الفصل السابع

667 38 2
                                    

الفصل السابع

العلم نور لا يأنس إلا بقلب تقي خاشع ....الإمام مالك بن أنس.

شامخاً بملامحه الصلبة لا تشي بمدى الغضب المشتعل كنيران وحشية تأتي على الأخضر واليابس في أحشائه. ترك زوجته دون وعي كما صاح ولأول مرة بأمه حين حاولت إيقافه لتستعلم عن خروجه في ذلك الوقت وبحالته الأشبه بعاصفة مُدمرة، لم يشعر بمسافة الطريق، ولا بكل من التقى بهم؛ منهم من يحاول التفسير ومن يستنكر، لم يكن يرى سوى الخراب أمامه. لقد دمر كل شيء، آلات الحفر الحديثة المُكلفة، وجميع التجهيزات، استغل حتى المتفجرات المرخصة للعمل ليضاعف من الدمار الذي ألحقه بمكان الحفر. كل تلك الخسائر لم تكن السبب في اندلاع نيران غضبه، بل هما أمرين فقط؛ أن يتحمل ذنب أرواح أزهقت بغير حق، وهو! والده ال...، عض شفته مقرعا نفسه؛ فذاك المجرم ليس بوالده ولا يمت له بصلة. رباه! لقد أيقظ أشباح الماضي بكل بشاعتها، ما كان غافلاً عن سوء أفعاله، لكن جزءاً باهتاً منه ما يزال يقاوم التسليم لليأس، وتمنى! من عمق قلبه تمنى شيئا ما بقدر ما يجهل كنهه بقدر ما تعلق به شِقٌّ من كيانه. أما في هذه اللحظة فذاك القبس انطفأ، والأمل انمحى واجتث من صميمه وحل الكره فارضاً سلطانه على كيانه (إبراهيم! رافقني من فضلك.) نظر إليه بقسوة أطلق لها العنان لتكشف عن نفسها وكان الآخر أكثر منه غضباً (تحدث يا طارق!) سمعا صياح عيسى باسمه فالتفتا ليجدا إحدى سيارات العائلة مركونة على بعد منهما، ترجل منها أخواه مع منصف وجده فزفر بضيق يتنهد (ماذا الآن؟) ربت طارق على كتفه بمهادنة (اهدأ يا إبراهيم، من الطبيعي أن يأتوا إليك، الخبر سينتشر في المدينة بأكملها، لذا يجب أن نستعجل قليلاً.) هز رأسه متفهما في نفس اللحظة التي وصل فيها جده إليهما يسأله بلهفة جزعة (ولدي! هل أصيب أحد؟) فرد عليه طارق يطمئنه، مشفقاً على هذا الرجل الذي تكبّد الكثير من الخيبات وظل صامداً ينصر الحق على القريب قبل البعيد (اطمئنوا لا خسائر بشرية والحمد لله.) حمد الحاج إبراهيم ربه مسدلاً جفنيه براحة بعدما شعر في لحظة بقلبه سيتوقف من شدة الصدمة أما إبراهيم فبالرغم من الراحة التي شعر بها تكتسحه كموجة من المياه الباردة تحارب نيران غضبه، إلا أنه حدق بطارق متفحصاً ملامحه الجبلية الخشنة، وهو يسأله (كيف ذلك؟ العمل بدوام مستمر تتناوب عليه الفرق.) تبسم طارق بقسوة باردة لا تليق سوى بملامحه الصلبة (ألم أخبرك يا ابراهيم؟ لكل علم أهله! تفضلوا معي لقد تم تأمين الموقع بالكامل.) تبعوا خطواته الحذرة عبر الخراب وهم يصغون لبقية حديثه (كنت على يقين من تدخل...) لم يذكر اسمه مراعيا احتقان النفوس ثم أردف (في الحقيقة جاءني مشروعك فرصة لا تعوض يا إبراهيم، بعد أن أضناني البحث والتحريات، فهم يجيدون الاختباء بين الجبال، والمركز يتجنب إهدار المصادر في قضية خاسرة والصراحة...) نظر إلى إبراهيم متابعاً بثقة (هذا أول أمر سيدفعني لمساندتك في ترشيحك إذا كنت جاداً في مساعيك.) لم يجبه إبراهيم يرمقه بنظرات كانت أكثر من كافية لطارق، ومقلقة لأهله الذين يعرفون معناها جيداً. تدخل جده يطلب من طارق إتمام حديثه فتابع (أخفيت عناصر أمنية بين العمال في انتظار جاسوسه، ولأكون صادقاً لم أتوقع تحركه بتلك السرعة، ظننته سينتظر لأيام على الأقل! يبدو أن هذا الجبل مهم لتجارته غير المشروعة، لذا يريد إخافة الناس منه، تركنا المرسال يطوف بحرية لكي لا يشعر بشيء، وليرشدنا إلى موقعه.) انحسرت خطوات إبراهيم كما احتبست أنفاسه في صدره، يستفسر منه بنبرة جامدة (هل وصلتم إلى مكانه؟) ضم طارق شفتيه بضيق ثم رد عليه (لم يكن الوقت في صالحنا لذا صرفنا العمال بأمر مزيف منك، وتتبعنا الجاسوس، كانت ليلة سيئة، اشتبكنا معهم في قتال دامٍ وقبضنا على البعض ومات البعض، وطبعا هرب الباقي من الأحياء.) تنفس ابراهيم بحدة، وانتشر السواد على وجوه الأشقة وجدهم، فقال الأخير بحزن شابته الخيبة (هرب من جديد.) هز طارق رأسه بأسف ثم قال لهم (أنا آسف من أجل الخسائر المادية لكن الوقت كان ضيقا وكنا في حاجة لعناصر الدرك.) هتف ابراهيم بغضب (لا تهمني الخسائر البائسة! لتذهب إلى الجحيم! بل أريده هو!) تدخل جده ممسكاً بكتفه يذكره ويثبته (قل قدر الله وما شاء فعل، لا تدع لسانك يفلت بغير الحمد والذكر وقت البأساء والضراء، لا تقع في ذنب التسخط بني، وراقب كلماتك! آجرنا الله من الجحيم والبؤس.) مسح إبراهيم وجهه مستغفرا لأكثر من مرة يستمد من ذكر خالقه الثبات والصبر ثم استجمع تركيزه ليصغي لطارقٍ وهو يخبرهم بحزم (هناك من يساعده هذا أكيد، لكنني أؤكد لكم سنجده بإذن الله، نحن كشفنا الموقع الأساسي، وسيصعب عليهم تجهيز آخر بسرعة، ونظراً لوُعورة الجبال لابد من أنه لجأ إلى إحدى المدن الكبرى حتى حين... على العموم نحن عممنا صورته، والمسألة تتعلق بعد توفيق الله بالوقت وسنجده.) تحرك إسماعيل مستعينا بشخصيته العملية وكلم شقيقه بهدوء (إبراهيم لا داعي للبقاء هنا، يجب أن نعود للمنزل ونطمئن أمي وزوجتك.) تدخل طارق بنصيحة قبل أن يرحلوا (هناك ما عليك القيام به كي لا يحقق المجرمين بغيتهم فتضيع سمعتك هباء.) وباهتمام نظروا إليه فاستطرد (العمال سيأتون بعد نصف ساعة تقريبا، أريد منك أن تقف إلى جانبي وأنا أشرح لهم تنسيقنا لعملية القبض على مجرمي الجبال، ولذلك صرفتهم البارحة، وسيكون عليك إرسالهم لمواقع أخرى أو في إجازة إلى أن تعيد تجهيز المكان، القصة واحدة لكن يبقى الاختلاف في طريقة تداولها ...إحداهما ...) ورفع يده مشيراً للأعلى (ترفعك عالياً... والأخرى...) هوى بيده متابعاً (تهوي بك إلى الحضيض.) فتدخل أهله مناصرين حل طارق، وانتظروا إلى أن اجتمع العمال الذين صُدموا من مشهد دمار الموقع بآلاته. تحدث إليهم طارق بنبرة جادة متحكمة بدا لإبراهيم وقعها على ملامح وجوههم المتعجبة؛ منهم الشباب الصغار والرجال الكبار بعضهم على مقربة من عمر الستين، فبلع ريقه وهو يفكر بأن والده الذي أنجبه لم يكترث لقتل هؤلاء الناس. تنفس إبراهيم بصخب يشعر بقلبه يتضخم من شدة الضغط على أعصابه فهتف بقوة(اعتبروا أنفسكم في إجازة مدفوعة الأجر إلى أن يتم إعادة تجهيز المكان، ولا تخشوا شيئا بإذن الله، سأستعين بحراس محترفين ونركب كاميرات للمراقبة، أرواحكم أهم عندي من العمل والآلات ومن كان لديه أي اقتراح يساهم في أمنكم واطمئنانكم على سلامتكم فليقدمه للإدارة لندرس إمكانية تحقيقه عملياً.) انصرف العمال بحيرة وبعض القلق لكن السرور يغلب عليهم، فربت طارق على كتفه يدعمه (أحسنت صنعاً، واعلم أنني ومنذ اليوم مساند لك، أنا سأغادر... وسأزودك بالتفاصيل أولاً بأول.) كان طارق قد غادر حين ربت الحاج على ذراع حفيده يناظره بالمؤازرة، الدعم والكثير من العطف الذي غامت به مقلتا إبراهيم بشكوى صامتة للرجل الذي شهد معاناته وتفهمها كما يتفهم هو عذابه؛ الحاج إبراهيم وحفيده، الأب لابن عاق، والابن لأب جاحد؛ وجهان لعملة واحدة... عملة خذلان وخيبة كبيرة.
(يجب أن نتحدث لكن ليس هنا.) توقفت أقدامهم عن المسير جراء نبرة عيسى الجادة كنظراته المظلمة بتعبير غامض لم يخف عنهم إلا أن رنين هاتف إسماعيل قطع عليهم السبل لأي نقاش والأخير يخبرهم بنبرة تخالف ما استشفه من نبرة شمّة الجزعة (إبراهيم، الخالة شمة تقول بأن زوجتك فقدت وعيها.) اتسعت مقلتا إبراهيم بصدمة دفعت بقدميه مسرعا إلى سيارته.
***
(قبل لحظات) (منزل آل عيسى)
منذ أن خرج ابنها وهي تستشيط غضبا من حالته الصادمة لإدراكها الفاقد للحكمة، لم يفعلها قبلاً بالرغم من طبعه الحازم وشخصيته القوية، كان دوماً معها حليماً مراعياً وحنوناً عكس ما يتصف به رجال الجبال من جفاء. زفرت بغل تهمس بحقد تمكن منها (الحرباء دخلت حياتنا وبدأت بنفث سمها، الله أعلم بما أخبرته به تدّعي البراءة والضعف.) أذّن الفجر فاستغفرت تحاول جاهدة دحر شيطانها دون جدوى في انتظار أحدهم ليتصل بها، فلا أحد منهم أخبرها بشيء مع أن سواد وجوههم بدا لها عنواناً لكارثة. سمعت صوت حركة ما في المطبخ فاتجهت نحوه، تزفر بغضب احتلها مع استرجاعها لذكرى صياح ابنها عليها، وكانت تنوي إفراغ غلها بالحية واستدراجها لتقر بما أخبرت به ابنها لتقلبه عليها بتلك الطريقة المفجعة لقلبها الخائف من اكتشافه لما تسعى إليه وقد يغضبه منها بالفعل. وجدت شمّة تفرغ الدقيق في القصعة لتبدأ الطقوس اليومية فهتفت بغيظ (تلك البلهاء لم تنزل بعد! أي مصيبة ابتليت بها!) انتفض بدن شمة المكسو بقفطان منزلي مزدوج عليه تنورة واسعة ومموّجة طولياً من قماش يشبه الشيفون السميك المزركش والخاص بأشغال المنزل لحماية القفطان من العوالق، فهتفت بجزع وهي تشير بيديها اللتين طوت عنهما قماش الأكمام بما يسمى *الشّمار* قديم الخامة ويدوي الصنع من خيوط خاصة يلتف خلف الظهر والكتفين (بسم الله الرحمن الرحيم، ما بك يا امرة؟! أصبحنا وأصبح الملك لله.) فهزت رأسها بحقد حتى أوشكت طرحتها السفلية والمعقودة حول رأسها على السقوط، فأعادتها مكانها بحدة وهي ترد عليها (مولاتي الأميرة حق ما تزال نائمة، ولماذا لا تفعل وقد حققت مأربها وأصبح ابني خاتما في اصبعها! لن أكون إيجّة إن لم ألقنها درساً لن تنساه أبداً.) ثم استدارت تهرول بعنف فتبعتها شمّة بقلق بالغ بينما تناديها بقلق (انتظري يا إيجة، ماذا ستفعلين؟ لقد جنت المرأة! استر يا رحمن!)
ما تزال حق مكانها تسبح وتستغفر منذ أن صلت الفجر، وقبل ذلك أمضت الوقت بعد مغادرة زوجها راكعة ساجدة تدعو له ربها بالحفظ والسكينة، فلم تشعر بالوقت وهي تبتهل لله بكل ما حفظته من أدعية. فُتح الباب بحدة فاستقامت واقفة بصدمة تحدق بوجه حماتها المحمر غضباً ترغي وتزبد بكل ما أوتيت من نبرة عالية (تلونتِ بالطيبة والبراءة حتى تمكنتِ يا حرباء، لكنك تجهلين من هي إيجّة وما تستطيع فعله، ولن تنالي مرادك مادام في صدري نفس.) عبست حق باعتذار تفكر في شرح ما أخّرها عن مهام المنزل مدركة لأن أي طلب بإعفائها اليوم من مغادرة الغرفة سيقابَل بالرفض؛ لكن ماذا لو فقدت وعيها من شدة الإرهاق المتمكن من سائر أطرافها؟ لابد من أن إبراهيم سيغضب منها!
لم تدرِ حق بأن انشغالها بالتفكير ومحاولاتها لموازنة جسدها المرتعش وهناً بدا لحماتها كبرود وعدم اكتراث دفع بها إلى الزمجرة بغل، وهي تسحب ذراعها بقوة لتدفعها نحو باب الغرفة (لا تقفي هكذا كالغبية! هيا إلى عملك، ولا تريني وجهك اليوم بطوله!) فقدت حق السيطرة على جسدها المندفع بقوة فاصطدمت جبهة رأسها بالحائط المقابل في الرواق، وقبل أن تدرك ما حدث لها كان الظلام قد استولى على وعيها فوقعت أرضاً كجثة هامدة. وصلت شمّة لتوها متباطئة على الباب حياء من الدخول دون إذن حين جحظت عيناها فجأة وذهولاً من اندفاع جسد حق واصطدامه القوي بالحائط، فشهقت بفزع وأسرعت لتنحني نحوها تتفحص وجهها الشاحب كالأموات. التفتت إلى إيجة المتسمرة مكانها لتهتف بسخط (ماذا تنتظرين؟ هاتفي أحد أبنائك، الفتاة فقدت وعيها، هيا!) تنظر إيجّة إلى شمّة ثم حق بالتناوب بينما تهمس بتوتر لجم لسانها (م...م....م...إذا؟ أنا لا... أنا..) استقامت شمة حانقة الملامح ثم أزاحتها عن طريقها ودخلت باحثة عن سماعة الهاتف المنزلي الخاص بغرفة إبراهيم، وبأصابع ثابتة خلاف أنفاسها اللاهثة ضغطت على الأزرار طالبة رقم إسماعيل؛ أكثر أولاد آل عيسى بروداً واتزاناً كي يستطيع التعامل مع شقيقه، ثم عادت إلى حق المغيبة تماماً تحاول تفقد وزنها كي تنقلها إلى سريرها، إلا أن ظهرها صرخ بشدة وخانتها ركبتاها فلم تستطع تحريكها من مكانها وظلت قربها تلمس وجهها وتدعو الله السلامة.
أسرع إبراهيم إلى الطابق الثاني منقبض القلب يتذكر وجه حق الشاحب وبنيتها النحيفة فيتوقع أسوأ الاحتمالات، ويصور له الشيطان أفظع المشاهد. زاد من سرعته حين لمحها على الأرض وشمّة تسند رأسها ثم حملها بخفة بينما يستفسر منها (ماذا حدث يا خالة؟) منعت شمّة عينيها بمشقة من النظر إلى إيجة المتسمرة مكانها كتمثال مصدوم، وثبّتت عينيها القلقلتين على السرير حيث يهل إبراهيم على زوجته بنظرات تنبض حزماً يغلف به فزعه عليها.
(ماذا حدث؟ اللهم قنا شر هذا اليوم، رحمتك بنا يا أرحم الراحمين.) هتف الحاج بقلق هو الآخر بينما ينظر إلى حق، فالتفت إليه إبراهيم قبل أن ينظر خلفه نحو باب الغرفة حيث لمح أخواه ومنصف المنتظرين بملامح عابسة (إسماعيل، اتصل بأمين وأخبره بأن الحالة طارئة!) هز المَعني رأسه وهو يستل هاتفه من جيب سترته، وعاد إبراهيم إلى محاولاته ليوقظها (حق أفيقي! ...حق!) سكونها بذلك الشكل المريع مع شحوب وجهها هوى بقلبه في قعر العذاب واعتصره بوحشية؛ تلك المرأة الهامدة على سريرها كأنها سلّمت روحها لبارئها هي قطرة الماء الباردة وسط صحرائه القاحلة، وبؤرة النور المؤنسة في ظلمته الحالكة. رحل عقله إلى أول يوم تعرف فيه إليها، مستغرباً اختيار قلبه لتلك الذكرى بالذات وفي تلك اللحظة الحرجة! بل إنه يعرف! إنه قلبه الذي يتحداه نكران حاجته الماسة لرحمتها به واحساسها الصادق تجاهه! يتحداه نكران لهفة روحه المريرة لحلاوة سكاكر روحها الطاهرة! تلك السكاكر الملونة ضمّدت جراحه الغائرة كيافع مخذول من أقرب الناس إليه، ولمسة أصابعها الصغيرة مسحت الدموع الحارقة على صفحة كبريائه بحنان جارف. من بين كل الناس تلك الصغيرة شعرت بوجع فؤاده، وتوجهت إليه لتمنحه ما تملكه من بهجة، فظلت الذكرى مدموغة في قلبه قبل عقله... وهو يريدها الآن بل إنه في أشد الحاجة إليها، نظرتها الناعمة والمتدفقة بالرحمة، لمستها الحانية بطريقتها المختلفة والخاصة بها، كلماتها المستحية بنبرتها الهادئة الباعثة في قلبه السكون، ورقيتها بنبرتها الخاشعة للشافي العافي بين ذراعيها الواهنة. يريدها بكل كيانه الملتاع والمحتاج لكيانها السلمي، يريد احتواءها له! وأن تحيا بين أضلعه يمسي ويصبح على ملامحها المُسِرَّة لقلبه. إنه يحبها! تنفس بعمق معترفاً بما صاحت به أحشاؤه، وقلبه يهز صدره معلناً عن انتمائه الذي أفصح عنه اللسان مسبقاً حين ناداها بحبيبتي...
(إبراهيم؟!) رفع رأسه بحدة ليجد الدكتور أمين يطلب منه التنحي ليتمكن من فحصها، فأومأ له بخفة وتحرك متعجباً من غياب عقله في شروده طوال هذه اللحظات إلى أن وصل أمين. تفقد الأخير نبضها ومن ثم بدأ بقياس ضغطها. لاحظ الكدمة التي احمر موضعها وتورم على جبهتها فطلب من إبراهيم الانفراد به مع زوجته، وهكذا انسحب الحاج وجذبت شمّة إيجّة ثم أغلقت الباب خلفها. عبس إبراهيم بريبة فأشار أمين إلى جبهتها مستفسراً منه (هل وقعت مرة أخرى؟) اقترب من وجهها يدقق النظر بالكدمة بينما يجيبه بغيظ (فقدت وعيها في الرواق، هل اصطدم رأسها بالأرض؟) فناظره أمين بتساؤل (ألم تكن حاضراً أثناء وقوعها؟) دعك مقلتيه بتعب ورد عليه (لا، كنت خارجاً مع طارق و....) أومأ له أمين بحيرة لكنه قاطعه ليتحدثا في ما هو أهم (لا بأس! ما يهم الآن معرفة مصدر الكدمة، وإن كانت بالفعل كثيرة الحوادث يجب أن تستشيرا طبيبا مختصاً لنعرف السبب.) عبس إبراهيم بوجوم تشبعت به نظراته ونبرة صوته (لا يا أمين! هي فقط دائماً ما تحضر في الوقت والمكان الخطأ.) ثم نظر إليها متأملاً سكونها يردف بأسف (بل ولدت في الزمن الخطأ، أستغفر الله العظيم.) علّق أمين بعتاب (بل تأكد من أنها في الوقت والمكان المناسب لها جداً، لأن الله قدّره وهو أحكم الحاكمين.) ثم تبسم بلين يدّعي الدهشة بعدما لاحظ ندم صديقه على مقالته يستغفر مراراً (أصبحت شاعراً يا إبراهيم!... على العموم انتبه إلي لأنني سأوقظها، وهناك أسئلة يجب أن تجيب عليها لأحدد أنواع الفحوصات المطلوبة، ساعدني وأزل الرداء عن ذراعها الأيسر، ضغطها منخفض للغاية.) هز رأسه متفهما وحرّك يدها الباردة برقة ليطوي كم العباءة، ثم تابع أمين بينما يحقن ذراعها قبل أن يلتقط قطعة قطن بخ عليها سائلاً ما وقربه من أنفها. تحرك جفناها في نفس اللحظة التي تجعد فيها أنفها تحاول إبعاده عن الرائحة المزعجة. أمسك إبراهيم رأسها بين يديه يخاطبها بهدوء يكاد يقرب للهمس، فابتعد أمين مدعيّا البحث في حقيبته (حبيبتي، أنت بخير لا تخافي!) اتسعت مقلتاها بتوتر ترمق بؤبؤي عينيه القريبتين منها بالتناوب يميناً ويساراً، وأنفاسها تتلاحق بلهاث متعب لقلبها النافر؛ غمرها إحساس غريب يلهمها بتغير شيء فيه ولكن إدراكها المشوش والألم الحارق في رأسها وأطرافها يحول بينها وبين استيعابه، حتى أن رؤيتها يشوبها بعض الطشاش. رفعت كفها لتلمس موضع الألم في جبهتها فوعى إبراهيم لقربه الزائد منها، وأبعد نفسه عنها قليلاً ليلتفت باحثاً عن أمين الذي ما يزال يبحث في حقيبته، فعاد إليها يستفسر منها بنبرته الخاصة بها وحدها (كيف أصيب رأسك؟) رمشت مرات عدة كي تركز ببصرها ثم ردت عليه بخفوت واهن (آ....آ...اصطدمت بالحائط في ...الرواق.) زفر بأسى وربت على رأسها، وهو يهمسها بحنو (لا بأس عليك! كنت متأكداً من أنك تعبة، وستقعين في أي لحظة.) تنحنح أمين وهو يقترب منهما فتركها إبراهيم دون أن يقوم من جانبها. (مرحبا من جديد سيدة حق!) قالها أمين بمزاح، فأطرقت حق بحياء وإبراهيم يرميه بنظرة خطرة ابتسم لها بمرح خفي ثم ادّعى الجدية وهو يتابع (لدي بعض الأسئلة لك إن كان بالإمكان.) نظرت إلى إبراهيم الذي أومأ لها مطمئنا، فسلط أمين المصباح اليدوي على مقلتيها ثم أمرها بالنظر إليه، وهو يسألها (هل تشعرين بدوار؟) أومأت بخفة وهي تبتعد منزعجة من الضوء، فأطفأ المصباح ثم سألها مرة أخرى (متى بدأ الدوار؟ اليوم بعد الاغماء أم قبلاً؟) بلعت ريقها تفكر ثم قالت له بخفوت (قبلاً.) قبض إبراهيم على شرشف السرير خفية عنها، وأمين يتابع استجوابه دون أن تخفى عنه حالته (متى تقريبا؟) رفعت عينيها بتشوش ثم قالت له (أسبوع تقريبا!) غامت نظرات أمين بتفكير في اتجاه ما لكنه فحص الكدمة مستفسراً منها (هل تؤلمك؟) ردت عليه بوهن تشعر بالنعاس يغلبها (ليس كثيراً.) (متى موعد دورتك الشهرية؟) فجأة تجمد كل شيء فيها، وابيض وجهها أكثر من شحوبه الأصلي، فابتسم ابراهيم ينتابه بعض الخجل هو أيضا غير متعود على تلك الأمور بعد. رماه أمين بنظرة ذات معنى ليحثها على الرد، فربت على كفها القريب منه (حق! التاريخ من فضلك.) فتحت فمها مرات عدة لتجيبهما، وكل مرة يفر منها صوتها وبالكاد همست أخيراً بنبرة تكاد تُسمع (الخامس عشر من الشهر.) أومأ أمين وقد تجنب النظر نحوها لتتشجع أكثر ثم استفسر منها (متى آخر مرة؟ الأسبوع الماضي؟) سكنت للحظة تفكر بريبة تبعها إدراك فأومأت نافية. ابتعد أمين بعدما أشار لإبراهيم لينزوي به بعيداً في القسم الآخر حيث الأريكة والمقعد والمائدة، ثم قال له بجدية (يجب أن نأخذها للمشفى حالا!) بلغ به القلق مداه فسأله بلهفة (لماذا؟ تحدث يا أمين!) ربت على كتفه مهدئا ثم فسر له (يجب أن نفحص رأسها لنتأكد من مستوى الضرر، والأهم من ذلك فحص الدم.) قطب إبراهيم جبينه بحيرة، فاستطرد أمين مفسراً (تاريخ اليوم هو الثاني والعشرين من الشهر، لذا يجب أن نتأكد من وجود حمل، إذا حدث يجب أن تحُد من حركتها لأن حادثة أخرى قد تؤدي بها وبحملها لا قدر الله، ولأن هذه مرحلة مبكرة يجب أن تفحص الدم لنتأكد.) اندهش إبراهيم يقول له بعدم تصديق (حمل؟ لكن!) كان دور أمين ليعبس بريبة رغم استفساره الذي وجهه لصديقه بمرح ساخر (ماذا يا سبع الرجال؟) فامتعض إبراهيم بينما يجيبه بخفوت حانق (ما قصدته أننا تزوجنا منذ فترة بسيطة جداً، وأنت تعرف! العمل والعائلة.....و ...لماذا بالله عليك تبتسم؟) تمالك أمين نفسه بأعجوبة قائلاً له بنفس الخفوت الذي يتحاوران به منذ انزوائهما بعيداً عن حق التي استسلمت لإغراء النوم، وهي تفكر في تأخر دورتها (لهذا اخترع الناس شيئاً اسمه 'شهر العسل' ليمنح العروسان نفسيهما مدة تعوّدٍ بعيداً عن التدخلات لكننا بعيدون جداً عن ذلك الفهم، لم نبلغ مستواه بعد!) زفر إبراهيم من نبرته المتهكمة، فأردف أمين بجدية استرجعها بشق الأنفس ( على العموم، الحمل لا يتعلق بطول مدة الزواج أو قصرها، بل يتعلق بإرادة الله... ونحن لم نتأكد بعد لذا أرجوك لا تؤخر فحصها.) تحمس لفكرة حملها كما تلهف قلبه قلقا عليها، فعاد إليها ورتب طرحتها ثم حملها بين يديه تحت أنظارها الناعسة المدهوشة، ليقول لها باسما (عباءة صلاتك واسعة لست في حاجة لتغييرها.) وجد أفراد عائلته ينتظرونه في الرواق لكنه لم يتحدث إليهم وأسرع بها الى السيارة، فأخبرهم أمين باسما بتهذيب (سنذهب للمستشفى لفحص رأسها.) ثم لحق بإبراهيم يرافقه إسماعيل الذي ابتسم بهدوء حين سمع أمين وهو يقول له ساخرا بمرح (عشت عُمراً ورأيت أحد أبناء الجبل يظهر عاطفته لزوجته علناً! اجعلها أول المحطات يا رب وارزقنا مثله.)
***
(منزل المرابط)
(يا غبية! كل ما أخبرتني به لم يكن سوى كذباً، لم يحدث الفراق والعروس تتنعم بحضن زوجها، أنا سأبلغ عنكم الشرطة وأدمرك وأدمر ذاك الدجال، ليمتنع عن الكذب وادعاء ما لا يستطيع فعله.) لهثت الخادمة هاتفة بتوسل (أتوسل إليك آنستي، لقد نبهتك منذ البداية، نحتاج لأثرها، ونحتاج للوقت لأنها لا تفارق ذكر الله!) اقتربت منها صباح تهمس لها بحقد يفتت أحشاءها (لا أصدق أكاذيبك! أنتما تنصبان علينا، وأريد كل المال الذي صرفته إلا أدخلتك السجن ...أنت وهو!) اهتزت الخادمة وحلفت بالحق على الكذب لتنقذ نفسها (وحق ربي أنا لا أكذب، لو تأتيني بأثر لها لرأيتِ النتائج بنفسك ثم أنا اقترحت عليك السحر المأكول لكنك رفضتِ، جربيه وسترين النتائج بنفسك.) زمت شفتيها بتكبر ترمقها باحتقار في نفس اللحظة التي تدخل فيها مجيد آمراً بعدما سمع شجاراً خافتاً في رواق الطابق الثاني فغير وجهته نحوهما (انصرفي لعملك، هيا!) نظرت الفتاة إلى صباح باستجداء، فأشارت لها بالذهاب. وما إن غابت حتى أنب صباح ببسمة متهكمة (لا تجدين غيرها مشجباً لتعلقي عليه مظلة فشلك، سحر وشعوذة ...هراء!) تخصرت تهتف باستصغار عما يدًعيه من تقدير لنفسه (وماذا فعلت أنت يا صاحب الخطط الخطرة؟) ابتسم بتمهل يتأمل شعرها الحريري، والذي سلب وما يزال يسلب كل جارحة فيه، ثم قال لها بغموض (قريباً ستعرفين عن خططي ...الخطرة!) اقترب منها خطوة أخرى والنظرة تتحول إلى جرأة تنفلت من عقالها (أما أنت فتابعي طريق السحر هذا واسمعي نصيحة الخادمة، فالسحر في جوف الشخص دمار!) وهمّ بها إلا أنها انزاحت عن وجهته تزجره بسخط (هل جننت يا مجيد؟ لقد حذرتك! ابتعد عني!) (صباح!) انتفضا على نبرة الحاج زكريا الغاضبة، مقبلاً عليهما عبر الرواق (كيف تخرجين من غرفتك بهذه الملابس؟ وأين وشاحك؟) ردت بتلبك وهي تلمس شعرها (أبي، أنا في منزلنا لا أحد غريب هنا!) كان قد وصل إليهما عابساً بغضب تخللته سخرية قاتمة وهو يشير إلى مجيد (وهذا الرجل! هل هو زوجك أم شقيقك؟ أو ربما شاركك حليب أمك دون علمي!) تدخل مجيد يمازحه بسماجة (مستحيل يا عمي، أنا أكبرها بأربع سنوات، ولكن عن نفسي أفضل الاختيار الأول كزوج! يشرفني الأمر جداً يا عمي.) جحظت مقلتا صباح وشفتاها ترجفان بغل أسود، تنتظر والدها الذي رد عليه بينما ينظر إليهما بعبوس وتهديد خطير (بما أنها لا تستحي منك، ولا أنت تستحي بالدخول لهذا الطابق، أظن أنها فكرة مناسبة فنرتاح من اعوجاجكما معاً! تفضل أمامي وهذه آخر مرة ألمحك في هذا الطابق... خير لك!) فأسرع مجيد بالاعتذار وتقبيل كتف عمه مستعطفاً بمكر (عفواً يا عمي، الأمر جاء صدفة، سمعت صباح تقرع الخادمة فتدخلت لأنقذ الأخيرة من غضبها... لن يحدث مرة أخرى!) وانصرف بعدما منح صباح نظرة تعلب ماكر جعّدت لها أنفها بقرف سريعا ما أخفته، وهي ترتمي على والدها تضمه بدلال وتقول له برقة أحسنت ادعاءها، وبشكل أضحك مجيد وهو يغادر (بابا حبيبي، من فضلك لا تغضب مني، أنا صباح صغيرتك الحبيبة، أنا آسفة على كل شيء فات، وأقسم لك سأصحح أخطائي، وأنا أعمل على ذلك بالفعل، فقط امنحني بعض الوقت.) أزال يديها عن عنقه ببرود أرغم عليه نفسه وقلبه الخائن يحثه على ضمها إلى صدره ليحميها من نفسها قبل غيرها... إنها صغيرته صباح، متى كبرت لتصبح عبئا على عاتقه يكلفه الكثير؟ وأول هذا الكثير هي ذاتها. رمقها بتحذير جاد، ونبرة تشبعت بالحزم (كثرت أخطاؤك يا صباح، تدليلي لك ليس ضعفا مني بل حبا لك، لكن اعلمي أن الوالد كما يُدلل يقسو حين يرى أن القسوة في صالح ولده، وأيضا يعاقب، فاحذري عقابي يا ابنتي!) راقبت مغادرته بسهو ثم همست بتصميم ( سترى يا أبي كيف ستفخر بي حين يخسر إبراهيم أمامك، ويتوسلون إلينا لنصاهرهم.) علا رنين هاتفها فهرولت إلى غرفتها، وفتحت الخط حين لمحت رقم الحاجة إيجة ثم صمتت لبرهة تنصت بتركيز قبل أن تزمجر بغل فظيع وهي تضرب هاتفها بالحائط ليتشتت أمامها الى قطع من الخردة.
***
(منزل عزيز)
استيقظت اليوم والأمل ينعش قلبها يهدر بسرور افتقدته منذ أن تقدم إليها عزيز للزواج منها، فرماها والدها لأول مخلوق يحمل صفة الذكورة كي يريح ظهره من عبئها. ناظرت انعكاسها بينما تسوي طرحتها الكبيرة ثم تنفست بعمق وابتسمت بضعف كي تبث في نفسها بعضاً من الثقة (أين أنتِ؟ لن انتظر كثيراً!) اهتز بدنها وطارت عزيمتها أدراج الرياح، فحملت حقيبتها وأسرعت إليه، وهو يستطرد بنفس تهكمه المهين (لا أعلم لماذا قبلوك في العمل؟ إنه الفخ ذاته، مظهركن الجاذب للرجال كالذباب إلى مصرعهم حول ضوء النيران المحرقة.) بلعت ريقها تدعو الله في سرها أن تمر نوبته على خير، فهي ما تزال تستغرب أمر موافقته على عملها، وهو على عادته يسمعها أسوأ الكلمات وأفظع الإهانات. أعطاها ورقة ما فانشغلت بمطالعتها وهو يقول لها ببسمة ماكرة (أضيفي هذا للملف، إنه رقم حسابي كي يحولوا إليه راتبك!) رمقته بعدم تصديق، هل سيستولي على تعبها؟ كانت تعلم! المجرم البائس! اتسعت بسمته اللئيمة، وأمسك دقنها يضغط عليه بشدة آلمتها وهو يقول لها بحقد (لا تخافي! سأعطيك مصروفك صباح كل يوم، القليل يكفيك على كل حال، هيا! لا تريدين التأخر عن عملك في أو أول أيامه.) ثم ضحك بصخب وهو يفلتها ليتقدمها. بلعت ريقها ودمعة يتيمة تنحدر على وجنتها فمسحتها بحدة بينما تستغيث ربها بكل ما يحمله قلبها وروحها من وجع أليم (حسبي الله ونعم الوكيل.) كلمات سهله النطق، سريعة الحفظ لكنها كالسهام النفاثة لا يردها عن هدفها إلا مشيئة الله، فأنّى للظالم أن يغفل عن دعوة المظلوم فليس بينها وبين الله حجاب.
***
(المستشفى العام لمدينة الجبال.)
تنفس بنفاد صبر، فتحدث إليه إسماعيل مهدئا وهما في أحد أروقة المستشفى (استرخي يا أخي! كل شيء على ما يرام والحمد لله.) هز رأسه بلا معنى يفر من حرجه أمامه، فبالرغم من تصرفاته التي تفلت منه بما لم يتعود عليه إلا أن خشونته تفرض عليه التسلح بتجاهلٍ يحمي كبرياءه الجبلي. نظر إليه مستفسراً بعبوس (كيف أصيبت في رأسها يا إسماعيل؟ جوابها مراوغ ولم يقنعني!) عقد الآخر جبينه بريبة وهو يسأله التوضيح أكثر (ماذا تقصد؟) فزم شفتيه بامتعاض ثم قال له (أمي قررت اللهو على ما يبدو لتملأ وقت فراغها يا أخي، وأنا مشغول جداً كي أجاري هذه الحرب بين الحماة والكنة.) ضحك إسماعيل مستهيناً بما يحدث لجهله بحقيقة أمره، ولحبه الجم لوالدته (لا تبالغ بالقلق يا أخي!) فأومأ له بجدية قتلت البسمة المرحة على محياه منتبها لما يخبره به (ألم تفكر في الأمر؟ وقوعها لمرتين ولم تكمل الشهر في منزلنا ويديها المتقرحتين وأطرافها المرتعشة بالألم والوهن، وتلك البقعة الحمراء المتورمة على جبهتها، وكأنها في حرب وليست عروساً حديثة الزواج.) صمت إسماعيل مفكرا في الأمر، فأردف إبراهيم بيأس (أجل فكر! وإن وجدتَ تفسيراً منطقياً أخبرني! لأنني لا أريد تصديق الجواب الوحيد الذي يظل عقلي المرهق يُطربني به.) ظهر أمين فاقتربا منه وعلى وجهيهما ترتسم ملامح الانتظار والقلق (اطمئنا! الضربة لم تكن قوية كفاية لتسبب لها ارتجاجاً في المخ، الحمد لله على ذلك لكن ضغط دمها يستمر في الانخفاض كلما زال عنها مفعول الدواء، بدنها في أقصى درجات التعب لن يتحمل حادثة أخرى، ها أنا ذا أحذركما، ومع وضعها المستجد فالراحة ضرورية لها وواجبة عليكم.) تلكأ ليتأمل نظراتهما المترقبة ثم تابع باسماً (مبارك عليك يا إبراهيم ستصبح أبا بإذن الله، زوجتك حامل.) ارتخت ملامح إبراهيم مستبشراً وأمين يكمل بتحذير (حملها في مرحلة مبكرة جدا، وأي تعب يشكل تهديداً لها وللجنين.) أومأ له بتأكيد وسأله بلهفة (أين هي؟) أشار له إلى غرفتها فأسرع إليها بينما أمين يضاحك إسماعيل بمرح (أخبرتك ... شقيقك يكسر قاعدة الجبال!) لكن إسماعيل لم يكن في مزاج للضحك كما لم يستطع التمتع بوقع الخبر الجميل على قلبه المحب لشقيقه، وهو يفكر في سعادة الأخير المهددة بالزوال في أي لحظة، وبعد تفكيره الجاد في الأحداث الأخيرة، استنتج أمرين رئيسين: أن تلك الفتاة التي اختارها إبراهيم زوجة له، بشكل ما اختارها بقلبه ولسبب ما هي الدواء لكل آلام قلبه، وخير دليل على ذلك نسيانه لفاجعة أيقظت نيران الغضب والأسى فيهم جميعا وبسرعة قصوى. ما فعله والدهم أعادهم إلى سنوات الذل والمهانة التي تركهم يتخبطون في مستنقعها لمدة عانوا فيها الأمرّين وهم آل عيسى الذين نشأوا على العزة والشرف، وها هو إبراهيم يقف من جديد كأحد جبال مدينتهم، قوياً وشامخاً بعد سويعات قليلة من غضب جارف أصابه بإحباط واجم، استعاد شغفه بالحياة في لحظة اطمأن فيها على زوجته وعلم بحملها. هناك شيء ما غامض في علاقتهما؛ متى أحبها؟ وكيف؟ تعلق هذا السؤال بذهن إسماعيل مع سؤال آخر أكثر أهمية، لماذا لا تتقبل والدته حق كزوجة لابنها؟ وهذا أوصله للأمر الآخر الذي استنتجه؛ بأن الطبيب وإبراهيم محقان؛ الفتاة الآن في وضع حرج، وإن تعرضت لحادث آخر لا قدر الله سيدفعون ثمنا باهضاً يتمثل في أقرب الناس إليهم وأكثرهم معزة في قلوبهم... إبراهيم. (ما بك يا إسماعيل؟) جفل من تفكيره العميق ثم تبسم له بمجاملة وواجهة هادئة لا تشي بأي مما يحدث خلفها (شكرا لك يا دكتور أمين.)
***
اقترب منها بخطوات هادئة متأملا إغفاءتها الساكنة كسكون ملامحها وصفاتها. تلك الفتاة المختلفة عن كل ما توقعه مكانتها تعلو لديه كل يوم. لقد فعلت ما لم يفعله غيرها، ونجحت في صرف انتباهه عن ظلمته من جديد، أسعدت قلبه المكلوم ومنحته سكاكرها الحلوة لتطيب خاطره المكتئب في يوم كان ليترك علامة جديدة بشعة تؤرق أحشاءه لسنين قادمة، أما الآن... "اتسعت بسمته بشكل لم تعهده صلابة ملامحه" أما الآن فقد دمغت تلك الذكرى بأخرى ستبقى معه إلى آخر العمر، وهو يرى ولده يكبر أمامه ليربيه كما يريد و يؤمن، بعيداً عن كل ما تلقاه من والده. قبّل جبهتها موضع الكدمة، فعبس بخفة وهو يتذكر الغموض حول ما يحدث معها لكنه سرعان ما عاد لتّبسّم في وجهها حين فتحت مقلتيها جراء تسلل رائحته إلى أحلامها، لتجد وجهه قريبا جداً منها حيث ألفته مؤخراً ثم ابتسمت لبسمته بوهن.
رفع كفه مداعبا وجنتها برقة وهو يهمس لها بروحه المتجسدة في عينيه بتعبير خلب قلبها (كان يا مكان قبل ما يزيد عن عقد من الزمن فتى وحيد بائس ابتلي بما أثقل على عوده الأخضر، فانزوى بعيداً ليلعق جراحه، فجف حلقه وامتد المرار في جوفه كالعلقم...) تعلقت مقلتاها بملامحه الرجولية المسترخية متتبعة الكلمات على شفتيه بتركيز وتمعن (ومن حيث لا يدري ولا يتخيل شعر بلمسات خفيفة على ركبته فرفع ناظريه إلى فتاة صغيرة برداء ضعف حجمها الضئيل تقدم له سكاكرها المستديرة بألوان مختلفة، استنكر الفتى فعلتها وقد كان للرجولة معنى آخر في إدراكه لكنه تراجع حين أخاف تلك الفتاة الصغيرة التي نكثت بعض جراحه باعتزاز عينيها البريئتين، فداعبت فؤاده بسذاجتها وهي تقنعه بأخذ السكاكر المختلفة والساحرة بمفعولها فقرر الاستسلام لصفاء روحها وأخذ منها السكاكر الحلوة لكنها طالبته باسترجاع واحدة "الحمراء بالذات" إلا أن الفتى رحل بها كلها، ربما غفل عن إعادة الحمراء إليها لكنه لو خُير لفضل أخد سكاكرها كلها ليهنأ بنعمة حلاوتها الطاغية على مرارة الخذلان والخيبة.) صمت محدقاً بوجهها المنبهر بكلامه ثم سألها برقة (هل تذكرين شيئا عن هذه القصة؟) بلعت ريقها، والمشاعر متكاثفةٌ على قلبها تتعبه بشدة فسحبت مقلتيها من على وجهه كي تستطيع استعمال عقلها، فالقصة مألوفة لديها لكنها مركونة في زاوية الذكريات البعيدة، وسريعا ما تذكرت تلك السكاكر، حصلت عليها في موقف نادر قلّما يحدث ومنحتها لفتى لفت انتباهها، لا لم يكن هو من لفت انتباهها في الحقيقة بل دموعه. التفتت إليه بإدراك تعقب بدهشة (أنت كنت تبكي!) ضم شفتيه بسخط مزعوم، ورد عليها وهو يلمس أرنبة أنفها بطرف سبابته (قلت لك من قبل، لم أكن أبكي!) رمقته بعدم تصديق، فاستطرد مرغماً يعترف بنبرة طفولية (حسنا قليلا! لكن لا تخبري أحداً كي لا أفقد هيبتي.) ابتسمت بمرح أنار وجهها التعب فاستطرد بتعبير مبهم لها (لك دين عليّ، لم يعد يقتصر على حبة حلوى حمراء، وقد لا أستطيع الوفاء به كاملاً.) فأذهلته بردها المعبر عن شعورها بما يقصده (ربما لم يكن ديناً من الأساس.) عاد للتّبسّم بحب شع من مقلتيه، ووضع كفه على بطنها هامسا بسرور (أنت محقة قد لا يكون دينا لكن نعمة بلا شك ويجب علينا الحفاظ عليها بالشكر والحمد لمن وهبنا برحمته وكرمه.) نظرت إلى موضع يده، فحمدت ربها بخوت قبل أن يردف بجدية حازمة وإن حافظ على هدوء نبرتها (لا حوادث بعد اليوم يا حق، إذا حدث ووقعت مرة أخرى لا قدر الله ...قد تعرضين نفسك وابنك لأذى لا قدر الله.) لمعت مقلتاها بدموع لم تذرفها ثم همست برقة أذابت قلبه (أنا وأنت وهو بين يدي الحق، لا تخش غيره.) هز رأسه بتفهم ثم قبّل أعلى رأسها قبل أن يتطلع في عينيها يخاطبها بحزمه اللطيف (استعدي ...سنعود إلى البيت!) أومأت له باسمة، ثم استدار بينما يسحب هاتفه من مخبئه وبعد برهة تحدث إلى مخاطبه (السلام عليكم ورحمة الله يا الحاج عبد الله، كيف حالك؟)
***
(بيت الحاج عبد الله)
تنهدت رواح بملل وأمسكت بذراع والدتها تتسول إليها بملامح مستعطفه (أرجوك أمي! أنا اشتقت لحق ...أريد رؤية أختي، نحن لم نزرها بعد العرس، أرجوك لنذهب إلى منزلهم مساء، لطالما زرتِهم قبل أن نناسبهم.) زفرت ميمونة بيأس في وجهها ثم ردت عليها (يا فتاة افهمي! أنا أتمنى زيارتهم كل يوم لكن والدك حذرني من ذلك، ولا علم لي بالسبب، سأموت من غيظي وأنت تعرفين والدك إن عصيت أمره.) قلبت رواح شفتها السفلى بطفولية مستنكرة (أنا لا أفهم تصرفات والدي.) وما لبثت أن تبسمت ببهجة مستدركة بحماس (إذن لندعوها لتحضر، اشتقت إليها كثيراَ!) فدفعتها بخفة تمط شفتيها بحنق (و ماذا سنستفيد؟ أختك البلهاء لن تجيب عن أسئلتي.) عبست رواح باستنكار لأفعال والدتها، وصمتت تفكر في حل لترى أختها لكن والدتها كانت أسرع منها وهي تضمها مقترحة عليها بمكر (لمَ لا تطلبين من والدك أن نزورها؟ أقنعيه باشتياقك لها وقد يوافق!) (ستذهبين يا ميمونة، فارحمينا من مكر النساء المقيت!) استقامتا واقفتين والدهشة تعلو تعابير وجهيهما (حقا يا أبي؟ سنزور حق؟) نظر إليه ورد عليها بحزمه المعتاد (سنذهب جميعا بإذن الله بعد عودة ياسر من عمله، اجمعي بعضا من ملابسك، لأنك ستبقين لأيام هناك.) عبستا بريبة فاستدرك قبل أن تفتح ميمونة فمها (أريحي نفسك سأجيب فضولك! إبراهيم استأذن مني لتبقى رواح مع أختها بضعة أيام لأنها حامل، والطبيب أمرها بعدم بذل مجهود.) شهقت ميمونة بصدمة بينما رواح تبتسم بسرور، لتهمس الأولى بسهو حقدها (بهذه السرعة؟ يا لحظك يا حق يا ابنة حق!) (ماذا تقولين يا امرأة؟ فقدت عقلك نسأل الله السلامة!) زفرت بكمد تقول له بانزعاج رغم تردد نبرتها وتوجس نظراتها (ما هذا الحمل الذي يحتاج إلى خدم يا حاج؟ لقد حملنا قبلها ولم يخدمنا سوى أنفسنا بل وخدمنا أهل بيوتنا.) منحها نظرة قاتلة ذكرتها بأيام حملها برواح حين سمح لها بتأمين مساعدة على غير عادته حتى وضعت. انصرف تاركاً إياها، ورواح تهرول إلى غرفتها تسبقها فرحتها الصادقة بحمل أختها وقرب لقائها دون أن تسمع همس والدتها الحاسدة (الأميرة حق تحمل، وابنتي أنا تخدم، من أين آتي لقلبي بالصبر؟)
***
(في مكان ما)
ضم قبضتيه حتى ابيضتا يلومه بنبرة مكتومة (كيف تفعل ذلك يا أبي؟ هل فقدت عقلك؟ يا إلهي! كنتَ ستقتل عشرات من الرجال الأبرياء.) نفث الدخان من فمه مجيباً بانفعال (يا لرهافة قلبك، هل نسيت عملنا؟ أفق من نوبة ضعفك وتذكر تجارة السلاح، إنها الموت!) اقترب منه يجيبه بكره أظلمت به مقلتاه، وقاومه قلبه بشدة من أجل كلمة واحدة ..."الأب"... لكنه لم يستطع سوى أن يكرهه ومن صميم قلبه المكلوم (أنت ربيتني على الحياة في الظل والظلمة...لكنني لم أقتل نفسا من قبل ولن أفعل!) ضحك والده بسخرية، وهو يرمي بما تبقى من سيجارته في نفس اللحظة التي سمعا فيها صوت دقات على الباب فاستدرك ابنه بغضب (أنا لا أثق بذلك الرجل.) فأجابه مشيراً إلى الباب (أعداء أعدائي أصدقائي، ألم تسمع بذلك قبلا؟) اشتد عبوس ابنه بيأس تشوبه حسرة ( أبنائك أعدائك!) تجمدت ملامحه للحظة قبل أن صيح بضجر طغى على ملامحه برداء السخط (افتح الباب واتركني معه ...هيا!) أطاعه على مضض، وفتح الباب عابساً في وجه القادم ثم هتف بامتعاض (أنا خارج ...لدي عمل!) نظر الضيف إلى يونس آل عيسى مستفسراً منه بحيرة (ما به؟ أشعر بأنه يكرهني؟) أشار له بالدخول بينما يرد عليه بتهكم (المشاعر للنساء والشدة للرجال! أم أن أهلك لم يعلموك ذلك يا ابن المرابط؟) أغلق الباب بخفة لم تغلقه عن آخره، فسمع من لم تسعفه خطواته بالهرب من أهوال والده خطةً حيكت في الخفاء، ولا يخفى على الله من شيء.
***
(مصنع المرابط.)
وصلت في موعدها وأرشدوها إلى مكتب عملها بعدما أخبروها بأنها ستعمل مساعدةً لمديرِ مكتب ياسر آل طالب. سعد قلبها بمعاملة الرجل الخمسيني الطيبة مع أنه يعامل الجميع بنفس الأخلاق الحسنة، إلا أن حرمانها من الحنان الأبوي جعلها تُقدر تلك المعاملة كنعمة لا تقدر بثمن، فتخلت شيئا فشيئا عن خوفها الشديد، واندمجت في اتباع تعليماته بسلاسة، فانطلقت وركزت اهتمامها على سير العمل بعملية مثمرة (أحسنت! أنت تلميذة نجيبة، إذا سرت على هذا المنوال ستتعلمين بسرعة وتخففين عني مشقة انشغالي، أظن أنني بدأت أشيخ.) ابتسمت بخجل ترد عليه باحترام لهيبة الرجل وتهذيبه (بارك الله في عمرك سيدي، وجزاك الله خير الجزاء.) استقام واقفا يقول لها ببسمة بشوشة لا تفارق ثغره، وهو ينظم الملفات بين يديه (أنا تعديت ولله الحمد حاجز الخمسين بأربع سنوات! يجب أن أبدأ في التخطيط لتقاعد مبكر، لأريح نفسي قليلاً وأسافر مع زوجتي، المسكينة لم ترَ معي سوى التعب، حان الوقت كي نتجول ونستجم قليلاً قبل أن تتزوج ابنتنا وننشغل بأولادها إن شاء الله، فننسى البقية من حياتنا.) قالها بمرح رزين، فقاطعه ياسر الذي خرج من مكتبه بنفس المرح (لن تذهب الى أي مكان يا عمر! أنت لست كبيراً كما تدعي حتى بعد أن حججت بيت الله رفضتُ مناداتك بحاج كي لا أساعدك في ادعائك للكبَر، وأنا سأفعل أي شيء كي لا أخسرك.) رفع عمر أحد حاجبيه متسائلاً بمكر تمثل في بسمته الجانبية (أي شيء؟!) توترت حفصة من حضور الرجلين وتبادلهما الحوار بأريحية كأن العلاقة بينهما تتعدى علاقة العمل الرسمية، فتكمشت على نفسها تعود الى الخلف خطوات بسيطة حتى انزوت جانب مكتبها المقابل لمكتب السيد عمر الرزقي، الذي قال لمديره دون أن يخفى عنه حالها كارتجافها منذ أن دخلت مكتبه (أعدك بأن أظل في عملي إلى آخر نفس في حال تزوجت ابنتي، ما رأيك؟) تفاجأت حفصة من طلب عمر، لتتفاجأ بزيادة حين ضحك ياسر رافعا يديه باستسلام مرح (أستسلم! أخبرني على الأقل بيوم تقاعدك وسأوقع لك، وأهديك إضافة على أتعابك رقما سينال رضاك ويتحمل كلفة الاستجمام الأسري.) ضحكا عالياً وحفصة تفتح فمها بجهل ودهشة (هكذا إذن! ...أنت ترفض الزواج من براء، سأخبرها!) فرد عليه الآخر بنفس المرح (فلتجدها أولاً لتخبرها، ثم أنا متأكد من سرورها برفضي بل العقاب سيكون من نصيبك لأنك تعرضها للزواج.) اكتسح الغضب صدر حفصة حتى طفا على صفحة وجهها بعد ما قاله ياسر، وطار شعورها بالمعزة للسيد عمر وحل محله كره بُعث من قلب جفاء تجرعته على يد والديها (براء تحب والدها ولن تغضب مني، ثم أنا نسيت إخبارك بأنها عائدة بإذن الله وستعمل هنا وتستقر أخيراً.) قوس ياسر حاجبيه باستغراب (ستترك الإذاعة الوطنية وتعود هنا؟) هز رأسه وقد هدأ عنهما المرح والضحك، يفسر له (ستفتتح الجهة إذاعة خاصة بمدينة الجبال، فعرضوا عليها المنصب وقبلت به، فهي وحيدة والديها اللذين يحبانها، ولا يستطيعان العيش من دونها.) جلست حفصة على مقعدها والحيرة قد بلغت بها المدى لا تفهم من حوارهما شيئا، وياسر يعقب بمرح مبتسما نحوها (أعاننا الله عليها إذن! لقد دللها حتى أصبحت مزعجة ولا تطاق!) عاد عمر للضحك وهو يهدده (جيد، جيد! هيا قل ما عندك وأنا أسجل وسأبلغها بكل كلمة!) رفع ياسر حاجبيه يخبر حفصة بنظرة ذات معنى (أرأيت!؟ إنه يهددني بها ....وهذا ما قصدته!) نظر عمر إلى حفصة هو الآخر مدافعا (كل ذنبي أنني أحب ابنتي وعلمتها كيف تواجه صعاب الحياة، فأنا لن أكون حاضرا دائما لأدافع عنها ثم أنا لست من أهل الجبل كي أقسو عليها كما تفعلون مع بناتكم.) أشار ياسر بسبابته مستنكراً (لا تجمع الناس في كفة واحدة، أما أنت فربيت ابنتك لتنصب نفسها محامية عن كل مظلوم وصنعت منها جمعية كاملة للدفاع عن حقوق الإنسان، لذا أستغرب اختيار تخصصها، لقد ظننت أنها ستمتهن المحاماة.) أخذ الملفات منهيا الحديث بقوله وهو ينصرف (أحمد الله على ذلك، فالإذاعة أفضل بكثير من المحاماة، عن إذنكما.) حرص ياسر على المسافة البعيدة نسبيا بينه وبين مكتبها بينما يسألها بتهذيب (كيف وجدتِ العمل؟) ردت عليه بخفوت دون أن تنظر نحوه (جيد الحمد لله.) صمت وظل واقفا مكانه، إحدى يديه في جيب سرواله، والأخرى مشغولة بحك جانب لحيته وكأنه يفكر في شيء ما ثم قال لها (أنا اثق بالسيد عمر، رجل أمين وطيب المعشر وسيعلمك كل ما يخص العمل.) هزت رأسها بخفة فتنحنح ينصرف بعدما تفوه بتحية مقتضبة، متسائلاً بحيرة من أمره عما يهمه في غموض شخصيتها، والأهم من ذلك؛ لماذا دائما عقله يظل يذكره بزوجها؟!
***
(منزل آل عيسى)
تخطوا إيجة جيئة وذهابا وكأنها على صفيح ساخن، وقلبها ينبض بارتعاش يكاد يتوقف (إيجة ...اهدئي سيكون كل شيء بخير بإذن الله.) نطقها الحاج مهادناً يستجير من شر ما يعلم وما لا يعلم، فتوترت إيجة بينما شمّة تبتسم ساخرة، فتزجرها الأولى بنظرة حانقة، فتمط الأخيرة شفتيها بتجاهل ممتعض. تحدث عيسى الذاهل من كل ما حدث وأيقظ جراحه كبقية عائلته، يقول بوجوم وحزن من أجل شقيق شغل مكانة والده الحقيقية، والتي تخلى عنها الآخر من أجل أهوائه (أنا لا أفهم ما بها حق؟ ألا يكفي ما حدث عبئاً على ظهر أخي كي تمرض زوجته هي الأخرى!؟) رمقته والدته بريبة، فقاطعه الحاج بنظرة زاجرة (العمل كله مشاكل بني، ولا تقلق! زوجته أيضا ستكون بخير إن شاء الله.) حل عليهم الصمت للحظة، قبل أن يسمعوا صوت السيارة، فأسرعوا لاستقبالهم، وكان أول من سأله بلهفة جده الناظر إليه وإلى زوجته باهتمام (كيف حالك يا ابنتي، لا بأس بإذن الله.) كان إبراهيم يجاور زوجته ووجهه يشع بنور البشرى على غير عادته، يجيب جده بسرور (هي بخير يا جدي، نحمد الله ونشكره.) استحت حق مطرقة برأسها، والحاجة إيجة تعض شفتها غيظا من تغير ابنها، ووقوعه تحت سحر الحرباء كما تظن فنطقت بدون وعي (كنت أعلم بأنها تتدلل علينا.) التفت إليها إبراهيم وقد انطفأت بسمته يعاتبها بوجوم (لا يا أمي! لم يكن دلالا، حق بالفعل مريضة.) صمتت تخفي توترها بشق الأنفس، وهو يستطرد بنبرة ذات معنى (الكدمة على جبهتها سببت لها الدوار لكن الأهم أن بدنها مرهق جداً، وبسبب حالتها المستجدة عليها أي وقوع آخر لا قدر الله قد يتسبب لها بمصيبة، فنحن ولله الحمد ننتظر طفلاً!) فغرت إيجة فمها تظن بأذنيها خلل قبل أن يهتز بدنها على إثر زغرودة أطلقتها شمة بتعمد جانب أذنها، وهي تمر جوارها ثم هتفت بفرح حقيقي (مبارك عليكم يا ولدي، أسأل الله أن يحميكم من العين الحسود.) تعالت الضحكات والتهاني، وضم الحاج حفيده بسرور يبارك له ثم عيسى الذي ملأت البسمة وجهه الضاحك كمنصف ليتأملهم إسماعيل بنظرة الرضا المغلفة بخوف حقيقي، فالجميع نسي ولو للحظة مصيبة والدهم فكيف يحافظ على استمرار فرحهم هذا؟ ولا يسمح لأي أحد بتكديره مرة أخرى!
خطا إبراهيم ووقف أمام والدته المصدومة، وقد انسحبت الدماء من وجهها، يسألها بحزن أجاد إخفاءه فظهر كجمود على ملامحه الصلبة (ألن تباركي لنا أماه؟) بلعت ريقها ترطب حلقها الجاف، متسائلة بسهو أربكه (كيف!...لكن!) (لكن ماذا يا أمي؟) (ها؟) رمقته بفجأة من كلماتها ونظرته الجامدة، فهتفت بتوتر مكشوف له (م....مبارك...لك يا ولدي، مبارك لك.) ضمته وقبلت كتفه ثم استدارت مغادرة، وهي تسحب هاتفها وحين فتِح خط مخاطبتها همست لها بذهول (صباح لن تصدقي .....حق حامل!) أما إبراهيم فقد زال عن وجهه قناع الجمود ليكشف عن حزنه الغائر حتى لاحظه الجميع، ولو كان أحداً من الخلق قد اطلع على قلوبهم، لعلم أنها اتحدت على اتفاق غير معلن بحماية فرحته وسكون قلبه، هو عماد بيتهم الذي ضحى بالكثير من أجلهم حتى منصف الغريب عليهم قرر المراقبة بعملية أكثر فعالية.
***
(منزل المرابط)
رفعت رأسها إلى المرآة، فلاح لها انعكاسها الفاضح لبشاعة حقيقتها. بياض عينيها اختلط بالحمرة واشتد بروز عروقهما، وبؤبؤيها يتزعزعان باستمرار، وشعرها تشعت بفعل كفيها حين فقدت زمام عقلها للحظة. ذاك الجنون المطبق ينتابها كل مرة تفقد فيها شيئا ما تريده وبشدة، فتتضخم داخلها الرغبة الجامحة بينما تتغذى على أنانيتها إلى أن تصبح هوساً مريضاً يفقدها رزانتها. تلفتت حولها تحدق بمعظم أثاث غرفتها على الأرض مكسور ومهشم، فارتعدت أطرافها خوفا لتهوي على ركبتيها، حاضنة رأسها بين كفيها، تطلق سراح دموعها وتنتحب بحرقة صامتة. دفعت نعيمة الباب بخوف بعد أن بلغتها الخادمة بصوت تهشم الأثاث في غرفة ابنتها، وحين نجحت بفتحه هرولت إليها لتضمها بين ذراعيها شاكرة ربها على غياب رجال العائلة عن المنزل (صباح، حياتي، ما بك بنيتي؟ تحدثي إلي ...صباح!) رفعت وجهها فجحظت مقلتاها برعب عليها وأسندتها لتتوجه بها إلى الحمام، حيث غسلت لها وجهها بالماء البارد. شهقت صباح بفعل برودة الماء على بشرتها، فهتفت والدتها بقلق (صباح أخبريني ما بك حبيبتي، ما الذي أغضبك إلى هذا الحد؟) ابتعدت عنها والتقطت المنشفة على العلاقة ثم خرجت من الحمام، فتبعتها بينما تراقب حركاتها المرتعشة، وجلست جوارها لتربت على جانب وجهها برقة (حبيبتي الغالية، ما بك؟ ماذا تريدين وآتيك به حالا.) ابتسمت صباح بسخرية قاتمة تجيبها بتهكم (أريد إسماعيل آل عيسى، هل تستطيعين إحضاره لي؟) قطبت نعيمة حاجبيها ترمق ابنتها بحيرة، فضحكت الأخرى ثم هدرت بسخط (أنا لم أعد فتاة صغيرة يا أمي، وطلباتي لم تعد دمية غالية أو حتى حيوان أليف، لقد كبرت وكبرت احتياجاتي ورغباتي! فهل تستطيعين تلبيتها يا حاجة نعيمة يا زوجة الحاج زكريا المرابط؟) هزت رأسها بلا معنى ترد عليها بارتباك (نحن نعمل على ذلك، قليل من الصبر بعد وستسير الأمور حسب خططنا.) ضحكت عالياً من جديد تعقب بتهكم (أبشرك يا حاجة نعيمة بأن لا شيء يسير حسب خططنا الخطيرة، حق حامل، وإبراهيم يغرق في حبها كل يوم كما أنه يزداد قوة، وحلم مصاهرتهم يبعد عنا كل يوم بمسافة أكبر.) عبست نعيمة تسألها بدهشة (لكن كيف؟ ألم تكن...) اشتدت ملامح صباح بظلمة الحقد تقاطعها بغل (تلك الفتاة ....أقسم ....إنها ....لا أعلم! ...هناك شيء غامض بخصوصها حتى أنني لا أستطيع تفسير ذلك.) ضمتها والدتها تهدئ من رعشة أطرافها فتقترح عليها أي شيء لتعيدها إلى صوابها حتى لو اضطرت لبيع آخرتها غفلة عن ضميرها (لمَ لا نجرب ما قالت عنه الخادمة؟! بما أن أنواع السحر الأخرى لم تنفع... دعينا نجرب الباقي.) ابتعدت عنها صباح ترمقها بهوس مريض وهي تسألها (هل أنت متأكدة ماما؟ هل سأحصل على الرجل الذي أحبه؟ لمَ لا نطلب منه سحراً يجعل إسماعيل يحبني ماما؟) هزت نعيمة رأسها بخوف حقيقي على ابنتها، فقد وضعتها على طريق لم تعد ترى له من معالم لكنها مجبرة على اتباعه إلى آخره (سأنادي على الخادمة، ولنرى ماذا لديها!)
دخلت الخادمة غرفة صباح، ترسل نظراتها هنا وهناك بتوجس، فهتفت نعيمة لتلفت انتباهها (تعالي هنا وأخبرينا عن طلبات الفقيه!) *اللقب المتداول للدجال بين الناس في بلدهم* جلست الخادمة عند أرجلهن متذللة وهي تقول لهما بحذر (سيدي الفقيه ميلود طلب مني أثر الفتاة وزوجها وكلما كان الأثر خاص مبلل بعرقهما أو ما هو أكثر خصوصية كلما كان العمل عليه محبوك وفعال، أما السحر المأكول فيضمن لكما نجاحه مليون بالمئة!) هتفت صباح بامتعاض ( عرقهما أو ما أكثر خصوصية! من أين آتيك به؟ أنت تخدعيننا!) أسرعت الخادمة مؤكدة بمكر وخبث تتخيل الكثير من المال الذي سيدخل مباشرة إلى جيبها (والدة الرجل آنستي! الناس يتركون آثارهم على ثيابهم، وهي قادرة على الحصول عليها وإن لم تجد، فقط العرق يكفي كبداية.) صمتتا تفكران والشيطان يراقبهن بلمعة ساخرة وحاقدة يوسوس ويوجه، فأضافت الخادمة بحماس خبيث لتحقق هدفها (السحر المأكول مكلف جدا، وسحر القبول أغلى!) تركزت نظرات صباح عليها، تسألها باهتمام (ما هو سحر القبول هذا؟ ولماذا هو الأغلى؟) ردت عليها بجدية متقنة وإن كان حديثها يفتقد لمنطقية الفهم (سحر القبول أن تجلعي أحداً يحبك بجنون، وهو غالي لأنه يصنع من ماء بين خلايا مخ الضبع وأشياء أخرى غريبة، يمكنك السؤال عن هذا الأمر، الجميع يعلم عنه، لكن القليل من يوثق في ذمته وبراعته!) حدقتا بها بتفكير ثم تناظرتا بينهما وتبادلتا حواراً صامتاً قبل أن تخاطبها نعيمة بعبوس آمر (نريد ذاك أيضا، هيا اذهبي إليه حالاً واسأليه ما يريده ليجهز لنا العملين بأقصى سرعة!) فانتفضت بقوة لا تصدق حظها، تقول لهما بلهفة ومقلتين زائغتين طمعا (أعرف كل شيء يريده سيدي الفقيه ميلود، بالنسبة لسحر الفراق: صورة لها وله مع أثرهما، أما سحر القبول فصورة المرغوب به وأثره.) هزت صباح رأسها، وقامت من مكانها تقول لها بتصميم وتهديد (سأحضر لك كل شيء أستطيع تأمينه، وأقسم لك، إن لم يفي بوعده سأبلغ عنكم جميعا!) ارتعدت الخادمة خوفاً لكن الطمع كان أقوى فأعمى بصيرتها قبل بصرها.
***
(مصنع المرابط)
(هل سمعت أخبار اليوم؟) سأله الحاج زكريا وهو يوقع على أوراق بسطها ياسر أمامه، فأومأ له الأخير قائلاً بنبرة يطغى عليها الاستغراب (أجل، واتصلت بإبراهيم لكن هاتفه مغلق، أظن أن هناك أكثر مما شيع عن الحادث.) أجابه الحاج بموافقة على تفكيره (وأنا أيضا فكرت مثلك! ما قيل يفيد سمعته كثيراً، لكنك تعرف البشر، ومع تاريخ والده سيربطون الأمور ببعضها.) هز ياسر كتفيه بتلقائية يعقب (أظن أنه في طريقه للحصول على مساندة الشباب وهذا هو الأهم.) رمقه زكرياء بحيرة، فاستطرد مفسراً بحسن نية (عاد إلى شارع البقالين واندمج مع الشباب واسترجع علاقاته مع أصدقائه، فبدأ الشباب بالالتفاف حوله.) سها الحاج زكرياء في ما خطط له ويبدوا أن القدر يستعجله التنفيذ قبل أن يعبس من نبرة ياسر الجدية (حاج زكرياء! هناك أمور لا أرتاح لها ...السيد عمر لاحظ هو الآخر وقد قررنا إخبارك.) قطب بتوجس، انقلب إلى ريبة لينتهي بشك شبه مؤكد فتصلبت ملامح وجهه غضباً، وياسر يشرح له كل النقاط المشبوهة بالدلائل والإثباتات، لكنه كظم غيظه، وطلب من ياسر شاكرا مجهوداته أن يمهله ليتأكد من شكوكه، بعدها سيتصرف بما تقتضيه العقوبات.
***
(نهاية الدوام)
خرج من مكتبه ليجد الغافلة ما تزال مطرقة على الأوراق أمامها مركزة عليها باهتمام، التفت إلى مكتب عمر ليجده فارغا، فخطا نحوها بينما يتنحنح ليلفت انتباهها. رفعت رأسها بحدة فاجأته وضاعفت من توجسه قبل أن تتحول إلى حيرة وخوف لا يفارقها، فخاطبها بترقب (الدوام انتهى قبل نصف ساعة، أعلم أنه يومك الأول وأنت متحمسة للعمل، لكن أظن أنه يكفيك ما قمته به اليوم.) تلفتت بمقلتيها توترا حين اكتشفت أنها تأخرت ولابد من أن زوجها ينتظرها على باب الشركة، كما أن وجودها لوحدها مع هذا الرجل بالذات يوتر أعصابها بزيادة، لا تعلم بأن لها نفس التأثير عليه. رفع يده مهادنا حين لاحظ ارتجافها ( سيدة حفصة؟ أنت ترتعدين، هل هو المكيف؟ ...أظن..) (لا تشغل بالك بها يا سيد ياسر.) اهتزت رعبا وياسر يستدير بجسده إلى المقبل عليهما لتقع عيناه على الملامح المتهكمة بسماجة منفرة رغم وسامتها (حفصة هكذا! دائما ما ترتجف كأرنب مذعور، ولا يعتمد عليها في شيء.) قامت من مكانها مسرعة لتتجنب فضيحة قد يحدثها عزيز فقط كي يذلها بينما هو يستدرك بتهكم مقيت (تتأخرين في أول أيام دوامك ...حبيبتي! يا لحماسك المبهج!) بلعت ريقها ترمي ياسر بنظرة تجمع بين الاعتذار الصامت والخوف بينما تهمس بخجل وتردد (عن إذنك سيدي.) وصلت أمام عزيز الجامد يهددها بأمر تعرفه يقينا، فتدعو ربها أن يستر عليها، وتبادل مع ياسر نظرات فيها من التحدي الكثير، ثم أومأ له دون حرف وأمسك ذراع حفصة يسحبها بحزم متملك، لمحه ياسر ولم يعجبه بالمرة، فما لمحه لتوه لم يكن تملك حب أو حتى تملك زوج لزوجته، بل شيء آخر لم يفهم كنهه، لكن نفر منه وبشدة.
ألقى بها على مقعد السيارة مستشيطاً بغضب، ثم انطلق بالسيارة كأنه لا يرى أمامه، وهي صامتة تكتفي بالارتعاد رعبا. أوقف السيارة وسحبها إلى بيتهما دون مراعاة ثم دفعها نحو بهو بيتهما وأقفل الباب بحدة زعزعت الجذران من حولهما. نظرات ياسر نحوها لا تفارق عقله المريض، كم يفقه هو تلك النظرات! لقد وقع صريع مقلتيها البريئتين، وهنها وخجلها فخ مميت يوقع أدهى العقول. أمسك رأسه بين يديه يفكر بجنون؛ ألم يكن هو من أرسلها هناك؟ إذن ما هي مشكلته؟ متأكد هو من أنها لن تجرؤ على عصيان أوامره، والطوق أحكمه حول رقبتها. انكمشت على نفسها خوفا أشعل المزيد من نيرانه، فانقض عليها ليبدأ عدوانه عليها من جديد، وكل مرة تحاول فيها التفلت منه يصفعها بقوة غضبه، واحساسه المخزي لرجولته، مهما فعل فلن يمتلكها أبداً! هي ليست له!.... علقت تلك الكلمات في ذهنه وكلما اقترب منها بعنف مصمماً على تحقيق مأربه، خانته أطرافه، وكأنها متآمرة معها فيفرغ بها فجيعة روحه المظلمة حتى يستسلم أخيرا مرهقاً وتعباً يفر الى وجهته المعتادة بعد كل محاولة فاشلة معها، كي يثبت لنفسه المريضة بأنه رجل سليم، وإنما فشله معها هي السبب الوحيد فيه تاركاً إياها خلفه تئن بألم ودعوة قد دنا أجل إجابتها؛ حسبي الله ونعم الوكيل.
***
)منزل آل عيسى)
(في غرفة إيجّة.)
جلست صباح على طرف سرير إيجة المعصوبة الرأس بطرحة سوداء، تحتها شرائح ليمون كبيرة تزين جبهتها وجانبا رأسها بشكل مضحك، متربعة على رجليها وتمسك بمنديل أبيض تمسح به أنفها من رشح وهمي. تحدثت إليها صباح بنبرة متصنعة كأنها تهدئ من روعها (لا تقلقي يا حاجة! سنجد حلا آخر.) مطّت إيجّة شفتيها ثم ردت عليها بانفعال (كيف؟ أخبريني كيف؟ إنها حامل وابني جن بها، إبراهيم آل عيسى صاحب الهيبة والرزانة، والذي يهابه أعتى الرجال تُفقده فتاة ولدت بالأمس رجاحة عقله.) عضت صباح شفتها كي لا تعود لجنونها وقد تماسكت بالكاد ثم قالت لها بمكر (لابد من أنها سحرت له، إنه شيء واضح، يجب أن تسعي لفك سحرها كي يعود ابنك كما كان.) مسحت إيجة أنفها بالمنديل ثم سألتها باهتمام (كيف ذلك؟) فردت عليها باستخفاف تغلف به ترقبها (نسأل أحداً ما مختص في أمور السحر كي يدلنا.) فأومأت لها إيجة بخوف (تقصدين فقيهاً! لا يا ابنتي! أليس قصده والتصديق به حراماً؟) زفرت بخفوت ثم اقتربت منها، تفتي بما ليس لها به علم فتُضلها كما ضلّت هي (حرام إذا كانت نيتك أذية أحدهم ولكن نحن نريد رفع الأذية عنا، وفك السحر وحماية أنفسنا، فأين الحرام في ذلك؟) قلبت عينيها تفكيرا، فأومأت لها صباح بتأكيد قبل أن تنتفض الأولى مفارقة السرير بحماس نفض عنها ما كانت تدّعيه من وهن (إذن هذه فرصتي كي أحضر ثيابهما لأن أهلها على وشك الوصول، وستظل معها ابنتهم العرجاء لكي تحرص على راحة الأميرة.) جعدت صباح جبينها بعدم تصديق، وإيجّة تردف بغل (هل تصدقين؟ فقعوا مرارتي!) ثم سحبت يديها توصيها بتحذير (هي الآن برفقتهم في غرفة الضيوف ينتظرون أهلها، راقبي مدخل سلم الدرج بحجة انتظاري، وأنا سأدخل غرفتهما!) تبعتها تبتسم بظفر؛ أخيراً شيئا ما سيسير على هواها. راقبت اختفاءها في آخر الدرج، فتسللت إلى هدفها هي الأخرى، وأسرعت على الدرج بخفة لتدخل غرفته الأولى في الطابق الثالث. زفرت بتشنج لأن الموقف لا يسعفها بتأمل المكان الراقي ببساطة أثاثه التقليدي خلاف باقي أثاث المنزل العصري كما تحب وتتمنى، ورائحة عطره تكتسح كيانها العاشق له فتعبث بمزيد من خفقات قلبها الهادر بعنف. استجمعت تركيزها لتبحث عن ضالتها، فدخلت إلى الحمام مهرولة. تفقدته فزفرت حين لم تجد ما تريده، لتنتقل إلى الخطة البديلة، وخطفت قميصا من على المشجب، اشتمته لتتأكد من عدم نظافته ثم جمعته بسرعة كيفما اتفق ودسته في حقيبة يدها، وحين فتحت الباب وجدت المعني في وجهها يهم بدخول غرفته.
تجمدت خطواته يحدق بها في قلب غرفته؛ ألا يكفيه انزعاجه من صحبتها لأمه مشككاً بنواياها، والآن يجدها في قلب خلوته عن العالم أجمع؟! لمعت مقلتاه تحت بلور عويناته الطبية بجمود، يسألها بهدوء مريب (ماذا تفعلين هنا؟) بلعت ريقها توترا في بادئ الأمر، لكنها سريعا ما تجاوزته مرغمة نفسها على الثبات وتقمص شخصيتها الجذابة، ورسمت بسمة فاتنة على ثغرها وهي تجيبه (لن أكذب عليك يا إسماعيل، لطالما تمنيت رؤية غرفتك ولم أجد يوما الفرصة المناسبة.) تكتف بينما يسألها مجدداً، دون أن يتأثر بتمثيلها المفضوح (وما الذي استجد ووفر لك تلك الفرصة؟) خانتها ثقتها الزائفة بجرأتها وارتبكت من نظراته المتفحصة لها؛ ليس كرجل بل كطبيب يسبر أغوار النفوس، فتوترت نبرة صوتها وهي تقول له بحذر (الحاجّة طلبت مني انتظارها لتحضر غرضا ما من غرفة عيسى، فغلبني فضولي ...فأنا ...أنا ...معجبة بك إسماعيل.) حاجبه الأيسر الذي تقوس بشكل طفيف كانت إشارته الوحيدة لعدم تقبل جرأتها، فتزايد لهاثها مدهوشة من نفسها أكثر منه؛ كيف نطقت بما يضني كيانها تنشد منه رداً يروي ظمأ قلبها؟ فكر قليلا وهو يحدق بعينيها بشكل زاد من توترها، ثم حاد بنظراته تجاه يدها اليسرى المرتعشة قبل أن يعود إلى عينيها مرة أخرى ينظر إليها بتركيز، فيخاطبها بنفس هدوئه البارد الحازم (آنسة صباح، أنت لست معجبة بي ... من الأفضل لك انتزاع تلك الفكرة من رأسك، والأفضل لو أمسكت قدميك عن هذا البيت، سأكتفي بتحذيرك هذه المرة لكن لو تكرر الأمر فإن رد فعلي لن يعجبك إطلاقا.) سقط عنها قناع الفتنة وكشف عن بشاعة الغضب والغرور، تجيبه بتكبر صلف بينما ترفع ذقنها (كيف تجرؤ؟ أنا صباح المرابط، وكل شباب المدينة يرتمون تحت قدمي، أولهم شقيقك الأكبر....سليل آل عيسى، وأنا رفضته من أجلك!) تنفس بعمق يلجم نفسه عن تصرف قد يندم عليه، متشبثا بشخصيته الباردة بكل ما أوتي من قوة (من فضلك غادري! وليس فقط غرفتي بل منزلي!) رفعت رأسها ترمقه بعدم اتزان لاحظته عينه الخبيرة، ثم أضاف بتأكيد (الآن ....لو سمحتِ!) تنفست بعمق ثم تحركت لتغادر الغرفة فانزوى ملتصقا بدفة الباب كي يسمح لها بالعبور، فلمح حركة والدته التي ظهرت عبر مدخل الرواق خلاف ما قالته صباح عن غرفة عيسى، لاهثة وكأنها تخفي شيئا ما (آسفة يا ابنتي، جعلتك تنتظرين، هيا بنا! لقد انتهيت من جمع الغسيل.) تسمرت قدما إسماعيل قرب باب غرفته يراقب اختفاءهما عبر مدخل الدرج، مستغربا من المشهد برمته، فيهمس بقلق هبّ بحواسه اليقظة (صدقت يا إبراهيم، الأمر خطير جداً.)
(ماذا كنت تفعلين مع إسماعيل؟) سألتها إيجة بتوجس مرتبك، وهما تجاوران سيارة صباح التي ردت عليها بحقد لم يغادرها بعد (سمعته يتحدث مع شخص ما عبر الهاتف في الطابق الثالث فأسرعت إليه، مقررة تشتيت ذهنه عنك برؤيته لي في طابق غرفته.) صدقتها بسذاجة بل ورمقتها بنظرة متواطئة ثم قدمت لها ملابس داخلية، وهي تحذرها (هذا ما وجدته في سلة الغسيل، لا أعرف كيف نسيتهم تلك الداهية؟! فهي ليست بلهاء أبداً، أظن أن مرضها أنساها، خبئيهم أسرعي!) أطاعتها صباح وهما تتلفتان حولهما قبل أن يجفلهما صوت سيارة آل طالب، فقالت لها إيجة بغل وهي ترسم ابتسامة منافقة على وجهها (ها قد جاؤوا... صبرني يا رب!) ترجلت ميمونة مبتسمة في وجه الفتاة والمرأة بنفس البسمة المنافقة، وألقت عليهما التحية فتبعتها رواح مرغمة تكتم نفورها منهما معاً في حين كان ياسر منشغلاً بإخراج حقيبة ملابس صغيرة أغلق السيارة بعدها، ورمى النساء بنظرة عابرة كتحيته الفاترة قبل أن يتقدم والده المقطب بحيرة، فقد كان مراقبا لسلوكه ما إن لمح ابنة المرابط، والتي لا يحبذ وجودها بين آل عيسى لكن ياسر فاجأه بتصرفه، فبحث قليلاً في ذاكرته القريبة ليكتشف أن ابنه اليوم ساهم على غير عادته.
***
(داخل غرفة الضيوف)
اقترب عيسى من شقيقه يهمس له بخفوت (أخي ...أريدك في أمر مهم!) نظر إليه باستجداء واعتذار (ألا يمكنك الانتظار قليلا؟ أهل حق على وشك الوصول.) ثم لمح ياسر متقدما والده يلقي عليهم السلام، فانشغلوا باستقبالهما وتبادل الأحاديث الودية وهم يدعونهما للجلوس (خيرا يا إبراهيم يا ولدي، ما سمعناه اليوم عن الجبل الأبيض.) سأله الحاج عبد الله بقلق عن الخبر الدائر على ألسِنة أهل الجبل، فرد عليه إبراهيم بود كاظما غضبه الذي همد لهيبه على يدي ابنة مخاطبه (أجل يا حاج، لقد ساعدنا الشرطة في الكشف عن مخبأ المجرمين، وقبضوا على أغلبهم بالفعل، والأهم أن مخبأهم صار مكشوفا.) ابتسم الحاج عبد الله بإعجاب وتقدير يمدح شجاعة صهره (أحسنت يا ولدي، عسى أن يخلصنا الله منهم جميعا، خسئوا عديمو المروءة!) تلك الكلمات نفذت إلى قلوب الأبناء والأب بطعنة موجعة، وإن كانت فخراً على لسان صهرهم، لكن عديم المروءة يظل من لحمهم ودمهم، ومهما تجاهلوا تلك العقدة تلتف حول كبريائهم كطوق من جمر (حفظ الله لك ياسر يا حاج عبد الله.) قالها الحاج إبراهيم مجاملة، والمعني تزعجه ذكرى وجه عنوانه الحزن، فتاة ترتعد أوصالها كل حين، وشكلها كالشاه المنقادة إلى حتفها يقفز إلى مخيلته كل حين يكدر عليه سلام نفسه.
***
(عند النسوة)
التقطت نظرات ميمونة المتفحصة لحق بحسد، بقعة حمراء متورمة على جبهتها، فسألتها بريبة (ما بها جبهتك يا حق؟ هل هي متورمة؟) تفحصتها رواح المجاورة لها فرمقتها هي الأخرى باستفسار قلق، قاطعته إيجة بنبرة جمعت بين سذاجة السرعة ومحاولة إخفاء التوتر فخرجت من حلقها كصوت احتكاك القصدير ببعضه (صدمت رأسها بالحائط... فأغمي عليها، بسبب ذلك اكتشفنا حملها ...سبحان الله.) ضمت ميمونة شفتيها تقول لها بتهكم (ما تزالين كما أنت لا ترين أمامك، وإن لم تحذري ستجهضين نفسك!) شهقت رواح تضم أختها بحماية بينما حق ترمقهن بهدوء ظاهره الصمت باطنه ذكر للرحمن، فتدخلت إيجة بنبرة مترفعة مغلفة بتهديد (أخبريها لأنها إن فقدت حفيدي إبراهيم لن يسامحها أبداً.) اغتاظت ميمونة من حديث إيجة المبطن، ورغم حاجتها للتنفيس عن حنقها وحسدها إلا أن كرهها لمن يحدثها بدونية واحتقار يشعل فتيل غضبها أكثر! فعادت إلى تفحص حق بفضول حتى لمحت يديها المتقرحتين، فشهقت بفزع تضرب صدرها باستنكار (ما بها يداك؟ يا إلهي! هل زوجناك أم أرسلناك للعمل في سراديب المعادن؟) ثم استدارت إلى إيجة التي بدت مرتبكة وشمة توجه مساعدتها وتساعدها على رص الضيافة على المائدة (ألهذا أرسل إبراهيم في طلب ابنتي؟! كي تنوب على أختها في الأشغال الشاقة؟ لا! أنا لن أوافق على هذا وسأخبر والدها.) توترت إيجة تفكر في أن ميمونة امرأة ماكرة فهمت حقيقة الوضع وستشرح لزوجها الذي لن يُقصر في تبليغ ابنها، وسيفتح عينيه على ما أخفته بمهارة، فحملت طبق الحلوى لتقدمه لها بينما تهادنها بالقول المجامل (اهدئي يا ميمونة! لا تنسي بأن لدينا مساعدات ولا نحتاج ابنتك في شيء، ابني لم يقصد سوى إسعاد زوجته بحضور أختها كي تؤنسها لا غير.) حركت شمة فمها المضموم بتهكم، وميمونة تسأل إيجة ببسمة متكبرة حين التمست توترها (بما أن لديكم مساعدات، فماذا حدث ليدي حق؟) ردت عليها بسرعة والمعنية تراقبهما مع أختها بصمت، وكأنهما تشاهدان مسرحية استُهلكت ولم تعد تليق للترفيه (أرادت أن تبرهن على جدارتها في المطبخ ولسوء حظها المسحوق الذي نغسل به المواعين أصابها بحساسية...لقد فحصها الطبيب لا تقلقي.) جحظت مقلتا شمة ذهولاً، وفمها لا يتوقف عن الدوران في كل اتجاه، تحتسب وتستجير بالله من كيد النساء في سرها. مطت ميمونة شفتيها بعدم اقتناع تقول لها بامتعاض(مممم! من يراها لا يحسبها عروسا لم تكمل الشهر بعد، إنها العين الحسود، حق تزوجت من ابن عائلة غنية، يا لحظ حق ...ويا لسعد حق وهناء حق! أصابوها بالعين فلم تستمتع حتى بأيام عرسها، أجارنا الله منهم!) هزت إيجة رأسها مؤكدة، وهي ترتشف من كأس الشاي، فقامت شمة لتخرج قبل أن تنقض على إحداهما، فتتسبب للعائلة بفضيحة لن ينسوها أهل الجبل في أي وقت قريب. قابلها إسماعيل في البهو وهي تحدث نفسها بيأس حانق (حسبي الله ونعم الوكيل، نفاق ومكر! أي عين حسود؟ وهل هناك حاسد أو شيطان غيركما! أعوذ بالله من كيد النساء!) ابتسم لها مستفسراً بمودة ومعزة يختصها بهما (ما بك يا خالة؟ لمَ تحدثين نفسك؟) تبعها إلى المطبخ وهي تقول له بانزعاج (هل تظنني جننت أخيراً لهذا أكلم نفسي؟) ضحك ببهجة روّحت عنه كآبة أفكاره قليلاً، ورد عليها بمرح (بالمناسبة يا خالة، من يحدث نفسه فهو بعيد عن الجنون، بل هو سلوك طبيعي وصحي، ومن خلاله ينظم الإنسان أفكاره ويعالجها لغويا، فيتطور ذكاؤه.) التفتت إليه تجيبه باسمة بحنو (الحمد لله، زادك الله من علمه بني.) هز لها رأسه ثم خاطبها بلطف (لم تخبريني بعد، ماذا تقصدين بكيد النساء؟) (ها؟!) توترت شمة واستدارت تنشغل بالمواعين قائلة له بتجاهل (لا شيء تحديداً، النساء على العموم.) ارتفع جانب شفتيه ببسمة هادئة ثم قال لها برجاء (أنا في حاجة لأن تخبريني إذا لاحظت شيئا ما قد يفقد أخي إبراهيم سعادته الوليدة.) نظرت إليه بحدة، فأردف بجدية (أنت منا يا خالة وتعرفين كل صغيرة وكبيرة عنا كما تعرفين العذاب الذي عاشه أخي، نحمد الله على نعمته التي أغدق بها عليه ليبتسم أخيرا من قلبه، لا نريد لفرحته أن تغتال من جديد.) شهقت شمة تدعو الله بلهفة (لا قدر الله! لا تقل ذلك بني! حفظكم الله جميعا من كل شر.) رمقها بامتنان يوصيها قبل أن يخطو مبتعدا (لا تنسي يا خالة! افتحي عينيك وإن لاحظت أي أمر شائك، بلغيني به!) راقبت ابتعاد خطواته بإشفاق تهمس لنفسها بوجوم (والدتك تطرق سمعها للوسواس الخناس، حفظكم الله من شياطين الإنس والجن.)
***
(منزل المرابط)
(هل أنت متأكد بني؟) مال الحاج أحمد ليقترب من ابنه الذي قال له بتأكيد (أجل أبي، كل التأكيد، إنه الحل الأمثل، سأقصد بيتهم قريبا فجدها مريض جداً....بعدها أريد منك مفاتحة الحاج إبراهيم في الموضوع بشكل سري.) صمت يفكر للحظة ثم سأله بفضول (وما الذي يضمن لك موافقتها؟) تنهد زكرياء بحسرة يشوبها الندم (إذا رفضت لن أستغرب، لكن سأحاول لأنه الحل الأمثل، فأنا لن أقبل بخسارة ما حارب جدي من أجله، لن نفقد مكانتنا في هذه الجبال، وإبراهيم في طريقه لاسترجاع المنصب الذي يجعل الناس هنا يحترمون مقامنا لذا أفضل حل بعد المنصب هو نسب آل عيسى، أريد لدمائنا أن تختلط بدمائهم، وهكذا سينسى الناس غربتنا عن جبالهم.)هز والده رأسه مؤكدا ثم قال له بحذر (وماذا عن زوجتك؟ وابنتك إذا علمت هي الأخرى؟) قست ملامحه بينما يرد عليه بعبوس (نعيمة سيكون عليها التحمل، يكفي ما اقترفته يداي قبلا من أجلها، أما صباح فقد حان الوقت لتعلم.) هز والده كتفيه قائلا باستسلام (إن كان خيارك فلا اعتراض لي عليه وليقدم الله ما فيه من خير.) رفعا رأسيهما إلى المقبل عليهما بعاصفته، يقول لهما بغضب (نفذ منها سليل آل عيسى من جديد، لفق كذبة كي يرتفع بدلاً من أن يغرق في الوحل.) حدقا به مرتابين من ثورته، فسأله جده بحيرة (من تقصد يا مجيد؟) جلس على الأريكة المقابلة، يرد عليهما بغل (إبراهيم، ومن غيره؟ والده المجرم فجر الجبل الأبيض وكان من حظه غياب العمال، وليتستر على فضيحته رشى العمال بعطلة مدفوعة الأجر وادعى اتفاقه مع الشرطة للقبض على مجرمي الجبال، هل تصدقان فعلته الماكرة؟) اندهش جده بينما عمه يسأله مقطبا بريبة ( كيف عرفت بأن والده من فعلها؟) تجمدت ملامح مجيد للحظة وجيزة قبل أن يقول له ببعض التوتر (لي أعين في كل مكان يا عمي، فانا على عكسكم متيقظ لعدوي.) صمت زكرياء يرمقه بنظرات غامضة، وجده يستنكر بحنق من غباء حفيده (بحق الله أخبرني لماذا تكره إبراهيم؟ ولا تتحجج بالمنصب أو حتى رفضه لشقيقتك، لأن كرهك له قديم.) شد على شفتيه بقوة، انجلت حين سأله عمه بغموض (مجيد، ما أخبار الشحنات؟ هل كل شيء على ما يرام؟) ازداد تلبكه يجيبه بدفاع (أجل، كل شيء يسير حسب مواعيده، لماذا تسأل يا عمي؟) رفع زكرياء رأسه يضيق مقلتيه على وجهه بتفحص وتره، فقام من مكانه، قائلاً بغضب يدرأ به توتره (ابن آل عيسى قلب مزاجي!) (هذا الولد يخفي شيئا ما، أنا أعرفه كراحة يدي.) قالها الحاج أحمد لابنه الذي استقام واقفا وهو يرد عليه بوجوم (كل شيء ينكشف يا أبي مهما طال الزمن، تصبح على خير)
***
(بيت آل عيسى)
غادر أهل حق تاركين رواح لترعى أختها، التي بلغها إبراهيم كما بلغ جميع أهل البيت بأنها ممنوعة من أي عمل مهما كان تافها ثم تركها بصحبة أختها ليجتمع بشقيقه.
كان عيسى ما يزال في الشرفة الأمامية برفقة منصف وإسماعيل حين انضم إليهم إبراهيم قائلا بحزم وهو يحتل كرسيا بينهم (أخبرني عيسى، كلي أذان مصغية!) تلكأ عيسى قبل أن يبدأ بالحديث فقام منصف، يدّعي التعب (أنا آسف يا جماعة، أشعر بالتعب وأشتاق للنوم ....تصبحون على خير.) رمقه عيسى بامتنان لمحه شقيقاه وقبلاه بتفهم.
بلل شفتيه ثم بدأ حديثه بوجوم (لم أخبركما بعد بسبب الحادثة، فلم أكن مستعداً، والآن أشعر بأنه الوقت المناسب.) عبس إبراهيم معقباً ببعض العبوس (لم يعجبني إطلاقا سباقك المميت بالسيارة، ولولا الأحداث الأخيرة لأخبرت جدي لكي نمنعك من السفر مجددًا.) بلع عيسى ريقه مجيباً بتوتر (لم يكن سباق سيارات يا أخي!) هتف إبراهيم بغضب دافعه الكثير من القلق على حياة شقيقه، وإسماعيل صامت يتوقع الكثير بعد يومهم الغريب (آلات تصوير الشوارع سجلت تسابقك مع السيارة الأخرى، سباق مميت كان ليؤدي بحياتك، لا أفهم إلى الآن كيف تصرفت بتهور هكذا؟) ربت إسماعيل على يد شقيقه كي يهدأ، فصمت الأخير زافرا بتعب بينما الأول ينظر إلى شقيقه الأصغر بحنو يحثه على التحدث، فقال لهما بحزن (لم يكن سباق سيارات يا أخي بل مطاردة.) قطبا بريبة فاستطرد بنبرة مترددة وخجلة (كنت في ناد ليلي مع بعض الأصدقاء، وبينما كنا نتسامر لمحت ما أيقظ حواسي في لحظة واحدة، شاب يشبهه.... يشبهه للغاية!) رحل الخجل ليحل محله حزن صغيرٍ فقد والده في سن يصعب عليه فهم السبب (صورة طبق الأصل للرجل الذي أذكر أنه والدي حتى أنني ظننته هو لولا فارق العمر.) تنفس إسماعيل بعمق بينما العروق في وجه إبراهيم تتصلب (قتل الفضول صبري، ولم أستطع إبعاد عيني عنه فتبعته حين خرج لكن في مرحلة ما اكتشف ذلك فهرب مني، حاولت مجاراة سرعته لكن سيارتي انقلبت حين فقدت السيطرة عليها.) زفر إبراهيم باستنكار يهتف به (لماذا أخي؟... لماذا؟ ....ماذا كنت ستجني حتى إن تأكدت من أنه على صلة به؟ أو حتى لو كان هو؟ ماذا تريد منه؟) صمت عيسى يتعامل مع الألم في قلبه، فقال له إسماعيل بهدوء لا تهنأ به قلوبهم (عيسى....قد يكون شابا غريبا! الشبه قد يحدث بين أناس لا علاقة بينهم.) توقف حين أومأ له عيسى برفض، وقد تجمعت الدموع في مقلتيه رافضة التحرر من سجنها، فبلع ريقه المر قبل أن يبوح لهما (حين انقلبت بي السيارة، تشوش بصري وشعرت بدوار لكنني كنت واعيا له وهو يتفقدني، وقال لي بالحرف...) رمقاه بتركيز وهو يكمل بحرقة (هل أشبهه لهذه الدرجة أم أن الصغير يفتقد والده؟! للأسف هو لا يكترث .... يا ....أخي!) قام إبراهيم من مكانه يشعر بالغضب يكاد يفتك بأحشائه بينما إسماعيل يربت على يد شقيقه المرتعشة، ويصغي لنبرته التي تقطعت من الألم (الشاب من عمري، هل تعرفان ماذا يعني ذلك؟ أن كل ما قيل في الماضي حقيقة، لقد كان على علاقة ب .....) بتر كلمته بينما يزم شفتيه بألم، يرفض البكاء، يرفضه بشدة ومن أجل ذلك الرجل، لا، لن يفعلها أبداً! قام بحدة يقول لهما بانفعال (لا يهمني هذا الآن، لم أعد أهتم، لكنني أخبرتكما كي تبحثوا عن ابنه وبالتأكيد ستجدونه، الشرطي قال بأن أحدا ما يساعده وبما أن سيارته ظهرت في التسجيلات، الرقم سيظهر بالتأكيد، تصبحون على خير!) انصرف يخفي لمعة الدموع في مقلتيه بينما إبراهيم يتصل بطارق كي يبلغه عن المعلومات علهم يستعملون عن الأمر.
***

حق بين يدي الحق .1.سلسلة نساء صالحات..منى لطيفي نصر الدينWhere stories live. Discover now