الفصل الخامس

631 34 8
                                    

الفصل الخامس

مثل المنافقين في المسجد كمثل العصافير في القفص إذا فتح باب القفص طارت العصافير... الإمام مالك بن أنس.

(منزل المرابط)

تعبت من وقوفها فمالت بجسدها قليلا كي تتمكن من إسناد رأسها على بلور النافذة الكبيرة في غرفتها، والمطلة على الحديقة الأمامية لمنزل العائلة، تنتظر عودة أهلها من زفاف آل عيسى. عبست بخفة بالتزامن مع أفكارها العاتية، تتساءل بأي عقل يطلبون منها حضور عرس أودعت به سائر أحلامها الأنثوية قبل أن تستيقظ منها على رفض مُخزي ألقى بها من علياء أمانيها إلى أرض الواقع المخجل. تنفست بعمق وهي ترنو عبور السيارات للبوابة الكبيرة، فتستنكر دون أن يغادر صوتها حلقها؛ إنها ليست كصباح، لا في قوتها ولا في جرأتها. ابنة عمها التي استغلت فراغ قلبها فدفعت بمشاعرها نحو إبراهيم، وهي كانت مستعدة للانشغال بعاطفة تؤنس وحشة قلبها بعدما أولت تركيزها الكامل لدراستها، مكتفية باهتمام والدها بها والمبالغ به أحيانا كثيرة، لكن وفي فترة ما لم تعد تكتفي باهتمام ودلال أهلها، تبحث عن نوع آخر من العاطفة، فكان من السهل عليها الانجذاب إلى قصص صباح عن الفارس النبيل، الرجل الكامل، القوي، الشهم و الأصيل دون أن تنسى ذكر ثراءه ووسامته الخشنة. استغربت بداية الأمر من مديحها للرجل الذي رفضت الارتباط به، فأخبرتها بأنه لا يناسب شخصيتها المتهورة، وترى في شقيقه فارس أحلامها، طبيب النفوس كما يلقبونه أهل الجبال. لطالما أطلقت صباح العنان لنبرة العبث في صوتها وهي تسترسل في سرد أمانيها عنه؛ الرجل الأنسب لها ليُروض جنونها، يكاد يُفقدها عقلها إن لم تفقده بالفعل، برزانته والغموض المحيط بشخصيته التي تزيده وسامة على وسامته الراقية، فينطلق قلبها في سباق يرج خلجات صدرها كلما لمحته أو حتى زار أفكارها، و كالعادة أحلام ابنة زكرياء المرابط يجب أن تُحقق بأي ثمن، لكن الثمن هذه المرة قد طال كرامتها وكبرياءها، حين عبّأت رأسها بأوهام عن مدى توافق شخصيتها الهادئة مع شخصية ابراهيم القيادية، فصدّقت ابنة عمها لكنها لم تكتم مخاوفها وأفضت لها بتحفظاتها عن الأمر، فهي أبدا لم تكن لتَعْرض نفسها على أحد، لولا تأثرها المخجل بابنة عمها منذ الصغر، فأمّنت على حديثها، وها هي الآن تتجرع الخيبة المريرة من حُب أوهمت به قلبها المسكين و من ذل أنهك كرامتها.

رفعت رأسها من على البلور لتهتف بفتور للقادم المعروف لها (تفضل!) فتح الباب ليطل برأسه باسما بحنو قبل أن يدخل بكامل جسده، يخاطبها بلطف وهو يهم بإغلاق الباب (هل تسمح لي حبيبة قلب والدها بدقائق من وقتها؟) ابتسمت رغما عنها تهز رأسها وهي تجلس على طرف سريرها، فاتجه نحوها وفعل مثلها بعد أن قبّل أعلى جبهتها مستفسراً منها برقة (كيف حالك اليوم؟) ضمت شفتيها تعبر بملامحها عن الحزن والتهكم بينما ترد عليه بنبرة بدأت بالتحشرج (لقد سألتني نفس السؤال قبل خروجك.) علا الوجوم ملامحه قابضاً يدها بين كفيه، فاستطردت تدّعي الهدوء (لا تشغل بالك بي، سأكون بخير، كيف كان حفل العرس؟) (لا يهمني العرس ولا أهل الجبال بأكملها! و بمن أشغل بالي إن لم أشغله بك أنت؟) نطقها بتحفز قلق فشدت على كفيه ترجوه بألم (أرجوك أبي، لا أريد التحدث عن الأمر، إنه يجرح كرامتي فأتألم أكثر .) قاطعها قائلا لها بحزم (كرامتك مصانة بنيتي، لا أحد يعلم بالاتفاق الجديد بين العائلتين، الجميع يعرفون عن صباح و إبراهيم، لماذا لم تهتم هي التي شملتها ثرثرة الناس؟ أنت....) ترقرقت الدموع من عينيها فتنهد بألم يضاهي ألمها، لا يطيق حزنها فكيف بدموعها!؟ مسح وجنتيها بينما يتأملها بإشفاق، يود لو يقتل صباح ومعها ابنه مجيد الغبي. (يكفي أنه رفضني أمام عائلتي و عائلته، يراودني إحساس فظيع بالخزي يجتاح أحشائي فينهشه بلا رحمة.) باحت له بحرقة فضمها يربت على شعرها بحنو (ماذا أفعل كي تتعافي بنيتي؟ اطلبي أي شيء!) ابتعدت عنه قليلا لتتطلع إلى عينيه ثم طلبت منه بتوسل (أرجوك أبي خذني من هنا، دعنا نعود إلى العاصمة، أنا لا أطيق النظر في وجوه الناس هنا، أشعر بالاختناق و أنا أظنهم يشفقون علي أو يشمتون بي.) تنفس بعمق يفكر لبرهة ثم قال لها باستسلام (كما تريدين يا ابنتي، سأُخبر أبي و نرحل متى أحببتِ.) نطقت بلهفة وهي تتشبث به ( غدا أبي، أثناء غياب صباح، لا أريد أن تحاول إقناعي ب....) سكتت فجأة تبلع ريقها فعبس بريبة من بترها لعبارتها (إقناعك بماذا؟) حثها بترقب لكنها تداركت الأمر تجيبه بتهرب (بأن لا أرحل، تعرف صباح و إلحاحها.) هز رأسه بغير اقتناع، فهو الأدرى بزوجة أخيه و ابنتها كما يدرك تأثر ابنته بهما، توقاً لحنان أم فقدتها ولم يستطع بكل حبه لها واهتمامه بها أن يشبع حاجتها لعاطفة الأم، فلم تجد أمامها سوى زوجة عمها لتتعلق بها وبمعاملتها لابنتها تنشد منها نفس الاهتمام (بإذن الله بنيتي كما تريدين، هيا قومي لتنالي قسطا من الراحة.)

حق بين يدي الحق .1.سلسلة نساء صالحات..منى لطيفي نصر الدينWhere stories live. Discover now