الفصل الأول

853 44 2
                                    


الفصل الأول

(ما زال الناس هكذا: لهم عدو وصديق، ولكن نعوذ بالله من تتابع الألسنة كلها...الإمام مالك بن أنس.)

(بعد سنوات)

(بيت آل طالب)

(حق، يا حق! أسرعي، هات الشاي بسرعة!) التفتت أختها الصغرى لحق تقول لها بقلق وهي تنهي رص الكؤوس على الصينية (هيا حق! أسرعي! لا تريدين سماع عتابها من جديد) حملت الصينية بمرح تجيبها ببسمة تبدو لأعمى البصيرة بلهاء(ستصيح على قليلا ثم تهدأ بعدها، لا بأس.) ابتسمت أختها بتأثر من طيبتها الساذجة، وحملت طبق الضيافة تتبعها بروية كي لا يظهر عرجها الذي أصيبت به جراء كسرٍ في صغرها لم يعالج طبيا بما يناسب إلى أن شفي على عٍوجه وترك لها ندبة لا تُنسى. وضعتا الضيافة على المائدة ثم تجاورتا على أريكة غير التي تحتلها ميمونة زوجة عبد الله الثانية بعد وفاة والدة ياسر وحق، مع جارتها التي تناولت منها كأس الشاي باسمة بمجاملة (تفضلي يا حاجة، شرفتنا بزيارتك.) لمعت سن المرأة الذهبية وهي تتأمل الأختين بشفقة مزعومة (شكرا لك، عسى الله أن ينعم على ابنتيك بزوجين صالحين.) زمت ميمونة شفتيها بغل تدرأ به حرجها فهي على علم بسخرية النساء خلف ظهرها من ابنتها الوحيدة مع أنها وربيبتها قد أغدق الله عليهما بجمال يميزهما، وينقص في نظرهم بعاهة كل منهما (آمين، تفضلي، خذي الحلوى.) لم يكن لسانها قد اكتفى من الثرثرة تضيف بمكر وهي تلتقط قطعة من الحلوى (ابنتي نجوى جاءها الخُطاب للمرة الثالثة، وهي مصرة على رفضها متحججة بالدراسة.) كظمت ميمونة غيظها ترد عليها من بين أسنانها (سامحك الله يا حاجة، الفتاة ما تزال صغيرة، إنها في نفس عمر ابنتي رواح.) بلعت المرأة ما في فمها ثم قالت لها مستنكرة بضيق (وما المشكلة! أنا تزوجت في سن أصغر منهما، على العموم هي سنة واحدة وينهين الثانوية، والفتاة ليس لها سوى بيتها وزوجها.) لم يبدُ على حق الاهتمام بما يقال تركز على الأخبار المعروضة على شاشة التلفاز، بعكس رواح التي تتقطع دواخلها بسكاكين الخزي والخجل من كلام المرأة الناكث لجروحها النازفة؛ لطالما رأت نفسها أقل من الفتيات إن كن من مثل سنها أو غيره.

أردفت الحاجّة مستغلة نظرة الانكسار في عينين ميمونة التي لا تتمنى من الدنيا سوى زواجاً لائقاً لابنتها رواح، فسبحان من هو أدرى بالسرائر إذ أن الأخيرة تجهل امتلاكها لما تسعى إليه من سلمتها أحشائها لتعيث فيها فساداً، فحجب عنها الغيظ والحسد مأرب المرأة الظاهر من جملتها التالية والتي نطقتها بتلقائية أتقنتها (والله يا ميمونة لا يواسي غضبي من رفضها للمتقدمين سوى أملي في أن تكون من نصيب هذا البيت، نِعم الأهل والأصل.) أسرعت الغافلة بالرد عليها مجاملةً وطمعا يشبه طمعها في ابنها قرين ربيبها ياسر (إنه لشرف لنا إن حدث و تناسبنا عزيزتي، أسأل الله الهداية لياسر، لا أعلم ما يؤخره عن الزواج! وكلما فاتحه والده وعده بالتفكير في الأمر.) هزت الحاجة رأسها باستياء مزعوم بينما تجيبها (ابني أيضاً يجيبنا دوماً بوعد لا يتحقق بالتفكير في الزواج، عسى أن يكون زواج ابن آل عيسى فاتحة خير للبقية.) تبرمت ميمونة بشفتيها متهكمة (من أين سيأتي الحظ؟ إنه زواج المصالح يا عزيزتي، فواحد منهما مجبر على التنازل للآخر عن المقعد في البرلمان.) (وماذا في ذلك يا ميمونة؟ تتحد العائلتين وتبقى المدينة على وحدتها كذلك.) ثم تنهدت تردف (عسى الله أن يوفقهم.) حل الصمت عليهن للحظات قلائل التفتت فيهن الحاجّة ناظرة إلى حق بحنق من تلك الفتاة الفريدة من نوعها وكأنها ليست من أهل هذه الأرض لا يهمها حديث أو ثرثرة؛ لا زواج ولا طلاق، والناس بدنياهم لا محل لهم في فكرها ولا اهتماماتها، وما فاجأها حقا أن العديد من شباب المدينة يريدونها لولا أن لأمهاتهم رأي آخر يعتبرنها بلهاء لصفاتها الشاذة عن عادات الناس الغالبة في زمانهم فظنوا بها نوعاً من الإعاقة الذهنية التي ورثتها عن والدتها التي سُميت باسمها. فاض بها الحنق حتى حرك لسانها بسؤال تقطع به الصمت(وأنت يا حق ماذا تدرسين؟) التفتت إليها حق ترد عليها بصدق وكأنها جُبلت عليه (أدرس التسيير الإداري، السنة الثانية والأخيرة في المعهد المتخصص.) ضمت المرأة شفتيها جانباً ثم تشدقت بردها (وهل في المدينة غير ذاك المعهد؟) فتبسمت لها حق بسرور حقيقي (الوضع سيتغير يا خالة، بنايات الجامعة الجديدة جاهزة وستفتح أبوابها السنة القادمة بإذن الله.) قطبت المرأة جبينها بينما ترد عليها بضجر (ولمَ أنت سعيدة لهذه الدرجة؟ لا أظنك ستتمكنين من ولوجها.) ثم تابعت بتشدق مغيظ (ابنتي نجوى لم يسعدها الخبر تتمنى الالتحاق بالجامعة الكبرى في العاصمة، ورغم أنها كانت لتسكن عند شقيقتي لو حدث ووافقنا، لكنني لا أفضل ابتعادها عني.) تلكأت ثم تابعت بضيق (لو أعرف ما تفكر فيه تلك الفتاة العنيدة؟!) ضحكت حق تعلق بسذاجة ( ابن آل عيسى.) (ماذا؟!) هتفت الحاجة بذهول فتلبكت رواح بفزع وقامت حق تهم بالانسحاب حين لمحت وجه أختها المحمر رعباً، إلا أن فضول النساء ليس له دواء؛ أمسكتها الحاجّة بكلتي يديها تسألها بتهديد يشع من مقلتيها الحادتين (ما علاقة ابنتي بعائلة آل عيسى؟) أسدلت رواح جفنيها بأسف يائس لأن أختها تكمن بلاهتها في صدقها اللامتناهي، ولم يتأخر الجواب بنبرتها المتوترة ومقلتاها ترسلان نظرات اعتذار لرواح مدركة رغم سذاجتها لما تسببت به دون عمد من مشكلة ( الحقيقة أن ن...نج...) (تحدثي يا فتاة!) حثتها بحدة فانتفضت تهتف بخوف قبل أن تنسحب هاربة من غرفة الجلوس (معجبة بابن آل عيسى الأصغر...) همست الحاجة لنفسها بعدم تصديق ( عيسى ...كيف؟) ثم التفتت إلى الجامدتين مكانيهما كصنمين تعجزان عن التصرف بما يناسب الموقف، فنتشت حقيبة يدها مهرولة بعد ما ألقت عليهما سلاماً مقتضباً ردت عليه ميمونة ببسمة لم ترها الأخرى (لمَ العجلة يا حاجة؟ عودي بسرعة لزيارتنا، رافقتك السلامة.) سمعتا باب المنزل يغلق ببعض الحدة فتنهدت رواح بقلق تهتف (يا إلهي ارحمني! ما هذه المصيبة؟) حملت والدتها الصينية قائلة لها بينما تتبسم بشماتة واضحة (الجميع يعرف ببلاهة أختك!) نظرت إليها رواح بصدمة، لأول مرة تصدر منها ردة فعل مشابهة حين يتعلق الأمر بحق، فهي عادة تقيم الدنيا ولا تُقعدها، كما تُحملها ذنب الحادث الذي كُسرت فيه رجلها تردد على مسامعهم جملتها اللازمة ''لولا بلاهتها لما سهت عن أختها فوقعت على الدرج''. سرعان ما عاد فكرها إلى نجوى فوضعت كفها على قلبها المسرع كأرنب مذعور تهمس فزع ( آه يا حق! فتحت علي أبواب جهنم.)

حق بين يدي الحق .1.سلسلة نساء صالحات..منى لطيفي نصر الدينWhere stories live. Discover now