البداية ٣٦

207 12 3
                                    

عام ١٩٥٩
بصعيد مصر
بالقرب من وادى الملوك
بالجبل

بصوت هز اوصال الجبل سافرت الكلمات ....كلمات كبير العتامنة
" كيف حالك يا جازية الهربانة ؟"

وصلت  الكلمة تضرب صدرها لتخترق حلقها فأبتلعتها بشدة وأنكمش وجهها لترد
" اسمى غالية ...دور على الجازية فى مطرح تانى "

أنفرجت أسارير الرجل وجرت ابتسامة خفية لم يعهدها وجهه بعد سنوات طوال من تعبير جامد لازمه  ولكن البسمة جاءت مصاحبة لها
عبد المجيد العتمانى الرجل المهيب الجسد ...الاسمر اللون بأعين عسلية و لحية يختلط فيها الشيب بسواد قاتم ، بجسد فارع الطول ضخم بعباءته السوداء يبدو كوحش كاسر على وشك إلتهامها ، ملامح قاسية و تكشيرة وجه لا تفارقه ، عمره جاوز الخمسين و لم يتزوج الا بعد أن خط أيام و ليال فى الثلاثين ...ماتت زوجته و هى تنجب ابنتها الثانية سليمة و لم يتزوج بعدها .
الرجل الذى لم يره أحد يبتسم من قبل عمدة العتامنة  .....شيخ العرب و كبير قبيلة ولكن البسمة تولد مع الحب ....البسمة تولد رغما عن الحب أجابها
"غالية بنت العتامنة ...والجازية خليلة شيخ العرب و لو خرجت هربانة زى جطاع الطرج ...و لو كسرت كلمة كبير العتامنة"

قبل أن يكمل كلماته جاء صوتها سريعا
"الجيزة مش غصب ...اخدت العيال مالك و مال امهم ....ارضى بالى خدته يا عبدالمجيد ، ارضى و متبصش لحاجة غيرك"
رد بثبات 
"انا مباخدش عيلة و لا ببص لحاجه غيرى...انا مربى رجاله ، و أم الرجاله مرتى ، خليلتى ، حلالى على كتاب ربنا و سنة رسوله "

تسمع هذه الكلمات بشكل متكرر كل ثلاثين يوم ، تتكرر على مسامعها بشكل رتيب كلما غابت ثلاثين شمس و ثلاثين قمر حتى أصبحت نغمة رتيبة لا تؤثر لا توجع و لا تؤلم .
غالية ذات الواحد و ثلاثين عام ، الشابة الجميلة بعيونها الواسعة السوداء و بشرتها النقية الصافية كنسمة هواء ، رائحة طيبها الذى يلتف حولها كغلاف ثانى بجلبابها البسيط القطنى الذى يلامس كعب قدمها و جديلتها الطويلة التى وصلت إلى فخذها ، بثقتها التى لا تزعزع و أنفها الشامخ المنتصب كنسر
أجابت بثقة
" كسرت رقبتى قبلها "
أقترب منها بخطوات ثابتة ...عصاه تسبقه دوما تضرب الارض بثبات ...هيبته التى تحاكى هيبة الزمن ...جسده الذى يحجب الشمس رغم عمره .... أقوى من عرفت العتمانية ، اقسى من خطت أقدامه الصعيد  ...لم يهزم أبدا ...لم يناطح سيفه اليمنى أى سيف ..أصغر من تقلد العمودية وأقوى من حكم بالجنوب ....زوجها الحالى ....عبد المجيد العتمانى.

ضربات قلبها بدأت تتسارع وخطواته تقترب ..هيبته تطغى على كل ما سواها و التهديد المتواصل بوجوده حولها ، بباب خشبى يغلق ورجل يوقف حتى الهواء من أن يصل إلى صدرها ..... وصل اليها رفعت يدها تصده وهى تهمس بخوف بدء ينهش صدرها
" لا...يا عبد المجيد بينا اتفاق و كلمة و انت شيخ عرب كلمتك سيف "
أبتسم الرجل ولم يتحرك من مكانه ، أمسك بذقنها بين إصبعين و الفارق الجسدى بينهم جعلهم كطفلة فى وجه وحش ، طفلة ينتفض قلبها فزعا و جسدها ثابت ، الانتفاضة بقلبها لم تؤثر على اللمعة بعينها و لا قوتها ، تناقض مغروس بالدم ، توارثته الأجيال بجملة ، امال رقبته إلى الجانب يتطلع إلى وجهها ، جميلة غالية ....أميرة ....ملكة من ملكات الجن ....قلب ينبض و عيون تلمع و سماء صافية ....أصابت قلب شيخ العرب بسهم فكسر سيفه على وقع حركة خصرها
"  كلمة و جولتها لأجل نرضى حمدى و غيرته ، لأجل يوافج على انك تكونى على أسمى و جولت الزمن ينسيه و ينسيكى ، يكبر و يتمكن العقل منه ، جولت العشرة تحنن جلبك و يدى تلين جسمك و تفوتى الى راح و تمسكى فى إلى جاى ....بطولة شريط الجطر تمر الايام و لا بتنسى ، جولت يمكن الوحدة فى الجبل توجعك و فراجك لعيالك يمكن من جليبك فدان هم ، جولت يمكن تحسى حالك عود دره وحدانى فى غيط كمون بس انا يمكن غلطان، الوحدة بتمكنه من جنتك اكتر و اكتر كل مرة باجى بشوفه فى عينك زارع أرضه و مالى جناوية و فارد غيطانه فيكى كأنه حاضر ، كأنه موجود    "
كلماته اسكرتها .....الحديث عن عارف مسكر كالخمر التى لم يكن يشربها خوفا على عقله من الضياع .....الكلام عن عارف يحيل الأرض بساتين خضراء و شلالات ماء و شمس تتوسط كبد السماء .....الكلام عن عارف يعيد الاعياد ...يعيد الاحتفالات .....يعيد نغمة البيانو العصماء و أصابعه الطويلة الناعمة ....أظافره المنمقة المستطيلة ....عروق يده البارزة ....فنجان قهوته الصباحى و قطعة السكر التى يقطمها بين أسنانه ويذيبها بفمها فتصبح كالماء لا تسطيع أن تحكمه اصابع .
الكلام عن عارف يعيد نقاشات علمية حادة و ضيق بين حاجبين و قلم من حبر يشهره فى وجه من يخالفه الرأى يدعوه لحرب لن ينتصر فيها غيره ......
الكلام عن عارف يعيدها إلى الماء ، إلى مسبح نادى الخديو "نادى الزمالك ".....إلى الماء التى تقطر من جسده و هو يستند بذراعيه إلى حافه المسبح ....إلى زرقة عينيه و شعره الأصفر الكثيف اللامع .
إلى لهجته البريطانية المذيبة للأعصاب .....إلى فورة عشق على رمال البحر و فوقهم  السماء .
إلى الباشا و ليال الباشا و احلام الباشا.....
شعرت بملمس أصابع خشنه تجرى على عنقها فاستفاقت على اللمسة و شعور بالخزى و القرف تملكها دفعته بعيدا عنها و عادت إلى السرير من جريد النخل جلست فوقه و سألت بينما تحدق فى قدمها
"ايه إلى جابك مش معادك"
كلما شعر بأنها تستسلم أدرك حقيقة أن قلبها مع أخر ، شيخ العرب يستجير ، رجل الكهف بالاحراش يضرم النار و القلب يلين طالبا القرب بأى شكل ....الصبر نفد و القلب فاض بما فيه و انسكب و لا شعاع شمس يطلع بليله.
عشر سنوات .......و قلبها لازال كما هو ، لم يخضع ليلة لأى سلطان ، لا ضغط ينفجر و لا غناء و لا هدايا و لا منع و لا عطاء.
عشر سنوات ببيت محفور بالجبل ، تأكل القليل و تشرب ...تتحمم و تنام .....و على كتفيها معلق نسران و افقوا على أن يتزوجها  مقابل ألا يلمسها و لا يختلى بها فأعطى عبد المجيد الوعد الاول الذى لم يلتزم به فى حياته كلها ففى يوم محقق ببداية كل شهر عربى يبعث بولديها لأم درمان ليختلى هو بها و يعود كل شهر كما جاء دون أى مكسب و لكن هذه المرة مختلفة ....هذه المرة مكسبه محقق
"انا جايلك و رايد البشارة ....سعاد ربنا رضاها و جابت سليم "
دون انفعال حقيقى أو بسرور أو غبطة و بتلقائية أجابت بذوق
"مبارك "
حرك الرجل العصى من كف لكف و السعادة شرحت وجه الرجل و قسماته
"سمعت شورتك يا غالية ...... جولتيلى البت سليمة ، الراجل هو المعيوب اكمنى ديه الجوازه التالتة ليه و مخلفش من اى مرة ، طلجتها منه و شيعت جيبتلها الدوا إلى جولتيلى عليه من مصر اخدته شهر كامل و جوزتها راجل جاب الواد من اول ليلة"
ابتسمت ابتسامة لطفية .....هذه لمسة عارف و دواء من ابتكار عارف ....أثر عارف المصرى ...يغيب الإنسان و يبقى الأثر ....يغيب الإنسان و يبقى العلم  .
استأنف حديثه عندما رآها ذهبت بعيدا
"مش رايده تعرفى مين ابوه لسليم يا غالية "
لا تمتلك أدنى رغبة بالمعرفة و لا أدنى طاقة للاستماع إليه فترة أطول فهى لا تستطيع احتمال وجوده هنا مرة أخرى ، فقد اشتاقت لعارف .....اشتاقت و لم تعد تحتمل الشوق فترة أطول ...تريد أن تغمض عينيها ، تضع رأسها على الوسادة و تسبح معه فى عالم من خيال يجمعها به .
و لم يرحمها ....لا يمتلك أدنى ذوق ، تحتمله لأجل أبناءها فقط
"مالك يا غالية .....فى واحدة تبجى جاعدة مسهمة إكده بدل ما نجوم تزغرط و تغنى عشان بجت جده ....ما خلاص يا غالية راحت عليكى و بجيتى جده ولدك خلاكى مرة عجوزة كبيرة سن "
تحاول استيعاب ما يقول ، هل يسكر عبدالمجيد العتمانى ؟
"مش ناوية تنزلى معايا العتمانية تجولى لحمدى مبروك ما جالك سليم....سليم حمدى عارف المصرى "
مع مرور الأيام اعتادت غالية أن تتلقى الطعنة بعد الطعنة و تنزف الجراح فلم يعد للحياة بداخلها مكان و لكن هناك بعض الطعنات مؤلمة إلى حد أنها تجرك جرا من نور الخيال و تلقى بك فى ظلمات الواقع
"هيييه .....هييييييه ....هييييه ....تسمى واد بتك على اسم ولدى ليه يا عبد المجيد ما تسميه على اسم أبوه "
قالتها غالية و هى تستقيم منتفضة فرد الرجل عليها بثبات منقطع يحسد عليه و هدوء لم يليق يوما الا به
"ما هو أبوه يا غالية .....سليم ابن ولدك من صلبه "
خرف .....هذا الرجل اصابه الخرف ...أى صلب لأى ابن
"صلب مين .....حمدى جاب ال خمستاشر من شهرين و سعاد بتك ديه عنديها عشرين .....حمدى ده عيل .....ده لساته من ليلتين جانى و جالى يا اما خدينى انام فى خضنك ، ما عارفش انام ....خدته فى حضنى و جعدت اطبطب عليه لما اخدته النعسة  "
كانت تبكى كلما نطقت حرف سقطت دمعة ثم انفجرت عينيها بحداد و هى تربت بكفها على صدرها .
ما قالته غالية لم يتقبله الشيخ جحدت عيناه بنظرة ألتمعت فيها الغيرة واضحة و علا صوته مهتزا من القاعدة
"ايه إلى يخليكى تاخدى راجل فى حضنك يا مرة"
بخطوتين قطعت غالية المسافة بينهم واجهت بدمع تسير بضعف جمعته بكفه قوى و دسته بالتراب و لكن الوقت كان قد فات
"جول انك بتتمالت عليا يا عبد المجيد ".
هناك بعض الجمل لا يقبل بها حتى من حبيب .
رفع عصاه و ضربها بها فى صدرها مباشرة فتراجعت للخلف ولكنها استعادة توازنها سريعا وامسكت بالعصا بين كفيها و النبرة العصى استحالت أخرى مترجية
"بالله عليك ، جولى أن الحديت مألسه .....جولى انك مجوزتش ولدى الصغتر بتك الكبيرة المطلجة ، جولى انك مجوزتهوش حتى سليمة الصغيرة ، جولى أن عيالى ما بجلهمش سنة بياجوا يجعدوا معايا ، اوكلهم و اشربهم و انيمهم فى حضنى و هم بيكدبوا على و متجوزين من وراى و سعاد كمانى شايلة منيه ، طب وأدت سليمه لمحمد"
رمش فقط بعينه نافيا و أجاب بصوته الاجش
"محمد لساته مدخلش على سليمة بس جيت اجولك دخلته الخميس الجاى "
مسحت على شعرها و هى ترفع رأسها لأعلى تبحلق فى السقف الحجرى للغرفة ....السقف على هيئة قبة كقباب المآذن القديمة ، تعاريج السقف واضحة و صوت خرير الماء الزى يشق نفسه جدولا بين الصخور على جنب قاطعا طريق الى الارض يجعلها رطبة بشكل مستمر وينمو بها العشب الأخضر رغم انف الظلام الدامس منتظرا نسمات حين تفتح غالية الباب الخشبى المستدير الصغير تسمح للضوء أن يسقى زرعتها الصغيرة و قد أضحت زميلة تشاركها الحداد ....
هربت عن الحياة برغبتها ، اختبأت بغرفة محفورة فى شق جبل متطرفة ، اكتفت من الدنيا بسرير من جريد ...
الشمع الساكن بالجدران كان يرتعش معها و القنديل الكبير بالجانب شعرت أنه انطفأ ، تميد بها الأرض و لا تهدأ ......
عادت تدور حولها نفسها فى طقس جنائزى مخطوط على حائط معبد و هى تردد برأس يتأرجح يمينا و يسارا كأنما فقدت عنقها
"كتر خيرك ....دعاتنى لجوازه ....كتر خيرك يا عبد المجيد ....كتر خير الدنيا .....كتر خيرها معايا ....صغار يا ناس ...صغار يا عالم "
أمسك بها عبد الجليل يوقفها و أضحى من الصعب السيطرة على غضبه المتصاعد
"بتعددى على الرجاله و لساتهم على ضهر الدنيا ، ماهماش صغار دولى رجاله بيرعوا غيطان و إلى عنديه عصب يجتل يبجى احج الناس بالجيزة و العيال"
و من المواريث العتيقة فى دماء هؤلاء أن مصائبهم لا تنسيها إلا مصائب اكبر !
و توقفت الأرض عن الدوران لحظه و سكن العالم ثانية ، جمد كل فى مكانه ، الطيور فى السماء و الاسماك فى المحيطات و الحشرات التى تحفر الأرض توقفت ....تجمد الرجال فى المقاهى و النساء أمام الافران و رأس غالية يتلقى الطعنة التى لن تشعر بعدها بأى ألم .
الطعنة التى خدرت إحساسها إلى الأبد .
شاخت يومها غالية ألف عام فأصبحت اكبر من المعابد فى طيبة و اقدم من النيل فى مصر .
كبرت غالية حتى إذا رأيتها قلت شابة و إذا نظرت بعينها رأيت امرأة عجوز تآكل جسدها و انحلت روحها .
منذ ذلك اليوم و غالية تكبر كل يوم مائة يوم .
تحققت اول نبؤات رامية فحمدى قاتل .
أجرت جراحة لتصبح عقيم و فشلت الجراحة و أنجبت تؤام لتأتى بقاتل !
حمدى عارف المصرى هو القاتل و البقية تأتى بنسل لم تبشر فيه برائحة خير !
"لونك راح ليا كأنك موتى يا غالية ، خوفتى عشان مش عارفة جتل مين ....لكن لما هتعرفى سكينة ولدك جابت راس مين رقبتك الطويلة ديه هترفع راسك للسما .....حمدى جاب راس رزق بن غانم "
رددت بصوت باهت كلوحة قديمة
"التار"
أجابها بصوت ملاء الفخر جنباته
"مالوش تار .....رامية حلت دمه و عمدة هوارة حل دمه و أهله كلهم اتبروا منه و الحكومة جالت إلى يلاجيه يدل عليه و إلى يجدر يجتله يجتله .....حمدى رفع راسى لفوج .....حمدى شد ضهرى مرة جابلى راس رزق و التانية جابلى الولد"
صوتها الضعيف ضعف أكثر
"خابرين أنه ابن خمستاشر"
شبح إبتسامة شقت عمامة الشيخ و أجاب
" أربعةو عشرين .....حمدى عمره فى ورج الحكومة أربعة و عشرين ....مش انتى جولتيلى أنه ملوش ورج و طلعله ورج ....سننته بورقة جوازك بعرفه "
صححت دون وعى
"عارف ....عقد جوازك بعارف .....انا مخلفتش اول ما اتجوزت ....انا مخلفتش غير بعد سبع سنين "
نقطة ما فى عقلها انيرت و البرودة التى حلت بجسدها ضربها دفء سريع و الخوف بين جنباتها تبدد .....
فى لحظات الضياع التام و من النهاية تولد البداية .
و من جسد غالية المرمى على الأرض ثكلى ولدت روح أخرى ، روح لن تهرب بعد اليوم على قدر قوتها .
روح اختارت منذ ذلك اليوم أن الهروب كان خطيئتها الكبرى التى اخرجتها من الجنة ، التى أضاعت صغارها و اذا كان الشيطان اختارهم ليجاوروه لحظة سقطوه فى النار فإنها ستكون صاحبة القدم التى ستركله ليسقط بها وحده .
رفعت رأسها عن الأرض ترسم إبتسامة و مدت ذراعها تتلمس لحيته ببطء فألقى الرجل عصاه بعيدا و جذبها بقوه من خصرها فغطت وجهها بصدره تخفى علامة قرف و اشمئزاز واضحة و همست محاولة أرجاء الأمر قليلة لعل قدرها ينجيها و تموت .

إرث السمراء ....الجزء الثالث من أنين الروححيث تعيش القصص. اكتشف الآن