الفصل التاسع والأخير

1K 44 6
                                    


وصلنا بفضل الله إلى ختام المرحلة الأولى من السلسلة، الفصل طويل كما العادة، وكان باستطاعتي فصله إلى فصل أخير وخاتمة لكن كيف لي أن أختم قصصا لم تنتهي بعد؟! كل ما في الأمر أن المرحلة القادمة يليق بها عنوان آخر متعلق بشخصية رئيسية جديدة والابن الثاني لعائلة آل عيسى.

***

الفصل التاسع والأخير

لا يصلح المرء حتى يترك ما لا يعنيه ويشتغل بما يعنيه فإذا كان كذلك أوشك أن يفتح الله تعالى قلبه له... الإمام مالك بن أنس.

(المستشفى)

يداها تغوصان في حجرها متكومة على أحد كراسي الانتظار؛ من يراها يظنها ساهمة مصدومة، إلا أن التي بجانبها تسمع همهماتها الخافتة، وكلما نظرت إلى كفيها المضمومين تلمح تحركهما الطفيف، فتتيقن من انشغالها بذكر الله. تنهدت رواح بتعب والتفتت لتتفقد الآخر المتجمد مكانه بملامح وجهه لا تُفَسّر، يجاوره صديقه الصامت بنفس الجمود، وماذا يقال في مثل هذا الموقف الصادم؟ وكأن المصائب اتفقت على يوم واحد لتنزل فوق رؤوسهم. تنبهت لمنصف يسألهما بوجوم (سأحضر بعض المياه، هل أحضر لكما شيئا معينا؟) أومأت له رواح رافضة بتهذيب بينما حق مستغرقة في الذكر. راقبته حتى ابتعد ثم همست لحق بأنها ستكون في الجوار، وقامت لتقترب من عيسى، ودون أن تجلس على الكرسي المجاور له انكمشت على نفسها بتردد؛ لا تنكر غضبها من والدته الحمقاء التي كانت ستنهي حياتهم جميعا بسبب خزعبلات، لكنها تشعر بمصابه بين صدمته في أمه وشقيقه الذي لا أحد يعرف مصيره إلى الآن وبسبب والده. منحت أختها مجددًا نظرة متفقدة تفكر بأنها تُظهر هدوءً وتماسكاً ظاهرياً، لكنها الوحيدة التي تعلم جيداً مدى الخوف الذي يُرعِد قلبها اللحظة. فارقت أختها بنظراتها القلقة وأعادتها إلى الرابض مكانه كمنحوتة أثرية غادرتها الحياة لسنوات بعيدة. تنحنحت كي يتنبه إليها دون جدوى يبدو لها عالقاً في بئر سحيق بعيد عنها كليا. ضمت شفتيها تبحث عن طريقة أخرى لتتواصل معه، علها تخرجه من حالته المخيفة لقلبها. رفعت كفها وقرّبتها من كتفه لتلمس أعلاها بطرف سبابتها لكنها تراجعت وهمست بدلاً من ذلك (اسمعني.) لم يجبها فزمت شفتيها وعبست حين نطق بنبرة باردة متباعدة، دون أن يتحرك عن جموده (ماذا تريدين؟) أجفلها فامتعضت بخفة تمسك بصدرها توتراً، وحين لم يضف حرفا آخر حثت لسانها لتسأله بقلق (هل أنت بخير؟) عض شفته السفلى وازدادت ملامحه جموداً مخيفاً فقطبت بريبة تردف بارتباك (كل شيء سيكون بخير بإذن الله.) رفع وجهه إلى السقف ثم تنهد، وفجأة ضحك... ضحك بنبرة بدأت رزينة لتعلو بهستيرية لفتت انتباه المارة، وحق التي تناظرت مع أختها بحيرة وتعجب ثم سكت فجأة كما ضحك، وعاد لعض شفته وهو يهز رأسه مردداً بيأس لا علاقة له بمعنى الكلمات (أجل، كل شيء سيكون بخير.) ثم قام بعنف ليختفي داخل رواق جانبي، فقالت رواح بخوف وقلق (يا إلهي! لقد فقد عقله!) (بل هو مصدوم.) رفعت أنظارها إلى منصف الذي بسط نحوها يده بقنينة ماء أخذتها منه ثم جلس يستطرد بحزن به شيء من الغضب (وأنا الذي ظننت بأنني نجحت أخيراً بوضعه على أول الطريق لكي يتجاوز مآسي عائلته، وها نحن نعود إلى الصفر مجددًا.) فغرت رواح فمها تحاول مواكبة حديثه بينما هو يكمل بسخرية وضيق (بل أسوأ، تحت الصفر.) فتحت القنينة وهي تجيبه معترفة بمؤازرة (لو كنت مكانه لفقدت عقلي، أنا حالياً أتمالك أعصابي بأعجوبة، تخيل أنت والدتك تسممك وبقية أفراد عائلتك ووالدك يقتل شقيقك.) شهقت مقشعرة من قسوة الكلمات، فشربت القنينة بأكملها، ومنصف يعقب بحزن (إنها ضربة بشعة، وبحسب معرفتي بعيسى سيتعذب كثيراً حتى يعود إلى حاله مؤخراً على الأقل.) قطبت بحيرة بينما هو يزفر بضجر، وتساءل بقلق (أين إسماعيل؟ أو الحاج إبراهيم؟ لو نطمئن على إبراهيم قد تهدأ الأمور...) عبست رواح تقول له بمقلتين لامعتين بحزن من أجل رجل أحبته في فترة وجيزة لاهتمامه بأختها ولما لمست منه من نخوة وهيبة (إبراهيم بخير أنا متأكدة.) التفت إليها منصف، فأردفت دامعة وهي تحدق بأختها (لا أستطيع التفكير بغير ذلك، لا أستطيع! لذا...) مسحت دموعها تستدرك بتصميم (هو بخير إن شاء الله، والحاجة إيجة أيضا ستكون بخير، ولن تعيد فعلتها بعد أن كادت تفقد أبناءها، وكل شيء سيتحسن بإذن الله.) ابتسم بحزن يدعو الله الإجابة (آمل ذلك حقا، سأذهب لرؤية عيسى، عن إذنك.) هزت رأسها ثم عادت لتجاور أختها تضمها بحب وتهمس لها بكلمات مطمئنة. علا رنين الهاتف فأسرعت حق تسحبه من جيبها، تهمس بلهفة تحت أنظار رواح المرتابة (إبراهيم!) وكانت تلك اللحظة التي ذرفت فيها دموعا صامتة أحرقت خديها واتسعت لها مقلتا رواح بهلع انقلب إلى صدمة حين أردفت حق بنبرة تثير الشفقة، والرأفة في آن واحد (تعال إليّ الآن! أعرف، من فضلك إبراهيم!) صمتت قليلا تنصت والدموع تسيل على خديها ثم هزت رأسها كأن محدثها يراها تجيبه بطاعة وديعة (أستغفر الله العظيم، أنا انتظرك، لا تتأخر!).

حق بين يدي الحق .1.سلسلة نساء صالحات..منى لطيفي نصر الدينWhere stories live. Discover now