الفصل الرابع

552 42 5
                                    


الفصل الرابع

خير الأمور ما كان منها ضاحياً بيّناً ، وإن كنت في أمرين أنت منهما في شك فخذ بالذي أوثق.. الإمام مالك بن أنس.

(آخر أيام الامتحان)

(أمام المعهد)

ترك عمله باكراً ليمضي آخر أيام دراسة شقيقته معها، يُحزنه معاملة زوجة أبيه الجافة معهما منذ صغرهما، لا يهمه حاله على قدر ما يحزن لحال شقيقته، كانت صغيرة جداً حين فقدت حنان أمهما ودفء والدهما الذي تربى على الجفاء بالرغم من حبه وحميته لأهل بيته، فلم تغنم سوى بجينات والدتهما رحمةً بها من واقعٍ قاس كان ليدمرها. لطالما شغلت باله لِتُوقِع رجولته في مأزق بين حبه لها وجفاء تربيته فعانى بصمت من أجلها لذا كان يخطط لتأمين عمل لها في شركة المرابط كمساعدة له، فتكون بجواره وأمام عينيه، إلا أن القدر خطّ صحيفتها بتصاريف أخرى ورزقها الله زوجةً لآخر شخص كان ليفكر فيه كزوج لها. تذكر موقف رئيسه المتواري خلف أحاديثه المتوترة إلى أن سأله بشكل مباشر عن رأيه في الموضوع؛ حينها رمقه الحاج زكرياء بحنو لتفهمه ثم أخبره بحقيقة شعوره بين عدم الرضا على موقفهم والتماس بعض العذر لهم بسبب فعلة ابنته، مؤكداً له عدم حمله في قلبه ضغينة له أو لشقيقته، بل العكس تماماً ما يشعر به نحوه من تقدير واحترام، ولو كان رُزق بولد لتمنى أن يكون مثله. كان ليهنأ باله قليلاً لو لم يسمع بالصدفة إحدى إهانات زوجة والده لحق، تنعت الحاجة إيجّة بالتقصير في التقاليد والاهتمام المفروض بها إبداءه تجاه عروس ابنه البكر، حتى أنها لم تمنّ عليهم بزيارة واحدة، ليعود إليه الإحساس البائس بالقلق ليقض مضجعه بهمومه. زفر بملل ساخط من أفكاره المضنية، وأراح رأسه على مسند مقعده إلى أن لمح أخته ترافق فتاة ما تتكلم معها والبسمة الواسعة ترتسم على ثغرها عكس رفيقتها والتي بالرغم من ابتسامتها الخجلة إلا أن الحزن يصرخ من ملامحها الباهتة. تجاوز دهشته من مشهد حق الباسم والمستغرق في الحديث مع الفتاة، فهو لم يعرف لها صديقات من قبل باستثناء أختهما رواح، وترجل من سيارته متوجها إليها والسرور يغمر قلبه لتلك البسمة المتشكلة بصدقها على وجهها السمح الملامح. ألقى عليهما السلام فتجمدتا مجفلتين؛ حق متفاجئة من قدومه إليها في سابقة لم يفعلها من قبل، وحفصة مذعورة تتلفت حولها كأنها وقعت في فعل فاضح. تحدث ياسر إلى أخته دون أن يغفل عن رد فعلهما (أتيت لأصحبك بما أنه آخر يوم دراسي لك.) عادت البسمة الرائقة لتكتسح وجهها، وهي تقترب منه وتخاطبه بمحبة (شكرا لك أخي، إنها مفاجئة حلوة.) ابتسم لها بسرور مستفسراً منها بعدما طرف بعينه نحو صديقتها المتجمدة مكانها كتمثال تحجر على هيئة الخوف (هل ترغب صديقتك بأن نوصلها في طريقنا؟). (لا!) لم تتفاجأ حق على قدر دهشة ياسر من رد فعلها المبالغ به، في نفس اللحظة التي سمعوا فيها صوت رجلٍ رغم برودته تشبع بحزم يعبر عن غضب مكتوم (حفصة!) لم يتخلص من دهشة ردها بعد حتى غمرته موجة ذهول أخرى بفعل اهتزاز بدنها، وشحوب بشرة وجهها بينما تسرع إلى جانب ذلك الرجل الضخم والمستعرض لبنيته بطريقة لم تعجبه كما لم يعجبه ارتعاش الفتاة المنفلت منها، فتحرك حين لاحظ نظراته المدققة ليبسط إليه يده مصافحا بينما يخاطبه بهدوء لم يخل من الحزم (أنا ياسر آل طالب شقيق حق.) أشار إلى شقيقته التي اكتشف اختفاءها خلفه فعبس بجدية والآخر يصافحه بنفس الحزم باسماً بلؤم خفي (مرحبا بك، أنا عزيز زوج حفصة.) هز رأسه ولم يعقب سوى بكلمات مقتضبة كوداع سريع رافق شقيقته بعدها إلى سيارته.

حق بين يدي الحق .1.سلسلة نساء صالحات..منى لطيفي نصر الدينWhere stories live. Discover now