الفصل الثاني

613 44 1
                                    


الفصل الثاني

إذا لم يكن للإنسان في نفسه خير ما لم يكن للناس فيه خير، الإمام مالك بن أنس.

(بيت آل طالب)

للمرة العاشرة تمسك يد أختها بحنو تطلب منها الصفح بعد أن رفضت الأخيرة جميع محاولاتها الحثيثة، لكنها لن تكون حق إن سئمت أو ملت قبل أن تحصل على مبتغاها. رمقتها رواح بتأمل ساهم وهي تسترجع كل ذكرياتها عنها؛ أختها الوحيدة غريبة هي بصفاتها الأغرب! ساذجة لحد البلاهة، حتى أن رواح تظنها في بعض الأحيان مدعية للبلاهة أو تتعمد الغباء كأنها ترفض فهم الواقع البشع للبشر، وفي مثل تلك اللحظات بالذات ترى في شقيقتها الغُربة التي تتمثل في شخصها... أجل، غربة بين أناس تنتسب إليهم ولا تنتمي إليهم، غربة بين مجتمع يدعي قِيماً لا يتحلى بها، يعتنق ديناً يترك بعضه أو أغلبه لتصير حال الأمة سرا معلناً أو ما يعرف عنه سياسة المسكوت عنه. تنهدت رواح بضجر فمن بين صفاتها الغريبة إصرارها العجيب على تحقيق ما تؤمن به (حسنا! يا إلهي حق! على العموم لن أخبرك بشيء بعد اليوم.) هزت حق كتفيها باستسلام ترد عليها بصدق ( لم أكن أريد الانصات لكِ عن تلك الأخبار العجيبة، لكنك أجبرتني، وأصريتِ علي لأتَبت مقلتي على عينيك كي تتأكدي من تركيزي، أرجوك سامحيني حبيبتي) أومأت لها رواح مؤكدة على قولها (أنت محقة، أنا المخطئة، لا عليك حق، لا عليك.) ثم تابعت في سرها بهمس لم يسمعه سواها (كنت بحاجة لمن يسمعني ويشاركني ثقل أفكاري المعذبة.) تناهى إلى أسماعهما صوت مناقشات ما، فأسرعت رواح لتتقصى عن الأمر بخلاف حق التي التفتت إلى كتبها وهي ترتمي على سريرها فعادت الأخرى تسألها بحنق حتى لا تذهب لحالها فيلومها والدها أو ياسر(ألن تأتي معي؟ يبدو أنه ياسر يناقشه أبي في موضوع ما، أراهن على أنه الزواج من جديد.) تبلدت ملامح حق تنظر إليها بطريقتها الغريبة، حين تتجمد مقلتاها بينما الرموش لا تتوقف عن الرفرفة، فتنهدت رواح بصوت عالي وهي تجذبها بيأس مزمجرة (بحق الله، هذا ليس وقت بلاهتك!)

(يا أبي من فضلك، سأفكر في الأمر، لمَ العجلة؟ إنه زواج يا أبي...زواج!) لم يتململ والده في مجلسه متكئاً على الأريكة يرتدي جلبابه البيتي الخفيف، ويرمق ابنه بنظرة من يقرأ سريرته، فيتهرب ياسر بنظراته التي لا تضطرب سوى أمامه (أريد سببا واضحاً لعظم اتخاذ قرار كالزواج.) نطقها بهدوء مستفز وزوجته تراقبهما بترقب ملهوف متأملة في خطة قد تؤمن من خلالها زوجاً لابنتها في نفس اللحظة التي انضمت فيها الأخيرة وفي يدها أختها بملامحها الخالية من التعبير وجلستا فحل الصمت بينهم، ليردف الحاج عبد الله دون أن ترف مقلتاه نحو أحد غير ابنه (ما أزال أنتظر جواباً واضحاً ومقنعا أيضاً.) أطرق برأسه يخفي حسرته على فرحة غمرت قلبه ليكدرها والده بعناده. تدخلت زوجة والده تقول له بمهادنة مزعومة ( يا بني هداك الله، لمَ لا تُدخل السرور لقلب والدك وتستقر، أليس ابن آل عيسى من عمرك؟ وها هو ينوي الزواج..) (لن يكتمل!) قاطعها بحدة فاجأت زوجة والده وابنتها، أما حق فمنشغلة بقراءة شريط الأخبار الاقتصادية أسفل الشاشة بينما ترتفع زاوية فم والده ببسمة ساخرة كمن يُقِر أمراً واقعاً. تهرب منه مجددًا وهو يجيب فضول زوجة والدته (ابنة الحاج زكرياء رفضته.) ردت عليه ميمونة بدهشة متبلدة (وهل مثل ابن آل عيسى يرفض؟ لقد سمعت عن دلالها لكن لم أعلم بأنه بلغ حدّ السّفه.) تغضنت ملامح ياسر من إهانتها لمن تأثر قلبه بها، لينقبض ذاك القلب بينما يتلقى سهام حديث والده البارد المبطن (ولو كانت ابنتي لقصصت لسانها قبل أن يكسر كلمةً ألقيتها وسط الرجال، خسئت من تفعل ذلك بوالدها!) تنهد بحدة وقام ليفر من أمام والده فلا أحد يوثره كما يفعل وبأعصاب باردة. تناظرت رواح ووالدتها بتساؤل ما يزال متشبثا بملامحهما قبل أن تنتفضا على حدة نبرة الحاج عبدالله (ألا نهاية لفضول النساء هذا؟ متى سنتعشى؟) قامتا سريعا من مكانيهما، فنظرت الحاجة ميمونة إلى حق المركزة على شاشة التلفاز ثم صاحت تفرغ بها غضبها (ألم تسمعي والدك؟ قومي لتساعدينا، بلهاء!) رمقتها ابنتها بضيق لائم بينما حق تقوم من مكانها باسمة بتلقائية معتادة لا يبدو عليها تلقي الإهانة وهي تهتف مهرولة إلى المطبخ (لا داعي لقيامك أمي، سأجهز الطاولة بنفسي.) التفتت ميمونة إلى رواح تهتف بسخط (الحقي بها! ستكسر الأواني تلك الغبية أو تحرق الطعام) (أمي من فضلك! حق لا تفعل ذلك، إنها...) استنكرت رواح لتقاطعها بحدة مغيظة (بلى ستفعل كما أهملتك حتى ....) (هل ستأتين بالعشاء البائس؟! أم اخرج للبحت عنه في مكان آخر؟!) هز صياح زوجها أركان البيت، ففرتا من أمامه بخوف بينما هو يكمل بغضب (نساء حمقاوات، لا ينالنا منكن سوى المتاعب والهم!).

حق بين يدي الحق .1.سلسلة نساء صالحات..منى لطيفي نصر الدينWhere stories live. Discover now