الفصل الخامس
الكثير من الأحداث لم يُكتب لها النجاة في عالمنا بل الدفن تحت الثرى لأنها لم تكن سوى رقع في ثوب تمزق من كثرة استهلاكه لكن ماذا لو كان كل ما حدث معك خاصة السئ منها يُعاد بذاكرتك ألف مرة في اليوم الواحد!
يُعاد ليُحييك بعدما أهلكتك الأوهام..
يُعاد ليقضي عليك بعدما تسرب إليك الأمل مجددًا بضرورة البدء من جديد..
يُعاد ليوصمك برداء العجز دون تبرير فعلته فقط لأنك اعتدت على البقاء ساكنًا منتظرًا مَن ينوب عنك في تقرير مصيرك..
يُعاد ليُدميك ثم ينفيك خارج حدود حياتك لتصبح معتقلًا بإعصار لن يدمر سواك فهنيئًا لك الألم.
وهي قررت أن تُعافر حتى تخرج من إعصار سلب منها كل شيء حتى قوتها الواهية التي تحثها على بذل المزيد لتعود إلى البر سالمة ليقذفها الموج إلى حيث بدء كل شيء من طفلة في الخامسة تلهو مع بقية رفاقها في الروضة حتى قررت أن تُريهم شيء مذهل أتقنته وحدها لتخبرهم بطفولية محببة إلى الجميع علها تغيظهم بشئ تعلمه دونهم
- عرفت أعمل كدا لوحدي وإنتوا لأ.
قالت كلماتها وأخرجت طرف لسانها بغيظ تبعه نفس عميق تسرب إلى رئتيها لينعشها بحماس قبل وقوفها على أطراف أصابعها الأمامية وتتحرك أمامهم بخيلاء كطاووس يتباهى أمام نعامة بكثرة ألوانه الزاهية، رفعت رأسها بشموخ لتفعل المثل مع يدها وتدور حول نفسها عدة دورات متتالية لتتوقف فجأة متحدية إياهم بأن يفعل أحدهم ما قامت به للتو خاصةً حينما استمعت لسخريتهم منها.
تابعتها المشرفة من بعيد لتؤكد لنفسها بأن تلك الفتاة مؤهلة لتصبح راقصة بالية محترفة وحركاتها المُتقنة دليل على ذلك لتقرر الاجتماع بولي أمرها حين يأتي لاصطحابها إلى المنزل.
كانت منشغلة باللهو مع الأطفال حتى لمحت والدها من بعيد يبتسم لها لتخطو نحوه راكضة ترتمي بأحضانه في سعادة، استأذنته المشرفة بالتحدث معه قليلًا ليوافق ظنًا بأن الصغيرة تسببت في إيذاء أحدهم لكن ما لبث أن ارتاح حينما أخبرته بهدوء
- رؤى ما شاء الله موهوبة برقص البالية.
اندهش من حديثها فهو لا يعلم كثيرًا عن هذا النوع ظنًا منه بأنه يشبه الرقص الشرقي ليثور بحنق فالمشرفة تدفع ابنته إلى طريق غير الذي أعده لها قبل أن يغادر دون كلمة أخرى.
أدركت المشرفة سوء الفهم لتمد هاتفها نحوه تجبره على مشاهدة عدة مقاطع لأطفال يمارسون تلك الرقصة لينبهر من حركاتهم المتقنة وكم البراءة الذي يفوح من وجوههم تبعه تشغيل مقطع فيديو لابنته من تسجيل كاميرا المراقبة ليقرر بضرورة مساعدة طفلته فيبدو بأنها موهبة بشيء ما.
أخبرته المشرفة بأكاديمية مخصصة للأطفال وطريقة التسجيل بها مع وعدها بالتحدث مع المدرب هناك بقبول ابنته ليشكرها بامتنان قبل حمل ابنته بسعادة مخبرًا إياها بأنه سيفعل كل ما يتطلبه الأمر لتصبح مثل هؤلاء الذين شاهدهم قبل قليل مع وعدها بأنها لن تتخلى عن حُلمها مهما كانت العواقب وخيمة.
الحنين هو ما يقودنا إلى بؤرة جمعت في جعبتها أفضل ذكرياتنا لنعود إليها وقتما نشتاق، تجذبنا إليها حينما يصبح شغفنا بالسالب على مقياس السعي نحو النجاة ثم تهلكنا الدموع في تخطينا لسعادة كانت هي الونس الوحيد لأيامنا حالكة الظُلمة.
وقدمها خانتها إلى حيث موطنها الأول في اكتشاف موهبة كانت تظنها ذات أمس تحد بينها وزملائها، مرت بالفناء الخارجي رغم تغيره إلا أنه لازال يحمل الدفء بين زواياه لتتأمل نفس الزاوية التي اعتادت على الهروب إليها من زملائها.
شهقة مرتعبة فرت من بين شفتيها لوجود يد وُضِعت على كتفها بغتة، التفتت لتجدها نفس المشرفة محتفظة بملامحها الحنون رغم بصمة الزمن عليها، احتضنتها برحابة صدر لتبكي الأخرى بعجز لتخبرها المشرفة بفزع بعدما وجدتها في حالتها تلك
- فيكِ ايه يا رؤى!
تساءلت فهي أكثر مَن يعرف عما تمر به خاصةً حينما سألت مدربها إن كان بإمكانها العودة ليخبرها بالنفي فقدمها متضررة وأي حركة خاطئة قد تودي بها إلى الهلاك، يومها حاولت الوصول إليها كثيرًا لكن دون جدوى وبعدما أخذت زمام المبادرة بضرورة زيارتها تفاجأت بأنها غادرت المنزل، سألت عن عنوانها وصدمة أخرى برفضها الإفصاح عنه لوالدتها لتُصعب الأمر عليها لكنها الآن ظهرت وهذا يكفيها في الوقت الحالي، احتضنتها بحنان لتبكي الأخرى على كتفها بألم قبل تسرب كلمة واحدة من بين شفتيها
- تعبانة.
انتحبت مجددًا لتمسد الأخرى بيدها على ظهر تلك التي تبكي بحسرة وكأنها فقدت عزيز، لم تقاطعها بل انتظرت حتى انتهت تمامًا وبعدها اصطحبتها إلى المكتب الخاص بها، طلبت من إحدى الفتيات إحضار واجب للضيافة قبل دلوفها مجددًا لتجلس مقابل ضيفتها لتقول لها رؤى بعتاب بعدما حاولت التماسك
- ليه يومها قولتِ إني موهوبة وحطتيني على أول درجة من سلم شغفي.
- لأنك مميزة يا رؤى.
أخبرتها ببساطة لتبتسم رؤى بمرارة قبل تحدثها بسخرية تعليقًا عن حديث المشرفة
- لكن رؤى المميزة دي مش موجودة دلوقت.
قالتها وأدمعت عيناها غير قادرة على تجاوز معاناتها بعد لتضغط الأخرى على يدها بحنان تبعه قولها بتأكيد
- الغاية في الرحلة نفسها يا رؤى مش إني أوصل لها بس.
نظرت لها بعدم فهم لتقول بتوضيح في محاولة منها لإزالة تلك الغشاوة عن عينيها لعلها تنعم بحياة تود وأدها قبل بدايتها
- إنتِ كان هدفك إنك توصلي لحلمك في إنك تكوني راقصة بالية مرموقة، طول طريق وصولك واجهتِ صعاب وكل مشكلة واجهتك كانت شبه XP اللي بتحاولي تجمعيها عشان توصلي للمرحلة التالية لها ووصلتِ!
اختتمت حديثها بتساؤل لتنظر لها رؤى بحزن لتقول بعدها بنبرة تجاهد أن تكون متزنة
- بس مش لحقت أودع المكان دا بطريقة مناسبة بل بالعكس كنت مجبرة.
- فهماكِ.
كانت ردًا على حديث تلك الصغيرة التي تجاهد للخروج من عتمة أحلامها لكن ذاك الظلام لازال يسحبها إلى هوة لن تستطيع الهرب منها لتُكمل المشرفة بهدوء
- كل فترة يا رؤى لازم يكون عندك هدف معين ولما توصلي له بيكون معاك أهداف تانيه تقدري تحققيها.
ابتسمت لها بتشجيع قبل قولها بنبرة فخر تعتز بها إلى زائرتها المميزة وطفلتها الأولى في هذا المكان
- مش معقول هتفضلي عند نفس الهدف طول عمرك حتى بعد ما وصلتِ له.
أهدتها قطعة حلوى لتتناولها قبل قولها بتحفيز علها تنهض من ثُباتها ذاك
- اللي بينافسك هيتخطاكِ وفجأة هتكوني في القاع.
آخر كلمة أخذت تتردد بين أذنيها بتقزز من تلك الفكرة فهي بالفعل في القاع ولم تتمكن من الفرار من بين براثنه ليقطع حديثها المستنكر صوت المشرفة تخبرها
- فخورة بكِ يا رؤايا.
داعبت وجنتيها بحنان قبل قولها بنبرة ثابتة تبثها الشجاعة في المُضي قِدمًا
- فخورة بكل اللي حققتيه حتى لو كان بسيط بس بالنسبة ليا إنجاز، كل اللي طلباه منك إنك تتماسكِ ويكون عندك طموح جديد حتى لو مش بسيط من وجهة نظر أي حد بس هيكون إنجاز افتخر به لإنك تعبتِ لحد ما وصلتِ له.
- هو أنا لو مُت هلاقي حد يزعل عليا!
صاعقة من سؤالها الغير متوقع والمغاير تمامًا لما تفوهت به قبل قليل لتنظر لها بهلع وقد أخذتها خيالاتها إلى انتحار من جانب زائرتها لتقول بغضب وقد فاض الكيل من حماقتها الغير معهودة
- بتفكري في ايه يا رؤى!
حركت رأسها علامة النفي لتخبرها بعدها بهدوء
- مجرد سؤال عاطفي.
وضحكت لتنظر لها الأخرى بشك وقد بدأ صوت وسواسها يعلو بشك تجاه نوايا تلك الفتاة، تخطت الأمر لتمد يدها بألبوم صور ظلت تُجمعه خلال تلك السنوات لتقول باستفاضة عما يحتويه
- دا نوع كدا من التباهي بأولادي اللي كانوا هنا، كل واحد فيكم له مكانة تستحق إني اتابع كل اللي بيعمله بشغف وأضيفه لسجل خاص به.
نظرت لها رؤى بامتنان قبل تأملها لصورة جماعية في آخر يوم لها مع البقية في الروضة، أخذت تتأملهم جميعًا ولا تتذكر أي واحد منهم لتنتقل إلى الصفحة التالية وقد كانت تحوي بين سطورها اسم أول طفل وتاريخ ميلاده مع الكثير من الصور في مراحل حياته المختلفة حتى أصبح محاسب مرموق في أحد البنوك.
تلاه صورة فتاة دومًا ما كانت تتأفف من استخدام الجميع نفس دُماها لتفاجأ بها تدير موقع على الانترنت لبيع الدمى المميزة وكذلك ترقيها لتصبح مديرة تنفيذية لأحد الشركات المختصة بذاك النوع.
أخذت تتأمل الصور بين مبرمج في أحد شركات الكمبيوتر إلى مهندس بترول في أحد دول الخليج وصولًا إلى صورتها لتضحك على كل الصور التي اتُخذت لها في فعاليات مختلفة لعروض متنوعة لتضحك بفخر على ما وصلت إليه فيبدو بأن صورها تحتل الكثير من الأماكن لتقلب الصفحة فوجدت بعض صورها حتى صورة لها بعد الحادثة وأسفلها وُضعت علامة استفهام منتظرة خطوتها التالية، تأملت صورة الطفل في الجهة المقابلة لتضحك على وضعيته بالصورة فهو قد استند على الحائط معلقًا قدمه لأعلى ويستند على الأرض بيده، تأملت صوره وهو صغير لتشعر بأنها رأته من قبل لكن أين لم تُسعفها ذاكرتها لتشهق بفزع وهي غير مستوعبة بأن ذاك الذي صدمها وجوده في نفس الروضة هو نفسه طبيبها المعالج لتبحث عنه في الصورة الجماعية وقد تعرفت عليه فقد كان يقف خلفها ويبدو بأنه كان يجذب خصلاتها للأعلى لتغضب فهو منذ صغره يسبب لها الألم على ما يبدو لتتفوه بحنق
- سليم.
تأملت صورته الحديثة ومنقوش أسفلها بأنه حصد جائزة علمية عن بحثه ما قبل الأخير لتقرأ المزيد عنه وشعور الفخر لازال يجتاحها لأجله، تنهدت بخفوت قبل أن تتمنى له دوام نجاحه مادام يستطيع.
قضت بعض الوقت مع مشرفتها لتغادر المكان بعد وعدها بأنها ستفكر في حديثها جيدًا ولن تتنازل عن حلم جديد تشيده بعزيمتها مع وعد آخر باللقاء مجددًا وقضاء المزيد من الوقت معها.
بعض الذكريات قد تسحبك إلى تفاصيل لم تلاحظها قبلًا لأنك كنت منشغل الذهن في التفكير بكيفية الوصول لشيء آخر دون النظر لسواه.
**********
إن لم تكن شجاعًا كفاية للتمسك بمَن تحبه فلا داعي للندم لو فقدته.
قانون ربما تغافلنا عنه في زحمة حياتنا حتى باتت أيامنا شبه متشابهة في روتينها محملة بالهموم كل يوم لكن يبقى إنجازك الوحيد هو عدم تخليك عما أردته دومًا حتى لو كان مُضرًا فيما بعد يكفي تلك النشوة التي تملكت منك وقت الظفر به وما قبله لا يهم مهما كان الثمن.
ويوسف ليس بجبان للتخلي عن عشقه بعدما وضعه القدر أمامه ثانية لتتقاطع دروبهما بعدما كانت متوازية وفي القريب العاجل سوف تتلاشى تلك الحواجز بينهما ليصبح درب واحد يسيران فيه سويـًا متعانقي الأيدي.
تحدث مع والدته في الأمر وهي بدورها اهتمت بكل شيء حتى أرسلت إليه رسالة نصية بضرورة الحضور في الموعد المحدد للذهاب وطلب يد العروس للزواج، لم يصدق الأمر حتى أقسمت له والدته بأن أمورهما تسير على ما يرام لكن وجب عليه الصمت قليلًا حتى لا تتوقف سفينته في منتصف الطريق مع وصفها بكونه بومة إن ثرثر كثيرًا عما ينتويه فلن يتحرك من مكانه للأبد.
أما آية فقد أخبرتها والدتها وشقيقتها بضرورة الحضور لحاجة مُلحة متعللة بكون الأولى مريضة ولا تقو على الخروج من المنزل، اتجهت إلى المنزل لتفاجأ بأن حضورها لم يكن سوى لاستقبال عريس سيأتي في المساء، استشاطت غضبـًا مع رفضها الأمر برمته حتى أقسمت والدتها بأنها إن قامت بفعل متهور كالعادة فلن تسامحها لتزفر بحنق مما وضعت نفسها به، حاولت الاتصال بصديقتها تخبرها بالأمر لكن شبكة هاتفها بها مشكلة كالعادة.
فتحت أحد تطبيقات التواصل الاجتماعي لتكتب لها رسالة تخبرها بالأمر، استمعت لصوت طرقات على الباب لتترك الهاتف جانبًا وتتجه نحو الخارج، قبلت الصغير باشتياق فهي لم تره منذ آخر مرة كان معها ليسألها الصغير بحنان
- مالك يا تويا!
اصطحبته للداخل ليجلسا على المقعد المتأرجح سويـًا لتخبره بحنق رافض ما يحدث
- ناني عايزة تجوزني لأي حد والسلام.
حك الصغير فروة رأسه باستغراب مما تفوهت به متحدثـًا بطفولية وكأنه سيُدلي بسر خطير
- إنتِ عارفة مين العريس يا تويا!
اندهشت من كونه يعرف هويته وهي لا لتقول باندهاش محاولة التسلل إلى خبايا الأمور التي يعرفها هو وتجهلها هي في المقابل
- مين!
- أنكل يوسف يا تويا.
قالها كيمو ببساطة لتشهق بفزع من الاسم وداخلها يخبرها بأن الصغير ربما اختلطت عليه الأمور، حاولت التفكير في الخروج من ذاك المأزق بسلام وهي تخبر ابن شقيقتها بغباء ليس بالجديد عليها
- أنكل يوسف مين!
- الدكتور.
قالها بنفس البساطة لتقسم بأنه ليس سوى مزحة من ذاك الصغير وهي لن تصدق حديثه أبدًا مهما أقسم، أعطته الجهاز اللوحي خاصتها على لعبته المفضلة قبل اتجاهها نحو الشرفة تحاول تصفية ذهنها من كل ما يعوقه من شوائب تكاد تهلكها وجواب واحد يتردد بين روحها بإصرار بأن يوسف لن يُقِدم على شيء دون إخبارها هكذا أقنعت نفسها وانتهى الأمر.
ما بين حياة تُبنى وأخرى تُدمر ظروف سهلت من تشكيلها كما شاءت وأنت لم تكن سوى مستمتع بالرحلة وحينما أوشكت على فقدان كل شيء استمعت إلى أحدهم يخبرك بصوت هازيء "عفوًا لقد انتهت فترة إقامتك معنا على كوكب السعادة" لتعود إلى أرض اليأس مجددًا باستسلام.
- أبغض الحلال إلى الله الطلاق.
هكذا اختتم بها المأذون حديثه علَّ الزوجين يعودان إلى رشدهما خاصة وأنه وجد التردد من جانب الزوج لتخبره سمية بهدوء
- بعد إذن حضرتك هتنازل عن كل مستحقاتي بس نطلق.
نظر لها زوجها بعجز فقد ظن بأن تهديدها ما هو إلا دخان في سماء حياتهما وسيزول بمرور الوقت لكنها مصرة على ذلك ليشرع المأذون في إجراءات الطلاق وما إن انتهى حتى طلب منهما التوقيع على الورقة وهكذا أصبحت مَن كانت زوجته قبل يوم طليقته الآن، انتهيا مما يفعلانه ثم أخبرته بأنها ستذهب إلى المنزل لإحضار أشيائها وبعدها تغادر، وافقها وافترقا ليغادر كل منهما حيث وجهته.
اتجه إلى مسكن ابنة زوجته ينتظرها ليتحدث معها وعينيه لا تُبشر بالخير ليراها تهبط من سيارة أجرة على مقربة منه ليذهب إليها مسرعًا قبل قوله بحنق
- عايز اتكلم معاكِ
أما رؤى فقد تفاجأت بوجوده أمامها لتفزع دقاتها بخوف من ظهوره الغير متوقع لتخبره بلامبالاة
- أظن مفيش بينا حاجة مشتركة نتكلم فيها.
- لأ فيه.
قالها بإقرار لتنظر له ببرود وملامحها توشي بلامبالاة جعلت الآخر يهتف بحنق في وجهها
- من يوم ما دخلتِ حياتي وإنتِ شايفة نفسك أحسن مننا...
- ما انا فعلًا أحسن منكم.
قاطعته بإقرار لينصدم من وقاحتها الغير معهودة لتُكمل بهدوء موضحة مقصدها وقد أخذت دفة الحديث
- بدليل إن مفروض أمشي دلوقت من غير ما أنطق حرف خاصة بعد اللي عملته آخر مرة كنت زيارة عندكم.
قالتها بغضب من تفوهه بالكثير وعدم وعيه بأنها تعلم أكثر مما يعلم هو، صمته المتسائل حثها على إكمال كل ما بجعبتها لتقول له بحنق
- من يوم ما دخلت حياتك وحضرتك شايف إني ضرر على بناتك وحاولت كذا مرة تخليني ابعد عن كل حاجة بحبها والسبب إني منفتحة زيادة عن اللزوم ودا فيه ضرر على أخلاق ولادك.
ابتسمت بتهكم قبل تحدثها باستخفاف وكأنها قد ملت منه ومما يفعله لتُكمل بغضب
- أي إنجاز ليا يتهمش وكأني طيف في حياتك مع إن كل تفصيلة لبناتك كانت باحتفال وهدايا.
ضحكت على مرارة ذكرياتها معهم فأفعاله قد استنزفتها نفسيًا حتى أصبحت بائسة حد الهلاك ولن تستطيع تعويض أي من لحظات اشتاقت فيها لعائلة تساندها، فاض بها الكيل وهو قد ضغط على لغم صبرها لينفجر في وجهه ولتحدث الكارثة.
- خليت بيني وبين بناتك حاجز إننا ضيوف في حياة بعض وبقينا كارهين نكون تحت سقف واحد والسبب الوحيد كان إنت.
قالتها وأشارت إليه ليُبهت مما تقوله واصفًا إياه بالافتراء فهي ليست ابنته ليعاملها كبناته ألم يكفيها بقائها معهم في كنف واحد أم أنها جشعة تطمع في المزيد على حساب أطفاله ليخبرها بحنق وقد مزقت شرنقة صبره برعونتها المعهودة
- ياريت كان جه خبر موتك في الحادثة عشان نرتاح منك خالص ومن أفلامك دي.
في تلك اللحظة لم تشعر بأي شيء سوى بخنجر طُعِن في منتصف صدرها ليوئد قلبها بدم بارد أو أن صاعقة ضربت أطرافها فأصابتها بالتبلد تجاه كل شيء عدا مرارة العلقم في حلقها، ابتلعت ريقها بغضب عاجزة عن وصف ما يجول بخاطرها في الوقت الراهن ليُكمل هو بغضب واضعًا الملح على الجرح دون ذرة ندم وكأنها إنسان آلي متبلد المشاعر ولا يجرؤ عن وصف ما يدور بخلده
- أبوكِ كان مسؤول عن تربيتك بس معرفش يربي وانا مش مضطر إني أربي بنت راجل تاني على حساب اهتمامي بولادي.
عند هذا الحد لم تستطع الاستماع إلى سموم حديثه لتتركه وتعود أدراجها من حيث أتت ودموعها تتسابق على وجنتيها، أرادت رؤية حياة أخرى من حديث المشرفة لكن يبدو بأن كل شيء تحطم فوق رأسها ثانية لتتراجع إلى ما بعد صفر وتلك المرة عزمت على فعلها دون تعقل.
جلست على درج أحد البنايات المهجورة تفكر في كل ما واجهته اليوم لتعلم بأنها تحملت أكثر مما ينبغي فكل أمل أهدته لها مُدرستها قابله سهم مسموم خرج من جعبة زوج والدتها ليلقى مصرعه بتخاذل.
انتبهت إلى تأخر الوقت لتعبث قليلًا بهاتفها بدهشة من عدم ملاحظة صديقتها غيابها، فتحت أحد مواقع التواصل الاجتماعي لتجد منشور مشترك بين رفيقتها بالسكن والطبيب يوسف بأنهما قد قرءا الفاتحة لتُصدم مما تراه فآية قد أخبرتها قبلًا بأنه مجرد صديق ولن تجمعهما علاقة والآن يستعدان للزفاف.
لم تُعلق على شيء وأغلقت الهاتف متأملة تلألأ النجوم تبثها همها.
عودة للعروس آية ثانية..
فقد حل المساء سريعًا لتتأنق بإشراف من والدتها خصيصًا حتى لا تدمر كل شئ كما المرات السابقة بالتأكيد، استمعت لصوت جرس الباب لتدرك بأنهم الضيوف، انتظرت حتى تأذن لها شقيقتها بالخروج لتتجه حيث الجميع، وضعت واجب الضيافة أمامهم لتنظر إليهم بصدمة فهي تعرف الجميع ليؤكد لها كبريائها بتهكم بأن الصغير كان مُحقًا.
اتخذت مجلسها جوار والدته لينظر لها بعشق غير مصدق بأن تلك اللحظة التي تمناها منذ زمن أصبحت بين يديه الآن، تم الاتفاق على كل شيء تلاه قراءة الفاتحة وإهداء العريس لعروسه قلادة تحمل نقش بأول حرف من اسميهما.
استأذن والدتها ليخرجا إلى الشرفة قليلًا ووافقت بسعادة فأخيرًا ابنتها ستتزوج من شاب تعلم خُلقه جيدًا.
وقفا متجاورين ينظران إلى بقع مختلفة وبداخلهما صخب من عدم تصديقهما بأن تلك اللحظة قد أتت ليقول لها بهمس جوار أذنها
- مبارك عليا وجودك في حياتي رسمي.
نظرت له بسعادة ولم تتحدث ليُكمل بتأكيد وكأنه بحديثه يتأكد من أنها ستُكمل بقية حياتها معه
- مبارك عليا انتِ.
- ليه معرفش بإنك جاي غير لما دخلت من شوية.
قالتها بمراوغة عله يكف من حديثه ذاك ليخبرها ببساطة بما يشعر به
- كنت عايز أشوف دهشتك لما شوفتيني وفرحتك وقت قراءة الفاتحة.
ابتسمت على حديثه وداخلها الكثير تود إخباره به لكنها لن تجرؤ على فعلها في الوقت الحالي، أخرج هاتفه والتقطا صورة معًا قبل إرسال إضافة لها على حسابها بموقع التواصل الاجتماعي وبعدها أشار إليها بكونهما قد اتخذا خطوة إيجابية نحو مستقبلهما سویًا.
دلفا للداخل مجددًا لينظر لهما كيمو ببراءة قبل قوله بتساؤل
- أنكل يوسف هيتجوز تويا بجد!
نظر له الجميع بعدم فهم ليضحك يوسف فالصغير لازال يتذكر ما أخبره بهما في المطعم من قبل ليُكمل كيمو قائلًا بحزن
- تويا بتحب أنكل يوسف أكتر من كيمو.
وانفجر بالبكاء ليضحك الجميع على حديثه قبل اقتراب آية منه تحتضنه بحنان قبل قولها بمشاكسة وهي تُزيل دموعه
- كيمو له مكانة خاصة في قلب تويا مفيش حد هيقدر يوصل لها ولا حتى أنكل يوسف.
قبلته بسعادة وهي تعلم بخيبة وصلت لخطيبها حتى لو كانت على سبيل المزاح لكنها لم تمزح فالصغير حبه بقلبها لن يتغير فهو أول حفيد بالعائلة وتعلقها به لا يقبل القسمة على اثنين ليحتضنها الصغير قبل ذهابه إلى والدته لتقترب من يوسف الذي ينظر إليها بغيرة من اعترافها لكيمو، همس جوار أذنها قائلًا بوعيد
- حسابنا بعدين.
ضحكت على حديثه المتذمر كالأطفال لتنقضي بقية الأمسية على خير، أخبرت والدتها بضرورة العودة لأنه لديها عمل في الصباح الباكر وافقت وطلبت من يوسف إيصالها فالوقت تأخر كثيرًا لعودتها بمفردها، وافقها واتجها للأسفل سويـًا بعدما بدلت ثيابها بأخرى مريحة.
أوصل والدته أولًا ليخبرها بالجلوس جواره، رفضت بتهذيب ليذهبا إلى منزلها بعدما أخبرته بالعنوان، هاتفت صديقتها تحاول إخبارها بما حدث لتفاجأ بأنها لم تُكمل كتابة الرسالة أو حتى إرسالها لتضطرب مما هي مقبلة عليه بعد قليل لتدعو بأن تمر تلك الليلة على خير، هاتفتها أكثر من مرة لكن دون رد لتعاود الاتصال مجددًا حتى تجيبها.
أما رؤى فقد عادت إلى المنزل لتُلقي بنفسها على الفراش بتعب، استمعت لصوت هاتفها يرن لكن تركته دون معرفة المتصل حتى لتضع رأسها بين وسائدها تحاول الغوص داخلهم.
أغلقت آية باب الشقة بهدوء لترى الظلام يعم الأرجاء لتدرك بأن صديقتها ربما لم تعود بعد، هاتفتها مجددًا لتستمع إلى صوت هاتف رؤى يأتي من الغرفة لتتجه إليها، أنارت الغرفة لتفاجأ بها مستلقية على الفراش لتخبرها بغضب بعدما أمرتها الأخرى بإطفاء الأضواء
- ليه مش بتردي على تليفونك.
- كان صامت.
قالتها ببرود قبل عودتها إلى وضعيتها السابقة لتستمع إلى رنين هاتفها مجددًا لتنظر بضجر إلى تلك الواقفة على الباب تخبرها بحنق
- عايزة ايه يا آية!
استقامت في جلستها لتقول بهدوء جاهدت لاصطناعه
- عندك حاجة عايزة تقوليها ولا هعرفها من على السوشيال ميديا.
تهكم صريح لتدرك الأخرى بأنها علمت بالأمر، حاولت توضيح الأمور لتخبرها بسخرية في محاولة منها لإنهاء تلك الليلة بأقل خسائر فطاقتها أصبحت شبه منعدمة
- معاد الفرح هبقى أعرفه بردوا من على السوشيال مفيش داعي إنك تقولي.
- بس يا رؤى...
لم تدعها تُكمل لتخبرها بحنق فهي غير مستعدة نفسيًا للدخول في صراع آخر مع أي شخص
- مش عايزة أعرف حاجة يا آية.
- إنتِ ليه مُصرة تكسري فرحتي.
قالتها بغضب وهي تصرخ بها حينما شعرت بأنها غير مهتمة بما يحدث معها لتؤكد لها الأخرى بسخرية وقد سأمت من كل هذا
- لإني سألتك قبل كدا وإنتِ عارفة قولتِ لي ايه كويس فمعنى إني اتفاجأ بوجود علاقة ما بينكم من غير ما أعرف مفيش لها غير تفسير واحد إنك خايفة على فرحتك مني.
أخذت عكازها تريد المغادرة فهي حتى تلك اللحظة تحاول التماسك حتى لا تجرحها بحديثها لكن سُحقًا فقد فاض كيلها لتقول بتذكر بعدما تخطتها
- فرحتك مش عايزة أكسرها زي ما إنتِ متخيلة بس تصوري تبقى صاحبتك اللي هي أقرب شخص لك اتخطب من غير ما تعرفي هيبقى رد فعلك ايه.
أخذت هاتفها والمفاتيح لتُكمل بسخرية
- وليه تتصوري أعكسي الوضع ما بينا وشوفي هيكون رد فعلك ايه.
تركتها وغادرت لتحاول الأخرى اللحاق بها تمنعها من الذهاب لتجد بأنها قد اختفت من المكان بالفعل، أغلقت الباب لتجلس أرضـًا تتوقع رد فعلها إن انعكس الوضع مؤكدة بحق صديقتها في الغضب منها، أخذت تبكي لاعنة غبائها في كل ما حدث لتقرر الاعتذار من صديقتها بعد عودتها من الخارج.
أما رؤى فقدت خرجت من العمارة بأكملها تبكي بضعف لتأخذها قدمها إلى نفس المكان المهجور، جلست على إحدى درجاته بتثاقل من كثرة ما مرت به اليوم، أكدت لنفسها بأنها تريد التحدث إلى أحدهم لتعبث في قائمة اتصالها لتجد اسم سليم، ارتعشت من فكرة مهاتفته في تلك الساعة لتقرر فعلها، طال الرنين لتستمع إلى صوته غير قادرة على الإجابة وما إن طال صمتها حتى تحدث بخفوت
- آنسة رؤى.
ارتفعت صوت شهقاتها ليقول بتساؤل محاولًا معرفة مكانها
- إنتِ فين!
أخبرته بمكان وجودها ليخبرها بأنه سيأتي إليها في الحال لكن وجب عليها البقاء في مكانها حتى يصل إليها، أخذ يتحدث معها عن كل شيء حتى لا تُغلق المكالمة، رأى طيفها من بعيد لينادي عليها بصوت فزع مما هي مقبلة عليه
- رؤى!
**********
أنت تقرأ
نوفيلا "رُهاب"-"أسماء رمضان"
Romanceماذا يحدث لو ظهر أمامك فجأة فتاة في الظلام ودون مقدمات تهوي على رأسك بعكازها ثم تخبرك بعدها بمنتهى البرود "أنها آسفة" وتهرب بين طيات الظلام كما أتت منه..