الفصل السابع 🍁

7 1 0
                                    

الفصل السابع

حينما تواجه الكثير من الضغوطات في حياتك اهرب إلى حيث تأخذك قدماك دون النظر لأي شئ قد ينهيك عن فعل ذلك.. فقط افعل وبعدها عاتب.
وهي قررت الذهاب إلى أكثر مكان ترتاح فيه من وجهة نظرها علها تجد جزءًا من راحتها المفقودة هناك.
والمكان لم يكن سوى حضانة بأطراف المدينة قريبة من منزل صديقتها آية كانت تعمل بها مدربة للأطفال في وقت ما وترشيح مدربهم للمتميزين منهم لكنها قررت التوقف بعد الحادث حتى لا يُدار كل ذلك عليها بالسوء..
- أخبارك يا رؤى يا بنتي!
قالها الحارس بحنان وهو يقترب منها بعدما لمحها تهبط من سيارة الأجرة لتخبره بهدوء انها بخير مع الكثير من الامتنان لوجوده في حياتها فهو عوضها عن جزء هام افتقدته في عائلتها.
سألها عما إن كانت ترغب برؤية المديرة مع تذييل حديثه بأنها لم تأتي بعد لكنها أخبرته برغبتها في رؤية طفل بعينه وأخبرته عن اسمه قبل أن تتجه إلى مقعد قريب في الحديقة تجلس عليه ليخبرها بأنه سوف يستأذن المشرفة ويحضره لها.
وافقته وأخذت تتأمل المكان وكأنها لم تغب عنه الكثير لتستمع إلى صياح الصغير يناديها بحنان وهو يجري علينا قبل أن يرتمي بين أحضانها
- رؤرؤ وحشاني بحجم الفراشة.
ضحكت فهو يعتز بكل ما هو غير بشري مثل خالته مع اعتزازه القوي بالفراشة وجمع صور وطوابع مختلفة عنها بمساعدة والدته، لتطبع عدة قبلات متفرقة على وجنتيه قبل أن تُجلسه أمامها لتتحدث بحنان
- وحشتني اوي يا كيمو بجد.
اختتمت كلماتها وهي تمد يدها له بحلواه المفضلة ليأحذها منها وهو يبتسم بسعادة، لحظات وأخبرها بمشاغبة
- على فكرة يا رؤرؤ انا مش بحبك من فراغ.
ضحكت فهو بالفعل سابق لسنه وحديثه ذاك يدل على أنه يجلس كثيرًا مع خطيب خالته لتشعر بالاختناق فهي رغم تمرير الأمر إلا أنها لازال شعورها بكونها مهمشة يجتاح قلبها ليدعسه بلا رحمة.
تخطت الأمر وسألت ذاك القابع أمامها وهي تتلاعب بحاجبيها بمشاكسة
- وعلى كدا بقى الاستاذ كيمو بيحب رؤرؤ أد ايه؟
- أد النملة.
قالها دون تفكير لتبهت ملامحها بغير تصديق مما يقول فآخر ما كان تتوقعه تلك الكلمة لتتهجم أفكارها بقولها الهازئ "ومالك جاي على نفسك أوي كدا يا كيمو" لكنها بدلًا من ذلك أخبرته بهدوء
- وانا كمان بحبك أد النحلة.
وللعجب لم يُعلق على الأمر بل ابتسم بسعادة وكأنه أحب ذلك كثيرًا لتقضي معه بعض الوقت قبل قرارها بالمغادرة إلى وجهتها القادمة.
المواجهة إما تصيبك بالامتنان أو تحبطك دون اهتمام لكن الأكيد من كل ذلك أنك لن تخرج منها كما كنت سابقًا.
ذهبت في موعدها المحدد لرؤية طبيبها النفسي أو الشخص الذي كان سببًا في معاناتها طوال الشهور الماضية لتجده بانتظارها مُرحبًا بها على غير العادة لتشمله بنظرات ممتعضة وقد قررت الهجوم لاستعادة ما سُلِب منها دون الخوف من الخسارة
- ألم تشعر بالذنب قط!
سؤال وجهته له ليتأملها قليلًا تبعها ابتسامته تجاه ما تقول وهو يشعر بأنه حوار لاستعراض وجهات النظر كما العادة ليستريح أكثر في مكانه وأخبرها بهدوء
- مرة واحدة بس لما حياتي وقفت تمامًا بعد ما خطيبتي سرقت الأبحاث وهربت.
- بالذنب دكتور سليم مش الندم.
قالتها باستهجان وهو يبتعد عن مرمى حديثها ليعقد حاجبيه بعدم فهم فيبدو من هيأتها أنها اتخذت الهجوم منهجًا لها ليستمع إلى كلماتها الناقمة وهي تخبره بغضب
- كنت السبب في الحادث ومجاش في بالك إنك تقف تشوف الكلبة اللي خبطها دي ماتت ولا لسه بتعافر.
لا يفهم..
بالفعل لا يفهم أي مما يقول لكن يبدو بأنها مخطئة في أمر ليفكر قليلًا في حديثها فعن أي حادث تخبره لكن الغمامة أُزيلت تمامًا مع حديثها عن ذاك اليوم الذي كان يطارد فيه حبيبته أملًا في اللحاق بها، يومها صدم شئ ما ولم يتوقف بالفعل لأنه كان في عجالة من أمره متعللًا بأن الشارع يغوص في العتمة بالفعل ولم يكن ينقصه حينها استقبال أي خبر آخر.
صدمة من كونها تعاني بسببه وكأنهما معلقين في رباط يجمعهما سويًا فهي عندما توقفت حياتها مثله بالضبط وكانت السبب في دوران عجلة أيامه من جديد ليستمع إلى صوتها الخانق وهي تخبره بغضب
- موقفتش يومها ليه..!
هشمت ساعة رملية موجودة أعلى مكتبه بحنق وأكملت بحزن يفوق قدرتها على التحمل
- أبحاثك كان ممكن تتعوض لكن حياة الشخص مش بتتعوض حتى لو دفعت دمك تعويض.
إقرار غلف نبرتها وهي تهم بالرحيل فلم يعد لديها طاقة في الجدال مع شخص كان السبب في كل ما وصلت إليه، لا ترغب في عتاب أو حتى اعتذار فحياتها تخطت الهاوية ببضع خطوات.
اقترب منها يحاول إيقافها وكرد فعل طبيعي منها ابتعدت عنه لا ترغب في أي مواساة لن تفيد بعد الآن
- عارف إني مهما قولت أو عملت مش هيجي حاجة جمب معاناتك يا رؤى.
- انت أناني وانا خلاص مبقتش عايزة اسمع حاجة تانية منك. 
اختتمت كلماتها وأزاحته جانبًا بعنف لتغادر بعدها المكان دون كلمة أخرى فهي بالفعل لم يعد ينقصها أي حديث عن كوب تهشم لأن المرور من فوقه لن يُخلف سوى ندبات تزيد من الوجع كما سابقيها.
أما هو فقد حاول اللحاق بها لتمنعه بغلظة بألا يحاول لأنها لن تسامحه قط على ما فعله، لن يبرر لكنه يرغب في توضيح موقفه الخاطئ من وجهة نظرها فبعدما صدمها بالفعل تلك الليلة المشؤومة غادر لكنه عاد ثانية إليها واتصل بالإسعاف ولخوفه من إلحاق الضرر بسُمعته كطبيب غادر ثانيةً دون معرفة هويتها حتى لكن عانده القدر ووضعها في طريقه بعد ذلك ولم يخمن قط أنها هي نفس فتاة الحادث.
اتصال صديقه مازن يخبره بضرورة القدوم في الحال لأجل مسألة طارئة جعله يترك كل شئ ويذهب إليه مع إرسال رسالة إلى صديقه يوسف يخبره بأهمية تواصل خطيبته مع رؤى لمغادرتها المكان وهي في حالة نفسية سيئة مع طمأنته في حال الوصول إلى أي خبر يخصها.
...................
إن لم تكن على قدر كاف من تحمل سعادتك اتركها لغيرك لأنك كائن البومة لا تعرف كيف تفرح.. 
وهو تمنى منذ زمن وحينما حانت لحظته في تقدير الوضع كما أراد دومًا شعر بالعجز من احتمالية فشله، وهو لن يتحمل الفشل في علاقة حَلِم بها منذ زمن.
راقبها من بعيد وهي تتفحص حيوانات أليفة وتطمئن على حالتهم الصحية ومباشرتهم بالتطعيمات اللازمة قبل توجيه نصائح لأصحابها بضرورة الاعتناء بهم وبنظافتهم الخاصة كذلك الاهتمام بموعد التطعيمات حتى لا يتسبب الإهمال في عواقب قد تضر المخالطون لها في المقام الأول.
أزالت القفازات الطبية وألقتها في حاوية القمامة قبل أن تقترب منه بسعادة وتخبره باستفهام
- مش إنت عندك كشوفات كتير النهاردة!
أومأ إيجابـًا وهو يمد يده بعلبة حلوى أحضرها لها خصيصًا
- كان عندي فعلًا كشوفات كتير وخلصت.
نظرت له بشك وهي تسأله عما إن كان قد فعل ما خطر ببالها للتو، ليحاول التهرب من تفحصها الذي يخترقه ويشعره بالذنب
- إنت حولت الكشوفات لدكتور تاني!
رفعة حاجب زيلت بها حديثها ليشعر بأنه محاصر، بأنه صغير ارتكب خطأ وحينما أتت والدته خاف من أن تخبرها المشرفة فتمنع عنه حلواه المفضلة كنوع من العقاب لكنها لم تمهله الفرصة الدفاع بل أكملت بهدوء منافي لكل انفعال في سؤالها السابق
- يا يوسف المريض بيبقى قدامه دكاتره كتير ومع ذلك بيجي لك إنت تفتكر ليه!
وجهت له سؤال لينظر لها بشك منتظرًا إجابتها لتهديها له على طبق الحقيقة
- لإن علاقة الثقة بين الدكتور والمريض الخاص به بتتبنى على الاجتهاد في الشغل وطريقة التكيف مع كل شخص بأسلوب راقي.. تخيل إنت بقى بطريقتك دي قولت للمريض بتاعك سوري مش عايزك أقرب حاجة هيشوف بديل ويخسف باسمك الأرض زي ما كان بيلمعه مع كل حبايبه.
- يا ساتر. 
قالها يوسف بتبرم من حديثها رغم إيمانه القوي كونها محقة تمامًا في كل حرف تفوهت به، أُعجب بوجهة نظرها ليقول بعدها مبررًا موقفه
- بصراحة إنتِ السبب.
- ودا ازاي بقى ان شاء الله.
أخبرته بحنق ليضحك على انفعالاتها وأكمل بهدوء
- لأني كنت حابب أقضي معاكِ وقت زيادة واكون بين تفاصيل يومك.
قالها بقلة حيلة لتقابله برفعة حاجب أصبحت ملازمة لها في الآونة الأخيرة وبالرغم من سعادتها بأنه يرغب في منحها مساحة أكبر بحياته إلا أنها لا تريد أن يكون ذلك على حساب عمله
- انا مش هطير يا يوسف لكن المرضى هيطيروا عادي كمان ممكن توصلني الصبح وبعد ما تخلص شغلك نتغدى سوا ونرجع البيت مع بعض.
- مع بعض.
قالها وصاحب ذلك غمزة من طرف عينه لتنظر له بحنق وهي تخبره
- اتلم.
اختتمت كلماتها ونظرت في ساعة يدها لتقول بإقرار وهي تهم بالنهوض من مكانها
- عشر دقايق هبدل ملابسي وآجي لك نخرج نتغدى سوا.
- مش محتاجة مساعدة أقدمها لك وهتكون ببلاش.
قالها موجهًا حديثه لها ونظراته تغوص في عبث بدأ يُقلقها لكنها أجابته بحزم
- سافل أوي.
غادرته لتختفي قليلًا ليستقبل رسالة صديقه ورغم شعوره بوجود خطب ما وأراد الاستفسار عما إن كانت هناك مشكلة، حاول الاتصال بسليم كثيرًا لكن الأخير لم يجيبه قط ليتأكد بأن الأمر جلل.
حينما عادت آية من الداخل أخبرها بضرورة الاتصال بصديقتها لتنظر له بشك من احتمالية حدوث شئ لكنه سرعان ما نفاه بتبرير
- عندها معاد مع سليم النهاردة ولسه مراحتش له فهو طلب مني أشوفها هتروح ولا لأ.
أومأت باقتناع وأخذت هاتفها تحاول الاتصال بصديقتها التي أجابتها بعد المرة الثالثة من محاولة الوصول إليها والإلحاح في الإجابة
- أيوه يا آية.. فيه حاجة ولا ايه!
شعرت بها تبكي رغم محاولتها في إظهار كونها بخير لتقول لها بخوف من أمر ما قد أصابها
- إنتِ كويسة يا رؤى!
أما رؤى فقد كانت تجلس على سلم البناية المهجورة وتحاول التفكير في كل شئ يحدث معاه إلا أن النتيجة دائمًا لصالح شئ لا تريد تنفيذه لأن فيه إزهاق لروحها لكنها تشعر أنه الخيار الأمثل في ظل المعمعة التي تعيش داخلها.. صدوح رنين هاتفها جعلها تحاول التماسك وحينما لم تستطع قررت عدم الرد لتلح الأخرى عليها أكثر من مرة لتؤكد كونها بخير رغم نزيفها الداخلي من فرط الحزن..
- طيب إنتِ فين!
قالتها آية بحنان لتخبرها أنها في طريقها إلى منزل جدتها الراحلة لقضاء بعض الوقت فيه ولاتفاقها مع عاملة النظافة مسبقًا بأن تأتي لفعل اللازم لتنهي المكالمة بعد عدة كلمات مطمئنة وهبطت الدرج تقف على جانب الطريق لاستقلال سيارة أجرة تَقلِها إلى وجهتها.
بعد ما يقارب النصف ساعة وصلت إلى منزل الجدة لتجد عاملة النظافة تجلس أمام الباب وما إن همت بالنداء عليها بمجرد الاقتراب منها لكنها استمعت إلى صوتها المنزعج يقول بتأفف
- مكنش ناقص غير المعاقة دي تخليني أسيب اللي في إيدي وأقعد استنى معاليها.
ابتلعت الإهانة دون حديث مع وسوسة شيطانها بأن تنهال على رأسها بعكازها الحبيب حتى تلفظ آخر أنفاسها لكن يكفيها بالفعل ما مرت به فاليوم مضغوط بالفعل ولا ينقصها عتاب تلك البلهاء على أي مما تقول وبدلًا من كل ذلك نادتها بصوت على مشارف البكاء
- آسفة بس الطريق زحمة.
اختتمت كلماتها بتوجيه نظرات متأففة جعلت الأخرى تشعر بعدم الراحة من كونها قد استمعت إلى حديثها الهاتفي لذا أخبرتها باصطناع
- ولا يهمك يا ست البنات.
فتحت لها الباب لتبدأ مهمتها كما العادة وانتظرت هي بالخارج حتى تنهي مهمتها المعهودة لكن تلك المرة بمشاعر مختلفة، نافرة، حانقة.. مشاعر لا ترغب فيها بإتمام أي شيء سوى المجازفة بكل ما تملك أملًا في تذييل كلمة النهاية.
بعد ساعتين خرجت لها عاملة النظافة تلهث بتعب وهي تخبرها بهدوء
- خلصت تنضيف..
لحظات صمت لم تدم طويلًا بينهما لتكمل بروتينية بحتة
- تحبي أحضر لك حاجة للغدا!
عرض قابله نفور نفس وابتسامة مجاملة رُسمت بحرفية على شفتيها وهي تجيبها بمودة زائفة
- تسلمي يارب بس هبقى اتغدى في المطعم.
تفهمتها قبل أخذ حسابها وودعتها بقولها
- لو احتاجتِ حاجة رني عليا هبعت لك حد من ولادي بها.
حنان استشعرته لكن داخلها لم يهضمه قط بل لفظه بعيدًا عنها لذا ابتسمت لها بمجاملة قبل أن تدلف إلى داخل المنزل.
أخذت تغلق النوافذ كلها وكذلك الإضاءة لتستند على أحد أعمدة المنزل تضم ساقيها إليها، نكست رأسها لأسفل وأخذت تتذكر كل ما حدث معها بداية من حديث زوج والدتها معها، مرورًا بمشكلتها مع صديقتها وانتهاءً بمواجهتها لطبيبها العزيز.
ضغطت بيدها على رأسها بقوة وهي تشعر بأنها على حافة الانهيار.. ربما إن كان الوقت مناسب لقررت توديع هذه الحياة دون ذرة ندم لكن ما باليد حيلة.
عقلها زخم بالكثير لكن داخلها يئن من كثرة ضغوطاتها وكأن كل شيء قد اجتمع على كسرها اليوم دون مراعاة لحالتها تلك.
انتشلت صورة جدتها الموضوعة بالأعلى لتخبرها بعيون دامعة
- ليه سبتيني لوحدي يا أمي.
لقب أطلقته عليها ولازالت تخبرها به حتى بعد وفاتها لأنها رأت مشاعر الأمومة منها لا من السيدة التي أنجبتها وكأن الأمومة ليست علاقة بيولوجية بل ود ورحمة بين جميع أطرافها لضمان وجود أطفال أسوياء نفسيًا.
- أنا من غير وجودك ولا ليا أي قيمة.
واختتمت كلماتها ببكاء مرير تتذكر فيه معاناتها بعد وفاة جدتها، تخبر نفسها بأنها كانت بخير في وجودها وتدمرت نهائيًا بعد أن غادرتها..
فقدت نفسها وروحها..
فقدت حلمها وشغفها..
فقدت جل ما تملك والآن تدفع ثمن كل ذلك برحابة صدر..
وكأن جدتها كانت الوطن وبموتها انهار عالمها دون أن تعي كيف حدث هذا لكن ما تعرفه حقًا بأنها افتقدتها واشتاقت كثيرًا لحنانها..
لوعة اشتياق دامت لوقت ليس بالهين والآن كل ما حولها يجبرها على السير مع التيار حتى لا تنكسر شوكتها لكن كيف وقد انكسرت أحلامها سابقًا دون تنبيه أو إنذار واليوم تشعر بنفس المرار دون تجميل..
طرقات عنيفة على باب المنزل جعلتها تضع الصورة جانبًا تحاول استيعاب هوية الطارق، فلا أحد زارها هنا منذ زمن سوى مدرستها من أيام طفولتها، تنهدت بتعب وأزالت دموعها قبل أن تذهب في اتجاه الباب لتفتحه، تفاجأت بآخر شخص على وجه الأرض أن يكون أمامها لتستمع إلى ضيفتها وهي تخبرها بهدوء
- وحشتيني أوي يا رؤى.
نظرات استخفاف منها لصاحبة صوتٍ تذكرت للتو بأن لها ابنة محتها من صندوق ذكرياتها بمجرد تخليها عنها وزواجها من آخر ظنته سيكون السند، ابتسمت بسخافة وهي ترى الأخرى تتجه نحو النافذة لفتحها في نفس الوقت الذي تخبرها فيه بلوم
- ليه قاعدة في الضلمة حبيبتي!
لم تعطها جوابًا يشفع لها بل اتجهت إلى أقرب أريكة وارتمت فوقها بتعب دون التعليق وكأن ما يحدث حولها الآن عرض حي من مسرحية اقتنصت فيها دور المشاهد، لاحظت تحرك أمها إلى الباب ثانيةً تجر حقيبة سفر على ما يبدو أن بها ملابسها، حقيبة لم تشغل بالًا لوجودها قبلًا لكنها لاحظتها الآن، ركنتها الأم جوار باب الغرفة الرئيسية وبعدها اتجهت سمية إلى ابنتها تجلس على مقعد مقابلٍ لها وهي تخبرها باستعلاء
- كنت فاكراكِ مش في البيت يا رؤى بس قابلت الشغالة وقالت لي إنك هنا.
لم تنظر نحوها قط بل أغمضت عينيها بتثاقل وهي تشعر بصداع يكاد يفتك رأسها من كثرة الألم، تنهدت بضيق وأخبرت أمها بنفاذ صبر
- دا بيتي ومفروض أكون فيه في الوقت اللي يعجبني.
صمتت لحظات وأكملت بعدها بلامبالاة ساخرة
- ولا لازم أخد إذن منك وانا جاية بيتي!
نبرة باردة استشعرتها سمية من حديثها مع ابنتها لتخبرها بثبات جاهدت في اصطناعه حتى لا تنفلت أعصابها أمام كتلة البرود الجالسة قبالتها
- مش حوار إذن يا حبيبتي بس لازم يكون معاكِ حد هنا..
صمت للحظات تبعه قولها بهدوء حذر متممةً باقي حديثها السابق
- مينفعش تكوني هنا لوحدك.
ابتسمت تلك الممددة على الأريكة قبل أن تجلس بتكاسل وهي ترفع أحد حاجبيها بدهشة مما تسمعه لتقول بعنجهية لا تليق إلا بها
- وايه الجديد يعني ما أنا طول عمري لوحدي..
ثم عادت لوضعيتها السابقة لكن تلك المرة بوضع وسادة على رأسها وكأنها تُنهي ذاك الحوار العقيم من وجهة نظرها، فهي حقًا لا تريد الانجراف مع سيل ذكريات جاهدت على رأبه طويلًا وإن انفتح فلن يفوح منه سوى رائحة عطنة مثل روحها تمامًا.
أما والدتها -السيدة سمية كما تلقبها ابنتها- فشعرت أنها في حالة تأهب لبدء مشاجرة ربما يخسر كلاهما إلى الأبد، ورغم وسواسها بألا تنجرف مع التيار إلا أن كبريائها عندها وجعلها تخبرها بنفاذ صبر
- إنتِ اللي اخترتي تبقي لوحدك..
وابتسمت بعدها بمرارة وكأنها تخبر سيدة أخرى عما حدث سابقًا مع ابنتها لكن وللأسف لم تستطع إكمال حيل خداعها فالقناع حين يحين وقت السقوط فلا مفر منه وأكملت بعناد تحاول حشر مبرراتها بين ثنايا عقل الأخرى
- مفيش حد أجبرك على حاجة.
وصمتت بسكون لتبهت ملامحها حينما ارتفع صوت ضحكات رؤى -بعدما أزاحت الوسادة جانبًا- بسخرية مما قالته وهي تخبرها بنبرة هازئة
- هو الكلام دا بجد؟
تبعت كلماتها بإطاحة كوب على الطاولة أمامها وهي تكمل بغير تصديق
- طيب قولي الكلام دا لحد غيري جايز كان يقتنع إنما أنا كنت بشوف وبسمع كل حاجة..
حاولت التماسك من ألا تنهمر دموعها أمام تلك القابعة أمامها لتخبرها بإقرار دون تزيين أو تجميل
- أنا كنت عبء في حياتك علشان كدا قررتي تتخلي عني، كنت شوكة في حياة جوزك علشان كدا كان بيسم حياتي بكلامه.. وأخيرًا كنت واحدة ملهاش هوية في حياة بناته أو بمعنى أصح ضيفة..
لم تمهلها الفرصة للتحدث أو الدفاع عن نفسها بل أكملت بصراخ وهي تشمل والدتها بنظرات تقتل لا تُدمي
- كان نفسي تنصريني مرة قدامهم حتى لو بالكذب إنما إنتي كان كل اللي يهمك في الدنيا أسرة بس للأسف معادلتك طلعت خسرانة.
صمت والدتها أمام سيل اتهاماتها تلك بالنسبة لها غير مبرر، كان يمكنها أن تثور على كل ما تقول لكن وعلى عكس المتوقع صمتت مذهولة وكأنها تنفي عن نفسها تلك التهمة الشنعاء، لحظات توتر الجو حولهما وبادرت الأخرى بمهادنة
- أنا عارفة إن طليقي كان صعب في حقك.
وتابعت جمود ملامح الأخرى إلا من ابتسامة ساخرة شقت شفتيها بلامبالاة لتكمل بهدوء
- بس إنتِ مكنتيش عاطية له فرصة يعبر عن مشاعر الأبوة ناحيتك.
- جوزك..
صمتت لحظات بعدما قاطعت تلك الواقفة أمامها لكنها أخبرتها بسخرية حادة
- أقصد طليقك كان عايز خدامة لبناته وبس.
تلك الحقيقة التي استنتجتها ابنتها أصبحت واضحة كوضوح الشمس في كبد السماء لكنها على ما يبدو لم تدرك ذلك كما أنها لم ترغب على أن تظهر بالمخطئة من وجهة نظر ابنتها لتقول بهدوء مبرر لموقفها الحرج
- وانا كنت عايزة سند في حياتي.
- علشان كدا كنتوا كابل لايق وعارف المنفعة اللي عايزها من التاني.
قالتها بسخرية لتنتفض سمية من مكانها وتتحرك نحوها، وداخلها بركان يود أن يثور لكن كيف وابنتها لا تسمح لها بأي شيء سوى الظهور بمظهر الأم السيئة وكفى، انتلشتها أمها لتقف أمامها وهي تهزها بعنف كمحاولة منها لإفاقة تلك البلهاء مما هي فيه أو إخراسها في قاموس رؤى نفسها، ابتسمت ببرود حينما استمعت إلى كلام والدتها وهي تخبرها بغضب
- اتجوزته علشانك ودفعت من عمري سنين علشان يكون لكِ أب تتحمي فيه من الزمن.
- وهو بصراحة كان نعمة الأب.
سخرية تسربت من بين شفتي رؤى وتشربتها الأخرى بتماسك حتى لا تنجرف مشاعرها أمام تلك الحمقاء الصغيرة لتكمل ابنتها حديثها بهدوء
- كنتِ محتاجاه في حياتك إنتِ لكن أنا من أول يوم كنت رافضة الموضوع وإنتِ محترمتيش رأيي.
اختتمت كلماتها وهي تحاول التملص من بين قبضتي والدتها لتتجمد يديها مكانهما حينما استمعت إلى أمها تخبرها بغضب وكأنها لم تعد تستطيع التحمل
- أنا عرفت ليه هو كان بيكرهك لإنك بتحللي وتفسري كل رد فعل على مزاجك علشان كدا بقيتي منبوذة منهم في البيت.
لو كانت الكلمات تقتل لكانت رؤى في عِداد الموتى الآن فوالدتها التي من المفترض أنها سندها في الحياة تخبرها بكم هي سيئة في نظر الجميع لكن من وجهة نظر نفسها هي الضحية ولن يثنيها أحد عن ذلك
- وفيها ايه لما كنتِ اتخليتِ عن البالية كان زمانك دلوقت مركز كويس مش عارجة ماشية بعكاز لا لاقية شغل ينفعك ولا زوج يسترك.
اختتمت كلماتها بتحرير قبضتيها من على يدي رؤى لتبتعد عنها الأخرى مسافة لا بأس بها وكأنها تنأى بنفسها بعيدًا عن سهام غدر سُددت لها من الأقربون ولسان حالها يردد لوالدتها قبل روحها بهدوء حذر وكأنها في عالم آخر غير الموجود به والدتها
- عمره ما كان بيتعامل معايا على إني بنته.. عمره ما حبني من الأساس، كان شايفني بنت مراته وهدمر تربيته..
صمتت قليلًا ونظرت إلى والدتها تخبرها بنبرة عالية لما توصلت إليه
- افهمي هو عمره لا حبني ولا حبك لإنه كان عايز خدامة في حدود الشرع تربي له بناته وتكنس وتطبخ من غير ما يدفع مليم واحد وفي آخر اليوم يلاقي زوجة مستنياه.. غير كدا انسي بدليل إن زواجكم فشل وبقيتي مطلقة بدل أرملة.
صفعة حادة على وجنتها من والدتها جعلتها تعود إلى رشدها للحظات بعدما استوعبت فداحة ما قالته فلا يصح قط أن تتحدث مع والدتها هكذا مهما كانت المبررات أو الحزن، ابتسمت نصف ابتسامة مبتورة وتحركت تجاه الباب تنوي الخروج ورغم نداءات والدتها المتكررة إلا أنها لم تقف قط بل نظرت إليها بنظرة شمولية وأخبرتها بتقرير
- مش هرجع تاني.
ورغم انقباض قلب والدتها لكنها ظلت متيبسة مكانها دون حراك وفور أن استمعت لصوت الباب يغلق بعنف تهاوى جسدها على الأريكة تفكر في كل كلمة صدرت من كلتيهما وهي تدرك تمامًا بأن ابنتها لديها كل الحق فيما قالت لكن شيطانها جعلها تنكر كل هذا فوالدتها الراحلة نهرتها من ذاك الراجل وأخبرتها صراحةً بضرورة الرفض؛ لأن ابنتها هي الوحيدة التي ستُعاني من تلك العلاقة وفقط.
ساعة مرت دون أي اتصال من ابنتها وداخلها ينبئها بحدوث الأسوأ لتستمع إلى رنين هاتفها، نظرت إلى شاشته لتجد اسم رؤاها يزينه، ابتسمت بحنان وهي تجيب لتتفتت ابتسامتها على صخرة الواقع حينما استمعت إلى صوت ذكوري يخبرها بحرج
- صاحبة الرقم دا تعيشي إنتِ.
- إنت بتقول ايه!
قالتها بصراخ تحاول استيعاب ما يخبرها به ذاك المجهول لكن بدلًا من كل ذلك أخبرها بتفهم لحالتها تلك
- البقاء لله.
..............

نوفيلا "رُهاب"-"أسماء رمضان" حيث تعيش القصص. اكتشف الآن