الفصل الثالث

467 37 2
                                    

الفصل الثالث

ما زهد أحد في الدنيا إلا أنطقه الله بالحكمة...الإمام مالك بن أنس.

(منزل آل عيسى.)

(على العموم أنا سأتزوج.) تلونت نظراتهم بالاستغراب من القرار المفاجئ لهم بطريقته الغريبة والتوقيت الأغرب، إلا أن إيجّة أول من سألته بلهفة أم وشبح الابتسامة يتشبث بجانب شفتيها (حقا يا ولدي؟ ومن تكون؟) تلك الثواني التي ضم فيها شفتيه قبل أن يجيب والدته أعلمت جده أن العروس لن تنال رضاها وموافقتها (ابنة آل طالب، شقيقة ياسر صديق طفولتي ومدير مصنع المرابط.) وقع الصمت بثقل فوق رؤوسهم المفكرة قبل أن تشهق والدته بذعر تهتف (أيهما؟ البلهاء أم العرجاء؟) (أمي!) استنكر إبراهيم ناظراً إليها بعتاب، والجميع مستغرق في التفكير، وكأنهم يبحثون في ذاكرتهم عن المعنية، باستثناء منصف المحدق ببلاهة يحاول مجاراة الحوار (سأتقدم إليهم لطلب الكبيرة واسمها حق يا أمي، اتقي الله في الناس ولا ترميهم بالألقاب!) لم تستطع والدته التخلص من الذهول وهي تفسر له بتشوش (استغفر الله يا ولدي لكنه ليس لقبا بل الفتاة بله...) (أمي!) بدا الاحمرار على وجهه قان من شدة ما يكبت من غضب لأجل والدته غير مستوعبة على الإطلاق لما يخطط له بكرها. استوى الجد على أحد المقاعد في البهو الكبير لمنزلهم دون التفوه بحرف واحد، يراقب بصمت متمعن بينما إسماعيل يتقدم منه مستفسرا ونظراته المدققة تطوف حول ملامح وجه إبراهيم الجامد (أخي، هل أنت متأكد من قرارك؟) زفر إبراهيم ماسحاً على وجهه ثم رد عليه بتعب (أنت أيضا يا إسماعيل، الفتاة..) قاطعه شقيقه مفسراً سؤاله (أنا أعني رغبتك بالزواج.) فهز رأسه ناظراً إليه بثقة (أجل، أنا واثق.) فعادت والدته إلى الهتاف بحنق والصدمة تفقدها ما تملكه من رزانة (هل فقدت عقلك بني؟ المدينة مليئة بالفتيات، لمَ هي بالذات؟ هل تريد فضحي؟ هل تعاقبني لأنني وافقت عائلة المرابط على اقتراحهم؟) جزّ على أسنانه بقوة ليحافظ على هدوئه قدر الإمكان ثم رد عليها بصبر يحسد عليه مراعياً حالتها المتفاجئة (لقد قررت قبل أن أدخل من هذا الباب، لا علاقة لك بالأمر، إنه يخصني أنا وحدي.) تدخل عيسى بسرور حين وجد ضالة أضنته حتى تذكرها (أجل، حق آل طلب لقد تذكرتها، كانت زميلتي طوال سنوات دراستي، الابتدائي والاعدادي والثانوي، البلهاء، أوووبس!) توقف حين لمعت نظرات إبراهيم بالحدة ثم تابع بارتباك، وهو يعتدل في وقفته بين عكازه وصديقه (آسف! آسف! الجميع يلقبونها بذلك لكن لو أردت رأي هي أبعد ما يكون عن البلاهة.) انتظروا تتمة حديثه باهتمام باستثناء إيجّة المنشغلة بصدمتها فلم تعره بالاً وهو يُردف بحيرة (مجتهدة وذكية دراسياً، لا تختلط بأحد وصامتة طوال الوقت، لا يستهويها أي شيء آخر غير الدراسة، كانت دوما المفضلة لدى المدرسين وتثير حنق زملائها، بل كانت تثير حنقي أنا شخصيا لأنني ومهما حاولت من جهد لا أصل لمستواها، لا أحد فعل من زملائنا.) غامت مقلتا الجد في تفكير عميق والأم ما تزال في رفضها القاطع تهتف بغيظ (لا يهمني! ما يهمني هي الفضيحة التي ستلحق بي بين النساء حين يتهامسن سخرية؛ كنتها البلهاء جاءت، كنتها البلهاء ذهبت، كنتها البلهاء فعلت! يا ربي ارحمني.) تنهد إبراهيم بمقت ومنصف يميل من جديد على صديقه يعقب بسخرية مرحة (الفتاة حصلت على المركز الأول، يا حبيبي! ومن كان يتشدق بكونه دائما المتصدر لفصله؟) قلب عيسى شفتيه بتذمر يرد عليه بتهكم وضجر (الفتاة عبارة عن آلة يا صاح، لذا لا تُحسب، لطالما شككتُ في كونها إنسانا.) ضحك منصف بخفوت ثم همس له بعينين مقلوبتين (أف! حُججك جاهزة دوما.) فرفع حاجبه الكث الأسود بينما يرد عليه بمرح انتقل إليه (طبعا، ولن تنتهي.) أجفلهما صياح إيجّة الغاضب (أنا لن أقبل بهذه الفتاة مهما حدث! لا تريد ابنة المرابط فلا مانع لدي، المدينة بل العالم بأكمله أمامك ... اختر من تعجبك شرط أن تكون فتاة كاملة لا غبار عليها!) نظر الجميع إلى إبراهيم منتظرين رده الذي تأخر قليلا وهو يتأمل والدته بصمت مريب، ثم قال لها بنفس الهدوء الذي يخفي به الكثير (وأنا يا أمي رضاك يهمني ، لذا اختاري بين أمرين اثنين، إما ابنة آل طالب أو لا أحد غيرها.) جحظت مقلتاها تسأله بريبة وصدمة (ماذا تقصد؟) ابتسم ببرود ممزوج بأسف بينما يرد عليها (كما فهمتي أمي، إن لم أتزوج تلك الفتاة لن أتزوج غيرها، الخيار بين يديك الآن يا أمي، عن اذنكم.) رمى جده بنظرة غامضة وهو ينصرف فقام الأخير من مكانه ليقف أمام كنته هامسا لها بعتاب فاضت به عيناه (تذكري أنه رجلكِ كما تحبين دائما مناداته، بكرك الذي منحك والعائلة الكثير من نفسه التي اقتطع منها والده وبقسوة، وتذكري أنه لم يطلب شيئا لنفسه من قبل، وازني الأمور بقلبك، هل هو أحق أم اجتماعات النسوة الفارغة؟) لاحت بسمة نصر خفية على جانب ثغره حين لمح نظراتها التي غامت بإشفاق وحنان على شباب ولدها الضائع، فهل ستكون سبباً بضياع ما تبقى منه؟

حق بين يدي الحق .1.سلسلة نساء صالحات..منى لطيفي نصر الدينWhere stories live. Discover now