.
الحلول ليس من المتوقع أن تأتي دومًا لمن يسعى إليها ولكن من المؤكد أنها لدى من

عقد الأمور منذ البداية، كان عدي يجلس على الأريكة المريحة الموجودة بغرفة المعيشة داخل منزله وأصوات طفليه اللذين يلعبان بحماس شديد ترتفع إلى حد كان ليشتته عن عمله في أي وقت آخر ولكن انغماسه الكلي في التفكير جعله لا يكاد يسمعهما مطلقًا وهو يتفقد الصفحة الشخصية لريم سالم مصممة الأزياء التي وجدت مقتولة في شقتها صباح ذلك اليوم، ظل عدي يتنقل بين

صورها الرائعة والتي كانت تعكس احترافها الشديد في عالم التصميم ليستوقفه منشور نشرته منذ عشرة أيام ماضية تعلن فيه أنها على وشك الانضمام لعرض أزياء عالمي يقام بشكل سنوي بأحد المدن الإيطالية، لقد كانت ترفق المنشور بصورة لها تعكس مدى سعادتها وإقبالها على الحياة، ظل عدي يحدق بصورتها ثم سحب شاشة الهاتف لأسفل حتى وصل إلى أخر منشور لها

والذي نشرته بالأمس وقبل مقتلها بساعات وضيق عينيه يقرأ المقطع الغريب والذي يعد كشيء شاذ ومريب بين محتوى الصفحة، جرت أعين عدي بين الكلمات التي تقول " جميعنا حيوانات روضتها الملابس المهندمة، والأسرة الفارهة، والأطباق التي تحتوي على الإبداع أكثر مما تحتوي على الطعام الذي يعد احتياجًا ضروريًا لا غنى عنه، نحن محض حيوانات لا تملك عقل

فتأكل الإبداع بدلًا من الطعام ثم تمسح فاها بهدوء كأن شيئًا لم يكن " استغرب عدي الكلمات التي تنافي أسلوب القتيلة الرقيق العفوي ثم نسخ المقطع ودخل إلى تطبيق جوجل ثم أضاف المقطع لخانة البحث ليعتدل جالسًا بصدمة كبيرة حين ظهرت له إحدى روايات الكاتب محمود الحوفي ليبتسم باستغراب وهو يقول " بت أرى اسم محمود الحوفي أكثر مما أرى اسمي على مقالاتي، ما القصة! …أهي

تهيوءات أم أن الأمور متشابكة فعلًا " حاول عدي أن يجد بقية المقطع المنشور ليقرأه علّه يفهم شيء لكن نظرًا لكون الرواية ورقية لم يكن متوافر منها سوى مقاطع عشوائية فأخذ عدي لقطة مصورة لغلاف الرواية ودخل أحد تطبيقات التواصل ليرسله لأحد العاملين معه بالجريدة وقبل أن يرسل له في طلب الرواية توقفت أصابعه وخرج من التطبيق مسرعًا يطلب رقم شهاب الذي

كاد أن ينتهي الرنين دون أن يجيب، ليأتيه صوته المكتوم يقول " ماذا تريد في هذا الوقت  " قال له عدي وهو يقف فجأة فتعبس ملامحه بألم حين كسر بقدمه إحدى ألعاب طفليه ليرفع قدمه ويظل يقفز للأمام " أريدك، قل لي أين أنت وسآتي إليك، وهذه المرة لن أتركك دون أن تمنحني خبر حصري، عيب عليك أن تكون أخي ولا أستنفع منك بمعلومة واحدة " قال له شهاب " ليس لدي أكثر

مما تعلمه بالفعل، كم مرة سأقولها لك " قال له عدي " ليس هذه المرة، فهذه المرة ستكون معلومة مقابل معلومة يا شهاب باشا، أرسل لي موقعك ".

✰✰✰✰✰.
ما بين قوة لا أملكها وضعف لا يتركني ضاعت أشياء كثيرة كانت لتغير مناخ كوني الذي بات شتاءه طويلًا قارسًا موحشًا

لا أسمع به سوى همس يأجج هلعي ويعجل بموتي، إني أموت لا محالة.
✰✰✰✰✰.

أن تمسك بك يد في لحظات الخوف والهلع دون أن تخشى أن تعيش معك لحظات الرهبة لهو كفيل بجعلك لا تتركها أبدًا وإن أخذتكما الخطى نحو فوهة بركان، كان بربري يمنح الموقف صبرًا لا يشبه صبره كأنه ليس متوجهًا للتورط في

جريمة قتل، كان يسير كلما سارت ويتوقف إن توقفت ليدفعها للأمام مصرًا أن يكمل معها الطريق للنهاية، كان يسير بكل حمقه نحو المجهول أما هي فمثل الطفلة التي تواجه ما يفوق احتمالها لا تتوقف عن البكاء والتعثر والهذي، لا تترك يده لا تشيح بنظرها عامدة فتخرجه من مجال رؤيتها، كانا تحت جنح الليل كتائهين أغلقت في وجهيهما أبواب الدنيا، توقفت أقدامها مجددًا فنظر لها بربري

وقال " أهذا هو المنزل " قالت له ببكاء " أنا مشوشة للغاية ولا أستطيع التذكر، أخشى ألا يكون هو، فكأنما هناك جزء اِجتُثّ من أفكاري، أظن الأمر بدأ وأنا أجلس فوق مقعدي الهزاز الذي بمنزلي، حينها تحديدًا كنت أقرأ وقاطعني رنين جرس المنزل، كان الوقت متأخر، ولم أكن أنتظر أحد، لقد خفت كثيرًا، ورغم ذلك اقتربت من الباب وظللت أسأل عن هوية الزائر ولكن لم يأتني رد، بعدها ظللت

واقفة لدقائق أحاول التقاط أي صوت ولكن لم يصل أذني أي شيء فاستجمعت شجاعتي وفتحت الباب " صمتت تضغط على ذاتها محاولة أن تتذكر باقي تلك الذكرى بوضوح وقد سرق صمتها انتباه بربري كاملًا لتكمل قائلة بصوت يرتجف " لم أجد حينها أحد، بل وجدت مفكرة مكتوب بها جملة غريبة …انتظر سأتذكرها …كانت غريبة جدًا ….كانت " رفعت عينيها لأعلى تحاول أن تتذكر بينما

عيون بربري تمشط المكان من حولهما لكي لا يفاجئهما أحد بأي رد فعل على وقفتهم المريبة، خاصة أن الحي يُعَد حي راقي لتقول فجأة " نعم …لقد كانت ..هل يكفي الكاتب واقعًا واحدًا ليعيشه …كان سؤالًا صادمًا وظل يدور برأسي لساعات حتى حملت قلمي وأجبت بكلمة .. لا ..وبعدها أظلم كل شيء " نظر بربري للسماء وقال بنفاذ صبر " يارب صبر الوحش على الجحش " ثم أخذ نفسًا

عميقًا وأخذ يفرك وجهه قبل أن يقول لها وهو يكز على أسنانه" قولي لي شيئًا واحدًا منطقي، شيئًا واحدًا يعقل، أخبريني على الأقل كيف وجدتك بالمقابر " صمتت وبدأ ذقنها بالارتعاش فتأفف بربري وقال بغلظة " إن كنتِ واثقة أن هذا هو المنزل دعينا نجد مدخل خلفي للمكان هيا، تضييع الوقت في حديث لن يغير شيء ليس له داعي " تحرك بربري نحو المنزل كأنه تيقن أنه هو دون أن

يسمع تأكيدها فأسرعت تمسك بيده ليقول لها بأمر لا يقبل النقاش " سيري خلفي " نفذت أمره دون جدال ليتسللا إلى المنزل الراقي المكون من طابقين فيبدأ بربري باستغلال مهاراته في فتح الأبواب المغلقة وهو يقول لها ….. البسي القفازات التي أحضرتها من الصيدلية وتقدمي لترشديني نحو مكان الجثة " ارتجف جسدها بقوة وهمست له بصوت واهن " أنا خائفة " قال لها بخفوت

وعيناه تبرق بتحذير " لقد وصلنا إلى هنا ولم يعد هناك مجال للتراجع دعينا ننهي ما أتينا لأجله " هزت رأسها برفض فنظر لها بقوة وهو يقول " فات الأوان " تنفست بعمق ثم دفعت قدميها دفعًا نحو الداخل وبدأت تتأمل تفاصيل المكان الذي رسمه وهمها بدقة تجعلها تتساءل لماذا لم تستطع تجسيد تلك الدقة على الورق مطلقًا، كانت كلما تقدمت كلما زاد قرع الطبول المفزع بصدرها لتستدير

فجأةً وتقول لبربري " دعنا نعود لمخلف والرجال فأنا خائفة " قال لها بربري بغضب " وحين ترتدين البذلة الحمراء ألن تكوني خائفة " تجمد الدمع في أحداقها مكونًا حاجزًا زجاجيًا جعلها بمنتهى الاستسلام تتقدم أكثر حتى وجدت نفسها في مواجهة منظر بشع جعلها تصرخ فأسرع بربري يكتم صرختها وقد لاح الخوف في عينيه من هول المنظر ليقول بانفعال " اهدئي، وساعديني

لنلف تلك الجثة في السجادة الغارقة بالدماء " ثم نظر حوله وقال " وبعدها لنبحث عن شيء نمسح به بصماتك وهكذا لن يكون هناك قتيل أو دليل " تركها بربري فتحركت للأمام  كالمغيبة وقد لمحت المفكرة التي رأتها حين استفاقت، انحنت تلتقطها لتصيبها صدمة عاتية حين تيقنت أنها مفكرتها الشخصية التي تضعها دومًا أسفل وسادتها ففتحتها بصدمة وهي تقول " إنها خاصتي " كان

بربري يزيح الأرائك الموضوعة على السجادة ليسهل عليه طيها قبل أن يتجمد من همسها ويلتفت نحوها فيجدها تترنح وتخر أرضًا جالسة وهي تنظر للمفكرة وتقول " إنها خاصتي  " وتبدأ في تقليب صفحات المفكرة التي كانت كافة صفحاتها تحمل توقيعها الخاص وقد اشتدت نوبة تشتتها ما بين الحقيقة التي كانت والخيال الذي قُدّر له أن يكون وقالت " يا إلهي ماذا يحدث

بالضبط " اقترب منها بربري ومال نحوها يقول " لا وقت لذلك ف…..صمت فجأة وقد شعر أنه سمع صوت سيارات تقترب، ليزداد الصوت اقترابًا بشكل جعله يقول بهلع " ما هذا الصوت " اقترب بربري من إحدى النوافذ وأزاح الستارة بحذر لينتفض وهو يسب بعنف قبل أن يقول بتحفز " سيارات الشرطة،  …تبًا …دعينا نتحرك هيا " كانت كأنها لا تسمعه وبقيت على جلستها كأنها في حالة تخشب وكل

شيء من حولها يختفي الأصوات، الرؤية، كأنها تنتقل عائدة للواقع، فاندفع بربري نحوها وجذبها بقوة وهو يقول " قفي إنهم يقتربون " لكنها كانت تهذي بخفوت وهي تكمش إحدى صفحات المفكرة فلم يفكر بربري قبل أن ينحني ليرفعها من خصرها بقوة ويتحرك بها بسرعة نحو المخرج الخلفي لتنقطع الورقة المنكمشة بيدها من بين أوراق المفكرة التي طارت من عنف الحركة لينتهي بها الأمر بركن قصي

أسفل قطعة أثاث ضخمة تبعد قليلًا عن الدماء وعيناها التي تنسحب من ذلك الجنون قسرًا ظلت عالقة بها كأن وجود هذه المفكرة جعل الوهم الذي يحاوطها يزداد ابتلاعًا لها.

✰✰✰✰✰.
لا تصدق عهود أتت من عيون مظلمة، انطفأت بها قناديل الشوارع التي دومًا ما كانت تسع جنون خطواتك، وهمس

حكاياتك، وتناقض وجهاتك، وكأنها أضحت على دجنة المخاطر عازمة.
✰✰✰✰✰.

أما عن الحب فيومًا ما قد يصبح شيئًا أسطوريًا تتشكك العقول في حقيقة وجوده من عدمها، وأما عن الكره فيومًا ما سيكون وحده  الشعور الباقي للبشر ليكملوا به المسيرة، كان معتز يجلس بإحدى غرف الكشف داخل واحدة من

العيادات الخاصة بينما صديقه الطبيب أسامة يجلس أمامه وكامل تركيزه منصب على جرح كفه الذي يبدو أنه يحتاج للتقطيب، وقف أسامة وتوجه نحو الطاولة التي توضع عليها أدوات الجراحة وبدأ بفضها من أكياس التعقيم وهو يقول " ما سبب هذا الجرح يا معتز، إنه عميق ويحتاج للتنظيف والتقطيب، أتعلم أن هذه أول مرة أراك بها مجروح، فأنت طوال الوقت كنت الشاب المدلل

الذي يحظى باهتمام جميع من حوله لدرجة تجعلك آمن حتى من الخدوش العابرة  " لم يجبه معتز الذي كان يتنفس بانفعال ليلتفت له أسامة الذي يحمل قطنة معقمة وإبرة مخدر موضعي وقال " ماذا أليس لديك ما تقوله " قال له معتز " بل لدي يا أسامة، إنهِ عملك بصمت واحرص على ألا تترك تلك القطب في يدي أي أثر، هل هذا يكفيك " قال له أسامة بمزاح " تحت أمرك، سأحرص على أن

تكون القطب خفية بشكل سحري لتحافظ على تفاصيلك الأرستقراطية فلا تتشوه، فالمجموعة بأكملها لديها حدس أننا سنفرح بك عن قريب " قال له معتز " تفرحون بي كيف، هل قررتم تزويجي دون علمي " قال أسامة بابتسامة " لا ولكن العاصفة الجديدة التي ظهرت في مجالك والأحمر الصارخ خاصتها لم يدعا مجالًا للشك " قال له معتز بسماجة " حقًا لقد تفاجأت ببلاهتكم، فهي ليست الأولى ولا

الأخيرة " هز أسامة رأسه مؤكدًا وقال " لديك حق، لكن ماذا ستفعل إذًا إن علمت أنهم قد قارنوها براوية ورجحت كفة راوية مجددًا، كما رجحت على كفة جميع من سبقوها وجميع من أتوا بعدها " قال معتز بغضب " أسامة لا تجعلني أشعر بأني أخطأت حين أتيت إليك، لمَ لا تباشر عملك وتغلق هذا الحوار " قال أسامة وهو يحقنه بالمخدر الموضعي " لا داعي لتشعر بشيء يا معتز، فأنا أعرفك

منذ سنوات وأعرف أنه دومًا ما كانت كلمة الحق لا تروقك، دومًا ما وجدت في الاعتراف بخطأك صعوبة يا صديقي وهذا ما دفعك لتكابر ولا تعترف بخطأك حين خنت راوية " أشاح معتز بوجهه بعيدًا للحظة قبل أن يقف بانفعال ويتحرك مسرعًا ليخرج من غرفة الكشف دون أن يقطب جرحه، ركض أسامة خلفه لافتًا أنظار رواد العيادة للمشهد المريب وهو يقول " انتظر …لا

يمكنك الرحيل وجرحك بهذا الشكل " ولكن معتز كان قد ولج إلى المصعد وأغلقه، وظل واقفًا بثبات داخله كأنه جسم متحجر لرجل ولى عهد لينه وانتهى، حين فتح باب المصعد خرج معتز بخطوات عنيفة متجهًا خارج المبنى قاصدًا سيارته لا يفكر في وجهته ولا بأي شيء كأنه لا يريد لعقله أن يسقط في فخ التفكير المؤرق فينقذ ذاته بأن يجمد كل شيء داخله حتى الشعور، حين وصل إلى

سيارته وجد نفسه يستند إليها بتعب شديد لم يكن سببه ذلك الجرح العميق بل جرح آخر يأبى أن يعترف حتى لذاته أنه يشق معصميه من الوريد للوريد، مد معتز يده بجيبه ليخرج مفتاح السيارة وهو يسمع صوت دراجة نارية تقترب منه فلم يهتم وهو يضغط زر القفل الإلكتروني لتنطلق من بين شفتيه صرخة مدوية حين شعر بشيء يخترق جسده وبدأت بقعة من الدماء تتسع وتتسع على

ملابسه حتى بدأت الدماء تتساقط أرضًا فترنح بقوة نحو سيارته ثم أرخى ثقله عليها قبل أن يسقط أرضًا بقوة وهو يبحث بعيون مبهوتة عن الشخص الذي أطلق عليه النار فلم يجد بالمكان أحد سواه قبل أن يفقد الوعي …..

✰✰✰✰✰
اسألي القابعون في صدري عمن أغلق الأبواب، يا امرأة أعلم أنها إن شاءت

ملكت لكل سؤال جواب، اسأليهم عن الحقيقة مرة وانفُضي عنك أغلال السراب، فإن أعجزك الماضي عن أن تملكي زمام الحقيقة فها قد حان الوقت لتفعلي الصواب، فتقدمي نحو قضبان سجني ومريها أن تفل كما لو أنها عذاب مذاب.
✰✰✰✰✰.
ليست كل خطط القدر ستكون مرضية لنا لكن الأهم من ذلك أنها مؤكد ستكون

عادلة رغم كل الألم الذي نجد ذاتنا في مواجهته ….. كان شهاب رغم تأخر الوقت ورغم تعبه الجسدي والنفسي مازال يدور حول ذاته دون كلل عساه أن يجد نقطة ضوء في ذلك النفق المظلم الذي وجد نفسه دون تخطيط تائه في منتصفه يصارع أشباح خفية، كان عاجزًا تمامًا عن أخذ وقت مستقطع ليستعيد به توازنه بعدما أفضت كل التوقعات إلى أن تلك التي اختفت مؤكد في خطر سيجعلها

تلحق بمن رحلوا، ربما غدًا أو قبل الغد ربما بعد ساعات أو أقل سيتم استدعاؤه إلى مكان مجهول ليجد ذاته في مواجهة جثتها التي طعنت أو نحرت أو ربما …..أغمض شهاب عينيه بألم شديد وهو يترجل من سيارته التي قادها إلى هذا المكان رغم حلكة الليل ورغم غرابة الموقف لأن بداخله يقين أنه مؤكد أهمل شيء بسبب تضارب أفكاره، ربما دليل أوإشارة، أو أكثر من ذلك، ولج شهاب

لمكان الجريمة بحرص شديد، ووقف يتأمله بعيون أكثر تعطشًا للفهم، بدأ يركز في تفاصيل كل شيء، ويتخيل بعقله المجهد حقيقة ما حدث هنا، تقدم شهاب ينظر لآثار الدماء والمكان الذي وجدوا به الجثة لينحني باستغراب وهو يبحث باستماتة عن أية آثار للمقاومة علّ الأمور تصبح منطقية قليلًا ليضيق عينيه وهو يشعر من دقة تنظيم المكان أن مؤكد هناك قطع أثاث تحركت من مكانها،

تحرك شهاب نحو المدفأة التي تتوسط المكان وظل واقفًا أمامها بغضب شديد يتذكر ما رآه بجوارها لحظة وصوله ليهز رأسه بحركة منفعلة يداري بها ذلك السر الذي لن يبوح به لأحد وبدأ يتخيل الطريقة التي حدثت بها الجريمة، تحركات القتيلة …تسلل القاتل …مهاجمته لها ولكن يبقى شيء واحد غير مفهوم وهو ….قاطع أفكاره صوت سيارة تتوقف خارج المكان فأسرع شهاب يخرج

ليقابل عدي الذي سأله بمزاح " هل وجودنا هنا قانوني " تجاهل شهاب سؤاله وقال له " لماذا لم تخبرني بالمعلومات التي نشرتها بمقالك قبل أن تنشرها " قال له عدي " هل علينا أن ندير نقاشنا هنا، لنذهب لأي مكان ونتكلم " لم يبد على شهاب أي نية في المغادرة خاصة وهو يخرج علبة السجائر من جيب معطفه ويخرج أحدها ويضعها بين شفتيه  فقال له عدي " لم أتعمد

ذلك ولكنها معلومات مؤكدة وجاءتني عن طريق الصدفة، هل أقول للخبر الحصري لا، هذا يعد رزق علي أن أشكر الله عليه، ثم كما اتفقنا الأمور ستكون مقايضة معلومة مقابل معلومة " سأله شهاب بجدية " أيعني ذلك أن لديك معلومات مؤكدة تخص ابنة محمود الحوفي " قال له عدي " نعم يا باشا لكن كل شيء بثمنه " احتدت نظرات شهاب بشكل جعل عدي يقول بسرعة " اهدأ ولا داعي لتلك

النظرات، بت لا أعرف ماذا سيكون مصيري إن لم أكن أخاك، يا شهاب أنت تظلم ذاتك بانغماسك الكلي بالعمل وإهمال راحتك وحياتك الشخصية، ألا يحزنك نظرات والدتك إليك والتي لا تخلو من القهر والحسرة، قل لي ما الذي يمنعك أن تتزوج وتستقر وتكون أسرة وتجد امرأة تشاركك حياتك وتهون عليك عناء أيامك وبدلًا من الركض نحو مسارح الجريمة في منتصف الليل تركض نحوها

لتنعم بقربها، العمر يمر يا شهاب ولا ينتظر أحد " أخذ شهاب نفس عميق من سيجارته وقال له " أهذا كل ما لديك " نظر له عدي بيأس وقال " لا، فهناك عامل توصيل طرود علّق على خبر اختفائها الذي نشرته على صفحتي الشخصية، وقال أنها استدعته في نفس اليوم الذي اختفت به صباحًا وسلمته طرد لم يذكر وجهته، وبعدها ظل يتغزل بجمالها الحزين، ألديك فكرة عن وجهة

طرد أرسلته فتاة ربما تفكر في الانتحار أو الاختفاء أو حتى تشعر بالتهديد " عقد شهاب حاجبيه وهو يقول " أرسل لي صفحة هذا الشاب لأتواصل معه، لربما يكون هذا بداية خيط علينا أن نسير خلفه " قال عدي بتفكه " أتعرف ما الذي أخشاه ؟؟ أن يكون الرأي العام منقلب رأسًا على عقب بحثًا عن فتاة وقعت في قصة حب نمطية وقررت بلا أسباب الهروب مع حبيبها، هذا وارد جدًا

فهناك فتيات عقولهن بها جزء لا يفكر مثل باقي البشر، تخيل معي أن تكون فعلت ذلك كنوع من حفظ الخصوصية والأمر بأكمله لعب أطفال " سعل شهاب فجأة بقوة أفزعت عدي الذي اندفع نحوه يسأله " ما بك، أعطني هذا القرف " ثم سحب السيجارة من يده وألقاها أرضا ليظل شهاب على سعاله كأنما هناك شيء ضخم ارتطم بقلبه مهددًا نبضه بالسكون التام، تحرك شهاب نحو

سيارته واستند عليها محاولًا جمع شتاته ليقول له عدي " أتريد أن نذهب للمشفى " ليلتفت له شهاب ويقول بجمود " إن تكلمت عن تلك القضية مجددًا أمامي فتكلم بجدية لأن هناك روح إنسانة ….على المحك " ثم فتح باب السيارة وركبها وانطلق تحت نظرات عدي الذاهلة والذي قال بصدمة " هل تركني ورحل ".


✰✰✰✰✰.
رائحتك لا تمثل لي سوى خريطة معقدة الطلاسم وأنا مستنزفة العقل ورغم ذلك أسير خلفها مطمئنة كأنها ستصبح مرشدي حين يأتي وقت الحقيقة المدوية.
✰✰✰✰✰.
إذا كان للصحوة ثمن لا تملكه فحاول أن تتصالح مع سكرتك حتى يشاء القدر لها أن تنتهي، سكون مقبض يملأ الفراغ الضيق الذي يفصل خطاهما عن

بعضها، سكون لا يصدعه سوى صوت نهنهاتها والأنين، سكون حاولا معًا أن يتجردا فيه من بشاعة ما كانا على وشك فعله كأنما لم يعد هناك ما يقال ورغم ذلك بات مصير خطاهم واحد، كان بربري يضع يديه في جيب بنطاله ويسير جوارها بهدوء يراقب انتفاضة جسدها التي كانت تزداد لا تهدأ وهو عاجز تمامًا عن التعامل مع حالتها، فلم يكن يومًا ضليع في التعامل مع دموع النساء، تنهد بقوة ثم

زفر أنفاسه قبل أن يقول بنفاذ صبر " لماذا تبكين الآن، لقد هربنا " رفعت له وجهها وقالت " هربنا !! أهذا كل ما يشغلك " قال لها بربري بتفكير " بالطبع، فلو تم القبض عليّ بسببك لجعلني الرجال أضحوكة حتى مماتي، بعدما ضربت الغندور ورجاله وهشمت واجهة محله وسرقت سيارته ثم علمت على السني الذي يهز اسمه أجساد ضخمة وفي أرضه، يتم القبض عليّ بسبب حرمة "

عقدت حاجبيها ونظرت له بغضب ثم أشاحت بوجهها وقالت " تقصد بسبب مجرمة " قال لها بربري " لا تكبري الموضوع، جميعنا مجرمون، أتعلمي أني والرجال دخلنا قبل خمسة أشهر معركة قطعت فيها كف رجل حاول مهاجمتي ورأيت كفه وهي تنفصل عن ذراعه وتطير في الهواء على بعد متر منه أما الدماء فانفجرت في وجهي وغرقت ملابسي والرجل ظل يصرخ ويركض خلف كفه

التي لم ينتبه لها أحد في خضم ما …..قاطعته صارخة برعب واشمئزاز " كفى …كفى، ما الذي تحاول فعله بالضبط، هل تشعر أنه ينقصني رعب " قال لها بعبوس وحزم " لا تصرخي لقد كنت أحاول أن أهون عليك شعور الذنب، فليس هناك فرق بين الكف والعنق، أنا قطعت كفه وأنتِ قطعت عنق الجثة " توقفت بصدمة كبيرة وقالت " توقف عن سرد حقيقة ما حدث

بهذه الهزلية، فالأمر مروع " قال لها بربري بجدية" أتعرفين، أنكِ يجب أن تكوني الرئيس بدلًا مني فنحن جميعًا سجلاتنا لدى الحكومة لا يوجد بها حكم واحد وصل لعامين أما أنتِ فتخطيتنا جميعًا لا تنتظرين مدة بل حبل المشنقة، جبارة يا …..عبس بربري وقال " تخيلي أني مازلت لا أعرف اسمك " قالت له بتجهم " اسمي وتكه أليس هذا ما تناديني به منذ التقينا " ابتسم وقال " اسم على مسمى يا وتكه "

قالت له وهي تمسح دموعها " بمناسبة الأسماء، هل بربري هو اسمك الحقيقي " نفخ بربري صدره وقال بزهو" لا إنه الاسم الحركي " رمقته بنظرة متهكمة وقالت له " أتعرف معناه؟ " قال لها " بالطبع فهذا الاسم خلفه قصة بدأت حين ….قاطعته قائلة بانفعال " لو أن بالقصة أشياء تطير ودماء تنفجر أعفني منها أرجوك " قال لها" لا يصح أن يكون قلبك طري هكذا وأنتِ أصبحت قاتلة قديرة " توسعت

عيناها بصدمة ثم أطبقت كفها وضربت كتفه بكل قوتها وهي تقول بغضب " أنت معدوم المشاعر، بربري فعلًا " ابتسم وقال لها " اسم على مسمى أليس كذلك " قالت له" ما هذا الغرور، ماذا كنت ستفعل لو كان اسمك اللورد " قال لها بجدية " لا، اللورد هذه أمواس الحلاقة التي ألجأ إليها في المعارك الفجائية، أما بربري فهو اسم أطلقه عليّ رجل من المتعلمين الذين درسوا بالخارج وولدوا

وفي فيهم ملعقة ذهب، كان هناك من يريد تأديبه ووكلني ورجالي بالأمر فذهبت لبيته ونفذت المهمة على أكمل وجه مازال صوت تكسير ضلوعه يدوي بأذني وصراخه وهو يقول  بربري …بربري ومن يومها بت بربري …اسمي له تاريخ " شعرت أنها تقف أمام لحظة من الكوميديا السوداء التي طغت على كل شيء ودفعتها لتبتسم دون أن تشعر وهي تقول " لقد كان يسبك " امتقع وجه بربري بصدمة

وسألها " أهي مسبة؟" هزت رأسها بقلة حيلة وقالت " تخيل " ضيق بربري عينيه وقال " ما الذي يعنيه " قالت له " لن أخبرك حتى تخبرني هل لديك مال " قال لها " أهو ابتزاز " أجابته " شيء من هذا القبيل " سألها " فيما تحتاجين المال " قالت له " أريد أن أشتري بعض الملابس، فرائحتي كلها موت " قال لها" أليس معكِ شيء من المليون جنيه؟ " قالت له" حاليًا لا للأسف " قال لها وهو يرمقها بارتباك "

لم آخذ مال يكفي شراء ملابس وطعام حين خرجت " قالت له بهدوء " لا يهم، دعنا نسرقهم كما سرقنا السيارة، لن يكون الأمر أسوأ مما عشناه ثم لا تنس أن العواقب لن تكون واقعية مطلقًا " قال لها بجدية " إن سرقت لكِ ما تريدين لن تخبريهم أن اسمي مجرد سُبة " قالت له بجدية أدفأت صدره فجأة " لم أكن لأخبرهم مطلقًا فأنت رفيق حلمي ولم أكن لأجرحك " ابتسم وقال " نعم فأنتِ

تقتلين على الفور " زغرته بلوم فسحبها من يدها نحو رجل كبير في السن يقف خلف عربة خشبية بسيطة ويبيع حمص الشام وقال له " اثنين يا حاج ولن أوصيك " أخرج بربري من جيبه ورقة مالية صغيرة ومنحها للرجل وقال له " ليكن الباقي لأجلك " ابتسم له الرجل وربت على صدره وقال " بألف هنا " قالت له بتعجب " أتترك له إكرامية ونحن على وشك أن نسرق لنأكل " قال

لها بربري " هذا تحديدًا ما يعنيه المثل الذي يقول لا تهون سوى على الغلبان " ثم ناولها كوب ساخن نظرت لمحتواه باستغراب وقالت " ما هذا؟ " ابتسم بربري وجذبها ليبتعدا قليلًا عن العربة وقال " هذا المشروب المطلوب في هذا الوقت، انظري " عصر بربري شريحة الليمون في كوبها وقال لها " لا تبدأي بالأكل بل اشربي جرعة كبيرة دفعة واحدة وستجدين ذاتك تكملين الكوب لا

إراديًا " ترددت في فعل ذلك فقال لها " ستندمي إن لم تتذوقيه " نظرت لخصرها وقالت " أتعلم أني لم أقس خصري في هذا الحلم ورغم ذلك أشعر أن وزني يزداد أهذا منطقي " قال لها بربري " عدنا للهذي، خذي جرعة هيا لنلحق السرقة التي تنتظرنا " نظرت للكوب ثم أغمضت عينيها وقربته من شفتيها بحذر ليدفعه بربري فجأة بقوة فتتجرع منه جرعة كبيرة جعلتها تشعر أن هناك نيران عبرت

إلى داخلها وأن مجرى تنفسها قد انغلق كما لو أنها تختنق.
✰✰✰✰✰
كن هادئًا وأنت تغير قواعد لعبتك، فما بدأته بذكاء عليه أن ينتهي بنفس الطريقة وإلا ستكون العواقب أوخم من أن تحملها أو تتحملها، ففي النهاية النجاة ليست مرهونة بالأمهر ولكن مرهونة بالأخطر.
✰✰✰✰✰.

بداخل مصحة دويدار للعلاج النفسي والإدمان….

كلنا بخطر ولكن أخطر ما في الأمر أن نصبح نحن الخطر ذاته، كانت تتلوى وتشهق بقوة، جسدها الشاحب المستكين على السرير منذ أيام ينتفض بشدة كما لو أنها تنازع الموت،
ملامحها التي كانت شديدة العذوبة والهدوء تتجهم أكثر وأكثر كأنها تختنق،

جسدها الناعم يتشنج بشكل جعل ماجدة تقتحم الغرفة وتركض نحو السرير محاولةً السيطرة على تشنجاتها قدر الإمكان وحين لم تستطع صرخت بأعلى صوتها " ليهاتف أحدكم الطبيب كريم ويخبره أن عليه الحضور فورًا، أخبروه أن الوضع حرج ".




✰✰✰✰✰.
لنبقى ذوي وجوه هادئة خادعة لا يستشف منها فوضى أعماقنا التي باتت تتصاعد بشكل يجعل من ملامحنا محض فوهات لبركان ثائر.
✰✰✰✰✰.

بنفس الوقت بمكان آخر ……….


مادامت جميع أفعالنا كانت مع سبق الإصرار والعزيمة إذًا محال أن تكون العواقب شيئًا يؤخذ بعين الاعتبار، يقف بثبات ينظر من علو للجسد المسجي أمامه وبقعة الدماء التي كانت تتوسع أسفله وهو يمسك بين يديه نصل حاد مضرج بالدماء ويقوم بتنظيفه بهدوء تام كأنما لديه كل الوقت الذي يريده لفعل ذلك، مرت لحظات قبل أن ينتهي من مهمة التنظيف ليفتح سترته ويضع

بداخلها النصل ثم يغلقها وينحني نحو الدماء التي كونت بركة صغيرة أمام قدميه وبدأ يلعب داخلها بأصابعه التي كانت متوارية داخل قفاز سميك ويخط بالدماء حروفًا كونت كلمات وكلمات كونت رسالة ورسالة كونت لغزًا ولغزًا كون عقدة جديدة لن يسهل على أحد حلها ……
✰✰✰✰✰.
انتهى الفصل قراءة ممتعة للجميع ❤️



























































































مابين السطور رجل ( شهيرة محمد) حيث تعيش القصص. اكتشف الآن